طبت حيًا وميتًا أيها الشيخ العلّامة

خالد بن عبدالرحمن بن حمد الشايع
 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسبحان من بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وسبحان من فضّل بعض عباده على بعض، فجعل لهم من القبول والمحبة في قلوب الناس ما لا يستطاع تحصيله بمال ولابجاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز: الإمام الأجل، والشيخ المبجل، يسلم الروح لبارئها، أحقًا هذا الأمر، أصدقًا هذا الخبر؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
ألا ما أعظم رزية الأمة بهذا المصاب الجلل، وما أكبر النقص الذي يكون بوفاة شيخنا ووالدنا عبدالعزيز بن باز علامة الدنيا وشيخ الإسلام في عصرنا.
يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، [الرعد:41]، قال جمع من المفسرين: نقص الأرض بذهاب بركاتها، وذلك بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير.
الشيخ الإمام ابن باز، من ذا الذي لا يعرفه علمًا وورعًا، زهدًا وتقى، جودًا وكرمًا، تواضعًا وتبسطًا، دعوة إلى الله، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وغيرة على حرمات الله، ونصرة ومحبة للمسلمين.
هو - أسكنه الله الفردوس - طيلة حياته بقية السلف وقدوة الخلف، فقد اختط وارتسم طريقًا يبغي به دلالة الخلق على الخالق، واقتفاء آثار المصطفى ﷺ، لتتحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة، فعمر جميع أوقاته بكل نافع للإسلام والمسلمين، وبذل نفسه ووقته وماله وكل ما يستطيع لتحقيق ذلك ابتغاء مرضاة الله، بهمة عالية تواقة لا تعرف مللًا ولا كللًا إلى آخر يوم في حياته.
لقد أكرمني الله بالتتلمذ والدراسة بين يدي الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز فرأيت في سمته ومنهجه في جميع أمور حياته ما لم يجتمع لأحد سواه، وحيث كنت قد قرأت بين يديه عددًا من الكتب في منزله فقد مكنني ذلك من الوقوف عن كثب على أمور عجيبة لا يطلع عليها أكثر الناس، ولن أستطيع حصر بعض ذلك في مثل هذه العجالة التي يختلط بها حبر القلم بدمع العين، والفكر مستغلق لوجوم النفس وتكدر الخاطر، غير أني أقول:
كنت والله أخرج من عند الشيخ بعد القراءة عنده وتناول العشاء معه بنفس وروح غير التي دخلت بها، فشتان بين من همته كهمة أكثر الناس في أمور الدنيا وما جاور الثرى، وبين من همته وأمانيه تعانق الثريا، وإن نسيت، فلا أنسى كلمات للشيخ ختم بها مجلس القراءة بعد أن قرأ عنده بعد صلاة العشاء، ثلاثة قبلي، ولما قرأت وأطلت شيئًا قال وهو داخل إلى أهله: "عليك بالهمة العالية، فالناس يحتاجون للهمة العالية وأصحابها".
ثم قف على واحد من أيام الشيخ الحافلة بالنشاط الدؤوب والجهد المتواصل، بل هو برنامج الشيخ كل يوم تقريبًا:
الاستيقاظ قبل صلاة الفجر بنحو ساعة للتهجد، ثم صلاة الفجر، يعقبها درس في أكثر من خمسة كتب، ثم الرجوع للمنزل، يعقبه التوجه للعمل الذي يطوف به من خلال الأوراق في أرجاء الدنيا لمعالجة قضايا المسلمين وفتاواهم من هناك، ثم الرجوع للمنزل قريب وقت العصر حيث الغداء، ومائدة الشيخ عامرة بوجوه الناس على مختلف طبقاتهم، عالم ووجيه، وخادم وموظف في مكتبه، وصانع الطعام وسائل لحاجة، وعابر سبيل، إلخ، ثم صلاة العصر في المسجد المجاور يعقبها درس يومي، ثم الراحة فترة العصر، وبعد صلاة المغرب درس أو محاضرة أو استقبال في منزله، إلى صلاة العشاء، حيث يجلس بعدها لكتابة الفتاوى والنظر في المعاملات المتنوعة، وتسجيل البرامج الإذاعية، أو الزيارات لمناسبة زواج أو غيرها من الدعوات، وقد جلست على مائدة العشاء بمنزل سماحة الشيخ مرات كثيرة، فما من مرة إلا وأزداد إكبارًا وإجلالا للشيخ ولعظيم تواضعه وبعده عن مظاهر السرف والتكلف.
وبعد أن يمضي الشيخ نحوًا من ثلاث ساعات بعد صلاة العشاء في تلك الأعمال يدخل إلى أهله ليتابع ويرعى ويتفقد الحاجات ويلبي الطلبات، هذا على وجه الإجمال والاختصار، وللتفصيل مقام آخر.
