ذكاؤه وفراسته

الذكاء هبة ربانيه يهبها الله لمن يشاء من عباده، وسماحة الشيخ - رحمه الله - من الذين لهم نصيب وافر من صفات الصلاح والتقوى والبر والإحسان، وأيضًا من القدرات العقلية التي أهلته إلى تلك المكانة العالية والمنزلة المرتفعة، ومن هذه القدرات.

الذكاء:
هذه الصفة الحميدة، التي حبا الله بها سماحته كان لها أثر عظيم في حياته، ونفع الله بها الأمة نفعًا عظيمًا، هذه الصفة، تحدث عنها من عاشره وخالطه، ولهذا فإننا نجد كثيرًا من طلابه ومن كتب عنه يبرز هذه الصفة، وكأنهم متفقون على تميز سماحته بها، مع ما حباه الله من صفات حسنة أخرى.
نقل الشيخ إبراهيم الحازمي عن الشيخ مرزوق بن هيفان آل مرزوق في فطنته أنه قال: "قضيت معه في الجامعة عشر سنوات متعلمًا ومعلمًا في الجامعة، وجدته أبًا لكل منسوبي الجامعة، أساتذة وطلابًا وموظفين، ومما لاحظته عليه ذكاء في أدب جم، ذلك أنني بعد أن تخرجت من كلية الشريعة استأجرت بيتًا قريبًا من سكنه في حي شارع المطار خلف المدرسة السعودية سابقًا، فاستدعاني وقال لي: تريد أن تكون إمامًا لمسجد الحي. وكتب لي خطابًا لمدير الأوقاف، وتم تعييني وباشرت العمل، ودعاني يومًا للغداء مع ضيوفه، وهو كريم مضياف طيلة حياته، وهو لا يترك الصلاة في المسجد النبوي إلا لضرورة أو حاجة في نفسه.
وإذا بي أفاجأ به في صلاة المغرب يخرج من بيته ويتجه إلى المسجد الذي أنا إمامه، ولما أقيمت صلاة المغرب بادرني بقوله: تقدم يا شيخ.
فقلت: كيف يكون ذلك؟! فقال: تقدم بارك الله فيك.
تقدمت وأنا في غاية الخجل والتقدير لسماحته، وأدركت أنه يريد الاطمئنان على مقدرتي في الإمامة من حيث الأداء والتلاوة، وبعد أن تمت الصلاة قام وشرح الآيات التي تلوتها، وبعد أن خرجنا قال: الحمد لله، وفقك الله يا شيخ مرزوق.
فالشيخ - رحمه الله - حصل على مراده في غاية اللطف والذكاء؛ فتقديمي للصلاة كان في ظاهره أمام الناس تكريمًا لي مع وجوده، وحصل بذلك مراده من معرفة أحوال الإمام الذي أمر بتعيينه، - رحمه الله - رحمة واسعة". [1]
 
قصة تدل على نباهته وفطنته:
حصل له موقف أيام شبابه - رحمه الله - فنبه أحد مشايخه على هذا الأمر ففطن سماحة الشيخ مراد شيخه وعرف أنه هو المقصود، هذه القصة حدث بها سماحته أحد الموظفين لديه، والمقربين منه، وهو الشيخ محمد الموسى وحدث بها الشيخ محمد الموسى بعد وفاة سماحته فقال: "هذه القصة ذكرها لي سماحته قبل حوالي عامين، يقول سماحته - رحمه الله: قصة حدثت لي لا أزال متأثرا بها إلى اليوم، حدثت أيام شبابي، فقد كنت من المحافظين على الصف الأول في الصلاة، وفي يوم من الأيام تأخرت عن الحضور مبكرًا بسبب القراءة في بعض الكتب لبعض المسائل الهامة التي شغلتني عن الصلاة، فلم أدرك الصف الأول، وفاتني بعض الشيء من الصلاة، وحينما سلم الإمام، وهو قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، وكان أحد مشايخي - رحمه الله - حينما رآني أصلي في طرف الصف، وقد فاتني شيء من الصلاة تأثر لذلك كثيرًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم بدأ يتكلم وقال: بعض الناس يجلس في سواليف ومشاغل حتى تفوته الصلاة، يقول سماحته: فعرفت أنه يعنيني بذلك الكلام، فلم أتأخر بعدها أبدًا، وذلك الموقف الذي حصل لي ما أنساه أبدًا". [2]
انظر إلى أسلوب الشيخ مع تلميذه وفطنة التلميذ الذي يعرف مراد شيخه، رحمهما الله جميعا.
