اجتهاده في الطاعات

للاجتهاد في الطاعات صور عدة ومظاهر كثيرة، فمن الناس من يتقرب إلى الله تعالى بكثرة السجود بين يديه والصلاة بالليل والنهار، ومنهم من يتقرب بكثرة الصيام، ومنهم من يكثر من ذكر الله تعالى، ومنهم من يتابع بين الحج والعمرة، إلى غير ذلك.
ولقد اجتهد شيخنا - رحمه الله - في جانب العبادة أيّما اجتهادٍ، على الرغم من كثرة مشاغله وتنوع مسئولياته، فكان محافظًا على الصلوات المفروضة في جماعةٍ، إلى جانب محافظته على صلاة التهجد، كما كان مكثرًا من ذكر الله تعالى، ومتابعًا بين الحج والعمرة؛ حيث بلغ عدد حجاته 52 حجة، هذا كله إلى جانب الإنفاق الغزير في سبيل الله تعالى ورعاية الفقراء والمساكين.
كل هذا وغيره جعل تلميذه الدكتور ناصر الزهراني يقول: "لقد اقتدى سماحة الشيخ - رحمه الله - بالنبي ﷺ فهو عابد من العباد، ولي من الأولياء، قدوة للأتقياء، كثير العبادة، دائم الذكر والتسبيح، سريع الدمعة، رقيق القلب، خاشع النفس ...
قال لي أحد الملازمين لسماحته في سرِّ توفيق الشيخ ونجاحه وبصيرته الثاقبة في كثير من المعاملات والآراء والمواقف، قال: ما ظنّك برجلٍ يبيت يناجي ربَّه، ويدعو، ويرجو، ويهتف، ويبكي، ثم إذا ارتفع النِّداء بادر إلى المسجد، ثم صلى الفجر في خشوعٍ وخضوعٍ، ثم أتى بكامل الأوراد، ثم أُتي له بالأوراق كلها، ثم يبدأ بقراءة المعاملات، والنظر في حاجات الناس، ثم قراءة بعض مسائل العلم، ثم قبل أن يخرج من بيته وهو في كامل طهره ووضوئه متطهرًا متطيبًا متسوِّكًا يتجه إلى الله تعالى ويدعوه أن يحفظه، وأن يُعينه، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، أليس مثل هذا حريًّا بأن يكون التوفيق حليفه، والنصر ربيبه، وأجزم أن الشيخ لو علم أنه سيموت في اليوم المحدد والوقت المحدد ما زاد في عمله شيء، فكل وقته لله، وبالله، وفي الله، ومع الله". [1]
وإننا في الأسطر القادمة سنلقي الضوء على بعض العبادات التي اجتهد فيها شيخنا - رحمه الله:

حرصه على الصلاة في الصف الأول:
لم يترك شيخنا - رحمه الله - الصلاة في الصف الأول طيلة حياته، فمنذ صغره وهو يحافظ على الصف الأول حتى عُرِفَ بذلك، وفي شبابه انشغل يومًا بالقراءة في بعض الكتب وتأخر عن إدراك الصف الأول، بل وفاته بعض الصلاة؛ فقام بعد تسليم الإمام ليأتي بما فاته، فنظر إليه الإمام - وهو قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وكان أحد مشايخه - وقال كلمةً للمصلين عن أهمية المحافظة على الصف الأول والمبادرة إلى الصلاة فور سماع الأذان، فكان مما قاله: "بعض الناس يجلس في سواليف ومشاغل حتى تفوته الصلاة"، ففهم شيخنا أن شيخه يعنيه بهذا الكلام؛ فتأثر وحافظ على المبادرة إلى الصلاة ولم يتأخر بعد هذا الموقف أبدًا، يقول سماحته: "فعرفت أنه يعنيني بذلك الكلام، فلم أتأخر بعدها أبدًا، وذلك الموقف الذي حصل لي ما أنساه أبدًا". [2]