ويا لله، كيف بلغ إجلال الشيخ أقطار الدنيا، وهو لم يسافر خارج المملكة مطلقًا، لكنه والله هو العلم والورع، كنت في بعض البلاد الأوروبية في دورة شرعية، وبعد انتهاء المحاضرة طلب الحاضرون ذكر شيء من سيرة الشيخ وبرنامجه الحياتي، فأجبتهم لذلك ولم أكد أشرع في ذلك حتى علا بكاؤهم، وفاضت أعينهم بالدمع، شوقًا وإكبارًا لسماحة الشيخ، ويا لله، ما أعظم توقير الناس للشيخ ولعلمه، رأيت أحد كبار السن على خطأ شرعي فقلت له في ذلك، فلم يبد أي استجابة، فأعدت عليه وقلت: هذا الأمر أفتى فيه ابن باز، فما أن سمع اسم الشيخ حتى استجاب قائلًا: حبًا وكرامة، نحن لم نبلغ علم الشيخ ابن باز، علمه أعظم من علمنا.
ويا لله ما أبلغ جدِّية الشيخ وحرصه على النفع في كل أحيانه، حتى في ممازحته، كنت يومًا أقرأ على الشيخ في مجلسه العام في البيت، ولما حضرت القهوة وقدم التمر، قال لي الشيخ: يا خالد لم لا تأكل، أما تحب التمر؟ فأجبت الشيخ، وليؤانسني قال: أما تعرف نوع هذا التمر، قلت: أحسن الله إليك، لا أعرفه، قال: هذا خلاص، الله يرزقنا وإياك الإخلاص، ثم دار حوار وبحث في المفاضلة بين التمر والعنب عطفًا على ما ذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة، فكان ترجيح الشيخ: أن العنب يقوم مقام التمر في البلاد التي لا تمر أو لا نخل فيها.
ويا لله، ما أعظم مسارعة الشيخ لكل نافع للإسلام والمسلمين، لقد حضرت كثيرًا من مجالس الشيخ الكتابية، فتاوى وشفاعات لأشخاص محتاجين أو للإصلاح بين متخاصمين أو دعوة لنصرة المسلمين، أو توصية بالخير وتيسيره، وليس ذلك محصورًا في داخل المملكة، بل في كل أرجاء الدنيا، وإن تعجب فعجب أن تحدث الشيخ عن إحدى المدن في الخارج والمركز الإسلامي بها فإذا بالشيخ يسألك عما يتعلق بذلك المركز ويحدثك لتكتشف أنه أعلم منك بأحوال المسلمين في تلك البلاد.
أما فتاوى الشيخ فأنت تلمح سمة بارزة فيها وهي اتباع الدليل، مع عناية بالغة بصحة الأحاديث والحكم عليها، ولا يتفرد الشيخ - رحمه الله - بقول لم يسبق إليه، بل يتحرى أن يكون له سلف فيما يختاره.
واذا وقفت على الحلق العلمية والدروس التي يلقيها الشيخ ويؤمها جموع من طلبة العلم على اختلاف درجاتهم فكأنك ترى حلقة علمية لأحد العلماء من القرون المفضلة، حيث السكينة الإيمانية، والسمت العلمي، والمهابة والتوقير والإجلال الذي يحاط به الشيخ من قبل تلاميذه، مع محبة وشغف يفوح عبيرهما في مجلس الشيخ حتى آخر لحظة في الدرس، مع الفوائد التربوية والشذرات الفريدة التي يتحف بها الشيخ تلاميذه، فلله وما أعظمه من مجلس وما أكثر بركاته.
وبعد: فهذا ما أسعف به الخاطر المكدر، وفضائل الشيخ يصعب حصرها على مثلي وهي كثيرة وشهيرة، وحق على أهل العلم وطلبته أن يشحذوا هممهم لحمل اللواء ومتابعة المسير في طريق الدعوة والذي كفاهم عناء كثير منه سماحة الشيخ عبدالعزيز ردحًا من الزمن، والله سائل كل أحد بحسب ما آتاه.
ووالدنا وشيخنا الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز قد قدم - بإذن الله - على ما نغبطه عليه، لا تأليًا ولكن حسن ظن بالله، أنه يكافىء عباده المصلحين، بل يثيبهم بما أعده من النزل العظيم في جنة المأوى.
ألا ما أطيب ذكر شيخنا وما أعظم بركاته حيا وميتًا، وقد خلف للأمة من العلم والآثار المباركة ما بلغ أقاصي الدنيا، ونشهد الله على حبه وأنه قد قام بالدعوة إليه وبالبلاغ والبيان والنصح خير قيام، كما حث المصطفى ﷺ، فجزاه الله خيرًا، وأسكنه الفردوس الأعلى، وأخلف على الأمة في مصيبتها، والله المستعان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. [1]
  1. جريدة الجزيرة، الثلاثاء 3 صفر 1420هـ .