ومما يدل على فطنته - رحمه الله - ما ذكره إبراهيم الحازمي عن الأستاذ عبدالكريم بن عبدالمحسن التركي أنه قال عن سماحة الشيح - رحمه الله: " كلمه رجل من أمريكا في منزله بعد العشاء، وتبين من حديث سماحته له أنه من أبناء الجاليات العربية هناك، يستفتيه ويطلب المساعدة في الزواج، فلاحظ الشيخ بسرعة بديهته ودقة ملاحظته أنه محتاج، فرأسًا طلب منه رقم هاتفه، وقال: نتصل عليك الآن حتى لا يكلفك الاتصال. وفعلا كلمه - رحمه الله - في الحال واستكمل الحديث معه". [3]
 
الفراسة:
الفراسة نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، فيرى بنوره، فيدرك ما لا يدرك غيره، ويتفطن إلى أمور تخفى على كثير من الناس، بل يتوقع حصول أمور فتأتي كما توقع.
الفراسة كما قال عنها الإمام ابن القيم - رحمه الله: الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده يفرِّق به بين الحق والباطل، والحال والعاطل، والصادق والكاذب، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانًا فهو أحدَّ فراسة، وكان أبو بكر الصديق أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء: "أظنه كذا إلا كان كما قال" ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة...
وفراسة الصحابة أصدق الفراسة، وأصل هذا النوع من الفراسة عن الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده، فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، قال بعض السلف: "من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطئ فراسته". [4]
وسماحة الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله - كان من أولياء الله الصالحين كما نحسبه ولا نزكيه على الله، وقد كان صاحب بصيرة نافذة، وفراسة حادة، يعرف ذلك جيدًا من عاشره وخالطه، وأخذ العلم على يديه. ومما يؤكد على فراسته أنه يعرف الرجال وينزلهم منازلهم، فيعرف الجادّ منهم في هدفه ومقصده من الدعاة وطلبة العلم فيكرمهم أشد الإكرام، ويقدمهم على من سواهم، ويخصهم بمزيد من التقدير ويسأل عنهم وعن أحوالهم دائمًا، وله فراسة في معرفة رؤساء القبائل والتفريق بين صالحهم وطالحهم.
يقول عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "وله فراسة... فيما يعرض عليه من المسائل العويصة، والمشكلات العلمية، فتجده لها متأملًا متمعنًا فيها، تقرأ عليه عدة مرات، حتى يفك عقدتها، ويحل مشكلها.
وله فراسة قوية ناصعة فيما يتعلق بالإجابة عن أسئلة المستفتين، فهو دائمًا يرى الإيجاز ووضوح العبارة ووصول المقصد إن كان المستفتي عاميًا من أهل البادية، وإن كان المستفتي طالب علم حريص على الترجيح في المسألة أطال النفس في جوابه مع التعليلات، وذكر أقوال أهل العلم، وتقديم الأرجح منها، وبيان الصواب بعبارات جامعة مانعة.
وقد ذكر الدكتور حمد بن إبراهيم الشتوي وفقه الله أنه جمع في فتوى لسماحة الشيخ - رحمه الله - ميزتين:
الأولى: تفصيل الفتوى، والزيادة عن محل السؤال بما يحتاج إليه السائل، وهذا من بلاغة الفتوى التي تسمى جواب الحكيم.
الثانية: العناية بذكر الدليل، وفيه تربية للطالب، وتعليم للسائل بمأخذ الحكم، وشحذ للذهن في إدراك وجه الدلالة وأنواع الاستدلال، مع ما فيه من التربية على الارتباط بالنصوص الشرعية (الكتاب والسنة).