قال الدكتور ناصر الزهراني - أحد تلاميذه المقربين: "هذا الإمام العابد لا أعرف أنني في يومٍ من الأيام رأيتُه في الصف الثاني أو الثالث، فضلًا عن رؤيته وهو يأتي بركعةٍ أو ركعتين فاتته من الصلاة، كما هو حال كثير منا اليوم، بل كان دائمًا في الصف الأول وراء الإمام مباشرةً، سواء في الصلوات الخمس أو الجمع أو الأعياد أو غير ذلك، لا أعرف في حياته أنني رأيته في غير هذا المقام الأسبق، وهذا سرٌّ من أسرار توفيق الله له، وسببٌ من أسباب البركة العظيمة في عمره ووقته وعلمه ودعوته وجهده ورزقه". [3]
وكان - رحمه الله - مُعظِّمًا لشعائر الله، فما أن يسمع الأذان حتى يترك ما في يده ويُفرِّغ نفسه لإجابة المؤذن، يقول الشيخ محمد الموسى: "كان يقطع الحديث إذا كان يتحدث ويقول لمن يُحدثه أو يُهاتفه: يؤذن؛ ليفهم محدثه أن سماحته سوف يُجيب المؤذن، بل إنه إذا أراد دخول الخلاء وسمع المؤذن وقف قليلًا ليتابع المؤذن، وإذا انتهى من متابعته وأتى بالأذكار الواردة بعد الأذان دخل الخلاء". [4]
ويؤكد هذا أيضًا الأستاذ إبراهيم الشثري الذي روى ما شاهده ذات يومٍ في مجلس شيخنا - رحمه الله - حيث قال: "كنتُ عنده في مجلسه ذات مرةٍ، فاتصل به أحدُ السائلين يريد فتوى، وفي هذه الأثناء أذن المؤذن، فقال للسائل: "الآن نتابع الأذان"، ووضع سماعة الهاتف إلى جواره، ولما انتهى من متابعة المؤذن وقول الدعاء المعروف بعد الأذان، كلَّم السائل، وأجابه على سؤاله". [5]
ويُعلِّق الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة على هذا قائلًا: "ومن خلال مجالستي له بين العشاءين: غالبًا إذا أجاب مثل هذا السائل يتجه مباشرةً إلى المسجد؛ حرصًا على التبكير، ولزومًا للصف الأول، وله في ذلك السبق العظيم، والجهد الكبير، حتى إن كثيرًا من طلبة العلم اقتدوا به في ذلك - رحمه الله". [6]
وكان يوصي العاملين معه والمرافقين له بالمبادرة إلى الصلاة، وعدم الالتفات لأي شيء يشغل عنها إذا ما سمعوا الأذان، فذات يوم كان الدكتور عبدالله الحكمي عند الشيخ، فأُذِّن للصلاة، فلم يسمع الشيخ الأذان، ولما انتهى المؤذن إذا بالدكتور عبدالله يبدأ في القراءة على الشيخ، فقال له الشيخ: لم أسمع الأذان، هل أذَّن؟ فقال: نعم، الآن أذن، فقال الشيخ: أتعمل وقد أذَّن؟! الصلاة، الصلاة. [7]

كم مرة فاتته صلاة الفجر؟
كما تقدم فإن شيخنا - رحمه الله - كان شديد الحرص على أداء الصلوات المفروضة في جماعةٍ، ولم يتخلَّف عن صلاة الجماعة حتى في أوقات مرضه ودخوله المستشفى، فكان يذهب إلى أقرب مسجد للمستشفى إن كانت حالته تسمح، فإن كان المرض شديدًا جمع مرافقيه والعاملين في المستشفى وصلى بهم.
