إلى محبي الشيخ ابن باز رحمه الله

عبدالعزيز محمد قاسم
 
في جولتي الماتعة ببلاد الحبشة، انتهيت إلى مدينة صغيرة في الجنوب اسمها (قليتو)، وقبائل الجنوب في معظمهم وثنيون، وقام البروتستانت بتنصير بعضهم، في حين تعيش بتلك المناطق قبيلة (ألابا) المسلمة التي تمسكت بإسلامها في الوقت الذي تنصرت فيه كثير من قبائل (هدية) و(سدامو) و(كمباتا) المسلمة بسبب الفقر والحاجة ونشاط الكنيسة.
أخذني مرافقي إلى موقع كبير في المدينة، وقال لي: ستنتظرك مفاجأة الآن فتأهب لها، وإذا بأرض كبيرة مسوّرة بطريقة بدائية، وعلى بوابتها الصغيرة كتبت باللغة الأمهرية والعربية: مدرسة دار الحديث (مدرسة الشيخ ابن باز).. تأسست في عام 1391هـ.
واستقبلني بعض معلمي هذه المدرسة من كبار السن، لأكتشف أنهم يتحدثون الفصحى، وأخبروني بأنهم كانوا الرعيل الأول من تلامذة الحبشة الذين درسوا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتفقهوا على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي أولاهم عنايته، واحتفى بهم، وأن هذه المدرسة قد أنشأها من حسابه الخاص.
لم أكد أسمع اسم ابن باز، إلا وانثالت الذكريات العزيزة عن هذا العلم الذي طبقت شهرته الآفاق، وتراءت لي صور من تواضعه وسماحته وعلمه، وكيف كنا نتسابق في مدينة الطائف في أثناء الصيف لحضور درسه بعد الفجر بمسجده، ولكلمته الوعظية بعد صلاة المغرب. وأتذكر كيف كانت تمتلئ نفوسنا حبا وإيمانا بمجرد رؤيتنا له بهيئته وسمته، وملامح وجهه النورانية.
انتشلني من تلك الذكريات مدير المدرسة، وعيناه تغرورقان بالدموع وقد استعاد ذكرى شيخه قائلا: هل تعرف أننا أتينا من الحبشة في عهد هيلاسلاسي، ولم تك لدينا أوراق ولا إثباتات، واستضافنا الشيخ على نفقته، وأصرّ على قبولنا بدون أية شهادات، وقام على حاجاتنا بما نعجز بالتعبير عنه، وهو يكرر على أسماعنا:
أنتم من استضفتم أجدادنا وأكرمتموهم، وأنتم من أوصانا رسولنا الكريم بكم، وأثنى على مليككم ووصفه بالملك الصالح. فلا أقل أن نقوم بواجبنا تجاهكم.
ويتدخل شيخ آخر، وقد بلغ السبعين من عمره: هل تعرف أن حكومتنا إذ ذاك رفضت إعطاءنا أية وثائق لكي يتم قبولنا، وأسقط في أيدينا، فلم نك نملك حتى حق الإقامة في المدينة.
وكان الشيخ ابن باز يتابع أحوالنا ويتعهدنا، وعندما علم بذلك التعنت، تكلم شخصيا مع الملك فيصل - يرحمه الله، الذي أصدر أوامره بمنحنا الإقامات الشرعية، واستثنانا إكراما لنا وللشيخ.. شخصيا شعرت لحظتها بعظمة ملوكنا وعلمائنا، في هذه الثنائية الملحمية التي جعلتني أرفع رأسي عاليًا هاتفًا: نعم، هذا ديدن وطني ورجالاته.
استمعت إلى نحو سبعة من تلامذة الشيخ ابن باز المباشرين، يحكون بكل الحنين الذي لو سمعه محبو الشيخ لانهمرت الدموع من أعينهم بما حصل لي، ولم يبدد هذا الجو الإيماني إلا رؤية مبنى المدرسة البائس، فإذا بي أمام فصول كعهدها أيام أنشئت، أي أن عمرها 38 عامًا كاملة، وألجمتني الفجيعة في رؤية تلك الفصول الموغلة في القدم، وهي أقرب - عفوًا منكم - لزريبة البهائم، منها لفصول تعلم، وخلتني محتجا أردد: يا لله، أقسم أن هذا لا يليق باسم عالمنا الذي فاخرنا به الدنيا، أيعقل أن مدرسة أنشأها الشيخ ابن باز وتحمل اسمه يكون هذا حالها؟
آليت على نفسي - وفاء لعالمنا الكبير - أن أخدم في مجالي، وأقوم بجمع قصص هؤلاء التلامذة عن علاقتهم بالشيخ، وأن أوصل هذه الرسالة لمحبيه الكثر، والذين منّ الله على بعضهم بفضلة مال، لعل فيهم من ينتفض غيرة ووفاء وتقديرًا لذلك العالم وتراثه، عله ينفر لإنشاء معهد كبير عصري، يليق باسم الشيخ، ويكون منارة إشعاع في تلك المنطقة لبثّ منهج ورسالة ابن باز بما أمّل في حياته، بتلك الربوع البعيدة التي تحتاج فعلا لمعهد يخرّج الدعاة إلى الله من أهل تلك البلاد، كي يوقفوا جحافل التنصير التي تجوب تلك المنطقة بالطول والعرض.
اللهم هل بلغت. [1]
  1. رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/3588/#ixzz4zFucF079