قلت: وسماحة شيخنا - رحمه الله - قد أخذ هذا المنهاج الصافي في التفصيل والبيان من السنة النبوية، وطريقة النبي ﷺ في تفصيل الفتوى وإيضاحها حسب السائل كما في حديث البحر: الطهور ماؤه الحل ميتته". [5]
وقال الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "من الفراسة - وهي كثيرة عنده رحمه الله - أنه صبور على الناس، ويتحملهم، ويفتح قلبه وذهنه لسماع ما يقولون؛ ليحكم على مطالبهم برفق وسعة صدر رغم مشاغله، فقد جاءه شخص وحرص على مقابلة سماحته والتحدث معه في جلسته المعتادة بعد المغرب، حيث يمتلئ مجلسه الكبير... فما كان من بعض مرافقي سماحته المنظمين للناس إلا أن حالوا دون ذلك، وطلبوا معه السبب، وتقديم مطلبه المكتوب... فقال: أريد الاجتماع بالشيخ وعلى انفراد؛ لأشرح ما عندي لسماحته، فأخبرت سماحته - رحمه الله - بما قال هذا الزائر، فقال: أحضروه الآن، وليحدثني بما يريد، فدعوناه فلما قرب من الشيخ قال: إنني رأيت رؤيا، فأجابه الشيخ: وما هي؟ أجاب الرجل: إنني رأيت الرسول ﷺ فقلت له: يا رسول الله، إن عندي مشكلة، فقال لي: أرسلها للشيخ ابن باز ويحلها لك. فقال له الشيخ: اكتب لنا وأخبرنا بهذه المشكلة أو أعلمنا بها.
فقال الرجل: إن مشكلتي أنني ليس عندي إقامة، وأريد إقامة، وأريد أن أبحث عن عمل.
فما كان من الشيخ إلا أن ضحك من هذا العمل، وقال: أخشى أنك لم تر رسول الله في المنام. ثم أضاف قائلا: ابحث عمن يزكيك من الثقات المعروفين لدينا، فإن رؤياك هذه ليست حقيقة... ذهب الرجل ولم يعد؛ لأنه على ما يبدو لم يجد من يزكيه.
أما الرسائل التي تأتيه من الخارج بطلبات متنوعة فلها شأن آخر، منها ما يأمر سماحته بتمزيقها، ومنها ما يكتب للجهات المختصة - سواء في الداخل أو الخارج - باستقصاء حالة مرسلها، وعلى ضوء ذلك يتم الإيجاب أو النفي، ومنها ما يكون لديه فيها فراسة يدرك بها صدق ما عرض عليه صاحب الرسالة من مشكلة وقع فيها... ومن ذلك: أن رسالة وصلت من وسط أفريقيا من امرأة تشكو إلى الله ثم إلى الشيخ ما حل بها بعدما أسلمت هي وزوجها، وما لاقيا من تحديات وضغوط، حتى أخرجا من بيتهما، وطردا من قريتهما، ومنعا من لقاء أطفالهما.. إلى آخر ما جاء في هذه الرسالة المطولة من شرح لمعاناتهما.
قرأتها على سماحته وهو يستمع بإمعان، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم ثبتهما على دينهما - الإسلام - بالقول الثابت، إنا لله وإنا إليه راجعون.
لما انتهيت من قراءة الرسالة أمرني أن أكتب عليها: يحول لها عشرة آلاف ريال بواسطة السفارة، وتعطى السفارة صورة من رسالتها، وتزود هي بنسخة من المكاتبة لتراجع السفارة، ويكون هذا من حسابي الخاص.
وفي آخر الصيف من نفس العام جاء إلى سماحة الشيخ بعض المشايخ من الجامعة الإسلامية الذين ذهبوا في مهمة بالصيف لتلك الديار، وصادف أن علمت كاتبة الرسالة عن هذا الوفد، وقال أحدهم لسماحته: جاءت هذه المرأة ونحن في وسط أفريقيا فقالت لأحد أفراد الوفد: أنتم من السعودية؟ أليس كذلك؟ لقد سمعت عنكم، وجئت أبحث عنكم. فرد عليها بالإيجاب، فقالت: هل تعرفون الشيخ ابن باز؟ قالوا: نعم. قالت: بلغوه سلامي، جزاه الله خيرا.