وكان من عادة الشيخ أن يستيقظ قبل الفجر بنحو الساعة، فيتهجد ويذكر الله تعالى إلى أن يحين وقت صلاة الفجر، حيث يتوجه إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة، ولم يتغير هذا النظام طيلة حياته المباركة سوى مرة واحدة فقط، قام فيها كالمعتاد قبل الفجر، وأدى صلاة التهجد، ولكنه كان متعبًا في ذلك اليوم ولم يستطع النوم إلا في ساعة متأخرة، فلما أنهى صلاة التهجد اضطجع فأخذه النوم، ولم يكن أحد حوله يوقظه للصلاة أو يضبط له المنبه، فلم يستيقظ إلا بعدما انتهت الصلاة في المسجد، يقول الشيخ محمد الموسى: "فخرج علينا، وسأل عن الوقت، فأخبرناه بأن الجماعة قد صلوا ... وبعد أن علم أن الناس قد صلوا صلَّى، وقال للأخوين الزميلين الشيخ عبدالرحمن العتيق والأخ حمد بن محمد الناصر: هذه أول مرة تفوتني صلاة الفجر، وقد نام النبي ﷺ في غزوة خيبر عن صلاة الفجر، وأمر بالانتقال من ذلك المكان، وقال: إن فيه شيطانًا[8]

مداومته على ذكر الله:
كان ذكر الله تعالى بالنسبة لشيخنا كالهواء الذي يتنفسه، فلم يكن يتركه أبدًا، سواء في بيته، أو طريقه، أو مكتبه، أو مسجده، أو سفره، فهو دائم الذكر، حتى وهو على سرير المرض لم يدع الذكر، فمنذ أن يستيقظ من نومه قبل صلاة الفجر إلى أن ينام الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة مساءً لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، سواء بالأذكار المقيدة بأوقات مخصوصة أو المطْلَقة، أو تلاوة ورده من القرآن.
قال الشيخ خالد الشايع: "مَن كان له بعض ملاحظة للشيخ وهديه فقد كان يُلاحظ أنه - رحمه الله - لا يفتر لسانه عن الذكر أبدًا، شغوفًا بتلاوة القرآن والاستماع إليه، فكان يحافظ على حزبه اليومي من القرآن، فيتلوه في كل مناسبةٍ تُواتيه ماشيًا أو راكبًا أو قاعدًا أو مضطجعًا". [9]
فأول ما يبدأ به يومه ذكر الله تعالى؛ فحين يستيقظ لصلاة التهجد يشرع في الذكر من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، ثم يؤدي ما كتب الله له من صلاة الليل، ويظل يذكر الله إلى أن يأتيه صوت المؤذن؛ فيردد خلفه ثم يقوم إلى المسجد، فإذا أدى الصلاة جلس في مصلاه نحو ساعة يذكر الله بأذكار الصباح، ثم يبدأ أعماله اليومية المعتادة، سواء الاستماع إلى المعاملات والرسائل التي أُرسلتْ إليه؛ حيث يقرأها عليه كُتَّابُه، ويُعلِّق عليها الشيخ بما يلزم، أو إلقاء دروسه المعتادة في أيام الدروس، وهو في كل ذلك لا يغفل عن الذكر، ففي الدروس إذا ما شرع أحد الطلاب في القراءة جعل الشيخ يذكر الله تعالى إلى أن ينتهي القارئ، يقول الأستاذ فهد بن عبدالله السنيد: "لقد رأيته أكثر من مرة بعدما يصلي راتبة الفجر يذكر الله حتى يقيم المؤذن لصلاة الفجر، وكذلك رأيته أكثر من مرة في درس يبتدئ القارئ الدرس والشيخ في شغل مع الأذكار". [10]
فإذا انتهى الدرس شرع في الذكر إلى أن يعود إلى بيته ليرتاح قليلًا قبل أن يتوجه إلى مكتبه، ثم يستمر الشيخ في ذكر الله والاستماع إلى المعاملات وإنهائها إلى أن يصل إلى مكتبه، يقول محمد بن سعد الحوطي - السائق الخاص لسماحته: "سماحة الشيخ كان قدوة في كل شيء - رحمه الله، وكان لسانه رطبًا بذكر الله، وكان عند ركوبه السيارة يقوم بالسلام فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعند الخروج من البيت نقوم بإخباره أنا خرجنا من البيت، وكنتُ أسمعه يقول هذا الدعاء: بسم الله، توكلتُ على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، وعند الدخول إلى البيت كنت أسمعه كذلك يقول - رحمه الله رحمة واسعة: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى ربنا توكلنا[11].
ولا يتوقف عن الذكر عند هذا الحد، بل يستمر فيه أثناء ممارسة مهام عمله، وحتى بعد عودته إلى بيته بعد نهاية الدوام الرسمي.
يقول الدكتور ناصر الزهراني: "لقد كان الشيخ - رحمه الله - لاهجًا بذكر الله، مترنِّمًا بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، لا يفتر لسانه أبدًا، بل لقد كنت أرمقه وهو يرد على المتصلين فأراه في أثناء إنصاته لحديث المتصل يلهج بالذكر، ولقد كنتُ أنظر إليه بعد انتهاء الصلوات فإذا به لا يقوم من مصلاه إلا وقد أتى بالأذكار كلها، وأطول مدة كان يجلسها في الصلوات هي بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، بعد الفجر لأنه يأتي بأذكار الصلاة ثم يأتي بأوراد الصباح، ... وكذلك الحال بعد صلاة المغرب". [12]
والأعجب من ذلك أن الشيخ لم يكن يتوقف عن ذكر الله حتى أثناء تناول الطعام، فلا يكتفي بذكر الله في أول الطعام وآخره، بل إنه يذكره سبحانه أثناء الطعام، يقول الدكتور سعود بن حسن مختار: "أتيتُ مرة للفتوى فأخذني بعد أن تعرَّف علي إلى طعام الغداء، وجعلني بجواره، فالله يشهد أن لسانه ما فتر وهو على الطعام يقول: الحمد لله. كلما وضع لقمةً في فيه فبلعها حمد الله بدون تكلف، بل يكاد يجري ذلك مع نفسه". [13]
ويقضي أوقات الانتظار في ذكر الله، يقول الأخ عبدالكريم المقرن: "لقد عُرِفَ عن سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - الإكثار من الذكر والتسبيح والتهليل والاستغفار، فذات مرة حضرت مبكرًا قبل التسجيل، فوجدته جالسًا على كرسيه في مكتبة منزله بصحبة الشيخ صلاح الدين عثمان، الذي كان يرافقه دائمًا، فسلمتُ عليه، ورد بأحسن منها، وقبلتُ رأسه، وجلستُ أنتظر مهندس الصوت الزميل فهد العثمان، فكان طوال الوقت مطأطئًا رأسه يذكر الله: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. حتى حضر مهندس الصوت، وبدأنا التسجيل لحلقات برنامج (نور على الدرب)". [14]
ولا شك أن الدعاء والتضرع إلى الله تعالى نوع من أنواع الذكر، وكان شيخنا - رحمه الله - يكثر منه، يقول الشيخ محمد الموسى: "كان سماحة الشيخ كثير اللجوء إلى الله والافتقار إليه، والتذلل بين يديه.
وكان كثير الدعاء والتضرع إلى الله، وسؤاله كل صغيرة وكبيرة. ومن سمعه وهو يدعو أيقن أن الله سيُوفِّقه، ويُعينه، ويُسدده". [15]
وأثناء الحج يكاد شيخنا لا يتوقف عن الذكر والدعاء، ولا يشغل نفسه بغير ذلك، يقول الدكتور سعود بن حسن مختار: "حججتُ مرةً أنا وبعض الزملاء، وفي أثناء النفرة من عرفات كان الباص الذي يُقِلّ الشيخ بجوارنا لمدة ساعات طويلة، وكانت يداه مرتفعتين طوال وقت النفرة، وهو يدعو بخشوع وخضوع يؤثر فينا أكثر من ألف موعظةٍ، الناس في الباص يتحادثون ويشربون، وهو لا يُحرِّك ساكنًا، يداه مرفوعتان إلى السماء.