فقالوا: كيف تعرفت عليه؟ فقالت: هل يوجد مسلم في أي مكان لا يعرف الشيخ ابن باز وأعماله نحو المسلمين؟! لقد كنت أنا وزوجي ضمن العوائل النصرانية وأسلمنا، ولكن طاردنا أقاربنا ومن يعاونهم، وأخذوا دارنا وأولادنا وكل ما نملك، وضاقت بنا الدنيا، لا مأوى، ولا مطعم، فسألت عن مساعد بعد الله بعد أن كتبت لجمعيات عديدة، ولم أجد مجيبًا ولا معينًا، فقالوا: ليس لك بعد الله إلا الشيخ ابن باز، فكتبت له، وكنت لا أتوقع وصول رسالتي إليه، أو أن تهمل إذا وصلته، كما أهملت رسائلي العديدة التي بعثت لعدة جهات، ولكن فجأة وجدت السفارة السعودية تتصل بي وتبلغني بضرورة مراجعتها، ففعلت، وإذا بسماحة الشيخ قد أرسل لي عشرة آلاف ريال سعودي، ففرحت وزوجي بهذا فرحًا عظيما، وتحسنت أحوالنا، وهاجرنا من قريتنا إلى قرية أخرى أغلب سكانها مسلمون، واشترينا مسكنا يؤوينا بعد الضياع. فهذا له فضل كبير علينا بعد شكر الله، بعدما عرف عن مسلمين في محنة وبلاء، ونرجوكم إبلاغه سلامنا، وأننا الآن بخير ونعمة بفضل الله ثم بفضله. وأعطتهم اسمها واسم زوجها الذي كان يرافقها، ففرح الشيخ بهذه النتيجة، وقلت له: هل نحفظ اسمها مع خلاصة كلام المشايخ مع الأصل؟ فقال: مزق ذلك، الله سبحانه يعلم ذلك". [6]
ومن فراسته أنه كان يميز الكاذبين في دعاواهم، يقول الدكتور محمد الشويعر: "وقد حصل في آخر رجب عام 1412هـ ونحن مع سماحته بمكة: أن جاءه بعض الأفغان مدعين أنهم من المجاهدين، قدموا للعمرة وألحوا بطلب المساعدة، ولما لم يكن معهم تزكية وتعريف بهم فقد أعطى رئيسهم 500 ريال، فرجع وقال: إنني معي عشرة، وكتب أسماءهم، فأمر بأن يكونوا سويا في العطاء.
ولكن في اليوم التالي جاء عشرة آخرون، فتوقف عن إعطائهم شيئًا نهائيًا، وقال: لا بد من خطاب تعريف من الشيخ سياف، أو من أحد القادة المعروفين لدينا.
فادعوا أنهم بعيدون عن موقع سياف، ومن القادة المعروفين لدى سماحتكم، وأنهم سيعودون لبلادهم؛ لأنهم مجاهدون ويريدون نفقة الطريق، فمنعهم.
ثم تكاثر العدد وكل يوم في المسجد والمكتب والبيت حتى بلغ عددهم أكثر من خمسين، وعليهم ملابس الجهاد، وعمائم المجاهدين.
فأصر على عدم إعطائهم، وأن مساعدة المجاهدين عن طريق جهات مختصة، وما زالوا يترددون على سماحته، وهو يمنع إعطاءهم، مصرًا على رأيه، وبعد اليأس انقطعوا، وبعد ذلك بعشرة أيام تقريبًا جاء سماحتَه رسالةٌ في يوم 1412/6/8هـ من مكتب المجاهدين بمكة، يوضحون أن هؤلاء وعددهم أكثر من 400 تقريبًا قد قدموا لمكة، وليسوا من المجاهدين، وهم باطنية شمال أفغانستان، ويسيئون للجهاد والمجاهدين، ويطالب المكتب بلفت النظر إليهم، وعدم مساعدتهم". [7]
 
  1. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (192،191/1).
  2. إمام العصر، لناصر الزهراني (63،62).
  3. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (195/1).
  4. مدارج السالكين، لابن القيم (454،453/2).
  5. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (43،42).
  6. عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (119-122).
  7. عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (754،753).