وفي موقف آخر صادفته في الصفا يدعو ومعي زوجي وأولادي، ولا يعلم إلا الله كم كان تأثير ذلك على نفوسهم جميعًا، إنه - رحمه الله - بدون مبالغةٍ ولا تقديسٍ ولا إطراءٍ كان من الذين إذا رآهم الرجل ذكر الله". [16]
وفي المستشفى وهو على سرير المرض يعاني الآلام والأوجاع المتكررة يلجأ إلى الله تعالى، ولا يتوقف عن ذكره سبحانه، يقول الشيخ سعد الداود: "أذكر من المواقف التي لا تنسى حينما كنت مرافقًا مع سماحة الشيخ حينما دخل المستشفى بالرياض - مستشفى الملك فيصل التخصصي - حينما شعر بألم في معدته، واضطر إلى أن يتلقى العلاج والفحوصات الطبية إلى اليوم الثاني، فكنت أراقبه طوال الليل وهو نائم، فقام منتبهًا وبسرعة وهو يسبح ويهلل، ثم وضع يده وأخذ يرقي نفسه، وضع يده على بطنه ثم أخذ يرقي نفسه بالقرآن، وكان ذلك ليلة السبت من يوم 1419/10/13هـ، وكان في تمام الساعة الثانية إلا ثلث، واستيقظ الساعة الثالثة والثلث بسرعة وأخذ يقول: لا إله إلا الله، ويرددها، ثم سبح وهلل، وأكثر من الاستغفار، وأطال قرابة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيمن، فغطيته بلحافه، ثم نام، وفي الساعة الرابعة انقلب على ظهره وهو يقول: لا إله إلا الله. ثم جلس وأخذ يلهج لسانه بالذكر، ثم وضع يده على بطنه وأخذ يرقي نفسه، ثم أخذ يذكر الله، ولمدة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيسر، ثم نام واستيقظ الساعة الرابعة ونصف، ثم قام فتوضأ وصلى حتى قبيل الأذان بعشر دقائق أوتر، ولم يقنت، فاستأذنت سماحته بالأذان، فأذن لي، فأذَّنْتُ، ثم أقمتُ، وصلى بنا وحدَّثنا وذكَّرنا بفوائد الذكر". [17]

محافظته على قيام الليل:
سبق أن ذكرنا أن الشيخ - رحمه الله - كان يحرص على الاستيقاظ قبل صلاة الفجر بنحو ساعة، فيؤدي ما كتب الله له من صلاة الليل إلى أن يأتيه صوت مؤذن الفجر، كانت تلك عادته التي لم تتغير طيلة حياته المباركة، على الرغم من أنه أحيانًا يُصاب بأمراض وآلام، وأحيانًا أخرى يسافر لمسافات طويلة، بل ويبيت أحيانًا في الطريق، ويكون مرهقًا ومتعبًا جدًّا، بحيث إن المرافقين له - وهم شباب في مقتبل أعمارهم - لا يستطيعون تحمل ما يتحمله الشيخ، إلا أنه رغم كل ذلك لم يترك قيام الليل، وظل محافظًا عليه إلى آخر حياته.
يقول الدكتور ناصر الزهراني: "يقول أحد تلاميذه: أما صلابة الشيخ ونشاطه في العبادة فالمواقف فيه كثيرة جدًّا: حدثني أحد الدعاة أن الشيخ سافر برًّا من الرياض إلى مكة، أو العكس، فلما جاءت الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل قال الشيخ: ما رأيكم لو نمنا هنا ثم في الصباح نكمل السفر؟. فوافق كل مَن كان معه، حيث غلبهم النوم، ويريدون أن يستريحوا، فلما نزلوا من السيارة كل منهم ذهب إلى ناحيةٍ فنام فيها، أما الشيخ فإنه لما نزل طلب ماء وتوضأ، ثم شرع يُصلي ما شاء الله له، ثم نام، ولما قاموا لصلاة الفجر وجدوا الشيخ قد سبقهم للقيام ووجدوه يصلي! فتعجبوا منه ومن جلده على العبادة، حيث كان هو آخر مَن نام وأول مَن قام، فسبحان الذي أعطاه هذه القوة والعزيمة". [18]
ويقول الأستاذ صالح الهويمل: "يقول أحد كُتَّاب الشيخ: ذهبتُ مع الشيخ إلى مكة، وجلستُ أقرأ عليه المعاملات إلى حدود الساعة الحادية عشر ليلًا، وإذا بالشيخ يقول: يبدو أننا تعبنا، فلنأخذ راحتنا. وحقيقة الأمر أن الشيخ لم يتعب، ولكن تأدُّبًا مع الكاتب الذي معه، فقال الكاتب: نعم يا شيخ، لقد تعبنا. يقول الكاتب: نمتُ بعدما صليت ما كتب الله، واستيقظت الساعة الثانية عشر وإذا بالشيخ يصلي، واستيقظت قبل الفجر وإذا بالشيخ يصلي". [19]
ومما يُذكر في جانب اجتهاد شيخنا في العبادة: أنه حافظ على أداء الصلوات بكيفيتها المعتادة عند سماحته إلى آخر حياته، بما فيها صلاة الليل، دون أن يُخفف الصلاة في أوقات المرض والألم، أو يلجأ إلى الجمع بين الصلاتين في الفريضة، أو يلزم الصلاة قاعدًا.
يقول الشيخ محمد الموسى عن سَمْت شيخنا في الصلاة: "المحافظة التامة على أداء الصلاة كما صلاها رسول الله ﷺ حتى إنه في آخر أيام حياته ومع شدة وطأة المرض عليه كان يصلي صلاته المعتادة، وكأن لم يكن به بأس قط، فصلاته هي هي حتى فارق الدنيا ...
وكان لا يدع قيام الليل حتى في السفر، بل لم يكن يدع قيام الليل حتى ليلة المبيت بالمزدلفة في الحج؛ حيث كان يقوم للتهجد في المزدلفة، فلما سألته عن ذلك قال: "المزدلفة وغيرها سواء في القيام، وإذا قيل لسماحته: إن حديث جابر في صفة حجة النبي ﷺ لم يذكر فيه أن النبي ﷺ قام للتهجد ليلة المزدلفة، فإن سماحته - رحمه الله - يُعلله بأنه ربما خفي على جابر ". [20]

متابعته بين الحج والعمرة:
لم يترك شيخنا - رحمه الله - الحج منذ عام 1372هـ إلى آخر حياته إلا مرة واحدة في عام 1419هـ؛ وذلك استجابةً لنصيحة الأطباء، حيث كانت حالته الصحية في ذلك الوقت لا تسمح بالحج، ولكنه مع ذلك حرص على أداء العمرة في آخر شهر ذي الحجة من العام نفسه.
وليس معنى ذلك أنه لم يحج قبل عام 1372هـ، بل إنه حج خمس مرات قبل هذا التاريخ، كانت في أعوام: 1349هـ قبل أن يذهب بصره، و1351هـ، و1354هـ، و1363هـ، و1368هـ.
يقول الشيخ عن أول حجة له، والتي كانت سنة 1349هـ: "نزلنا في الأبطح في بيت أسرة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، وكنت أذهب للحرم وحدي؛ لأن لدي بقية من النظر، ولم يذهب نظري كله، والناس ذلك الوقت قليل عددهم في مكة، فكنت أذهب إلى الحرم وأطوف وأرجع وحدي، والمطاف قليل جدًّا، والحجاج في تلك السنة عددهم قليل". [21]
فرغم كثرة مشاغله وثقل المسئولية الملقاة على عاتقه إلا أن ذلك لم يمنعه من التقرب إلى ربه بالمتابعة بين الحج والعمرة، ولعلَّ مما أعان شيخنا على متابعة الحج أنه كان في تلك الفترة يقضي مصالح الحجيج؛ فيُجيب عن أسئلتهم، ويستقبل وفودهم القادمة من مختلف البلدان للسلام عليه وطلب المساعدات أحيانًا، ويحل ما قد يقع من نزاعات ومشاكل بينهم.
فلله درّه، كم قدَّم لدينه وأمته من أعمال وخدمات، وكم تقرب لربه بأنواع الطاعات وألوان العبادات رجاء القبول والغفران، ولا غرو، فهذا حال من تعلَّق قلبه بربه، وانشغلت جوارحه بالعمل للآخرة، فرحمه الله، وغفر له، وألحقنا به على خير.
 
  1. إمام العصر، لناصر الزهراني (57،56).
  2. ينظر: المصدر السابق (63،62).
  3. المصدر السابق (61،60).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (42).
  5. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (170).
  6. المصدر السابق (170).
  7. المصدر السابق (170،169).
  8. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (79).
  9. جريدة الشرق الأوسط، عدد (7479). بواسطة: مواقف مضيئة، لحمود المطر (242).
  10. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (105/1).
  11. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (71،72/1).
  12. إمام العصر، لناصر الزهراني (65،64).
  13. جريدة المدينة، عدد (13174). بواسطة: مواقف مضيئة، لحمود المطر (166).
  14. اللآلئ السنية، لعبدالكريم المقرن (23،22).
  15. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (194).
  16. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (171،170).
  17. شريط عبرات وعبارات. بواسطة: مواقف مضيئة، لحمود المطر (120،119).
  18. إمام العصر، لناصر الزهراني (58).
  19. الإيجاز في سيرة ومؤلفات ابن باز، لصالح الهويمل (49).
  20. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (75-77).
  21. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (50،49/1).