البكائية

فيصل بن سعود بركة العنزي
بادرت في سرد المآسي تكتب فأتاك طوفان القريض الأرحب
بحر يجود قصائدًا وجواهرا يُكسى بها نهر البيان الأعذب
قم ردد الأشعار هذا وقتها كبد مقرحة ولون شاحب
واروي الحقيقة للأنام فربما أصغى إليها عاقل ومأدب
وابعث أساك إلى الزمان قصيدة حسنًا تشرق في المدى وتغرب
فلعل سامعها يليك بدعوةٍ ولعلها بين الخلائق تندب
وابكِ الطّلول لعل دمعك بعدما درست يصحّ به الفؤاد الواصب
لله من طلل تقارب عهده عين إلى أرض البديعة تنسب
حوض ولو أبصرتنا من حوله أمم نُزاحم بالصدور ونشرب
وترى الجموع إذا تولى موكب ضخم تراءت في الطريق مواكب
رحلت له كل الوفود كأنه بيتٌ تشدّ له الرِّحال وتركب
وبه على كرِّ الليالي خادم شهم كريم بالوفود يرحب
هو كعبة للعلم أو هو كوكب يهدي ولكن غار ذاك الكوكب
درست معالمه وأخفى رسمه وعفى وأصبح في الصّدور مغيب
أبكيه لما هدّمته يدُ الردى وأتاه من جُحر المنية عقرب
من مبلغ الحُسَّاد عني أنني إن نال مني الدهر لا أتذبذب
مارست أنواع الشدائد كلها وتركتها وأنا القوي الجلدب
وأكلتُ من غُصص الحياة موائدا ونعمتُ حتى قيل: إني لاعب
وأفدت من أهوالها ودروسها حتى يظن الناسُ أني أشيب
ولقد غزا شعري المشيب ولم أزل غضًّا كذا صرف الزمان يشيب
عشرون عمري في الحقيقة إنما سبعون من عمر الخليقة تحسب
ما طال عمري في الورى لكنني سنتي بعشر سواي بل هي أعجب
فاسمع هداك الله خير مواعظ أهداكها عبدٌ فقيرٌ مذنب
يرجو من الرحمن جلَّ جلاله عفوًا ومن كل الخطايا تائب
أوصيك بالتقوى فإنَّ حباله تقوى ومن ذات الإله تقرب
واحسن إلى أبويك إنَّ رضاهما فرضٌ عليك فرائهم إن يغضبوا
واجلس إلى أهل الصلاح فإنهم فخر الزمان وليس فيهم مثلب
وتجاوز الزّلات عنهم إن رأت عيناك ما يُشني وما يُتجنب
مَن رام خِلًّا ليس يُخطئ مخطئٌ فالناس دومًا مخطئٌ ومصوب
واحذر مجالسة السَّفيه فإنه يُرديك بين العالمين ويعطب
واسلك طريقًا مستقيمًا لا تحد يحتار فيك عدوك المتعصب
واحذر حبال العشق إن حباله نحو الرذيلة والمعاصي تسحب
كم عابدٍ قد ضلَّ من أثر الهوى كم ناجحٍ بالعشق أضحى يرسب
واختر ملازمةَ الدروس فإنَّها روح وريحان وبرقٌ هيدب
المرء يبقى بعده حسن الثنا والعلم يرفع أنفسًا ويأدب
والعلم فخرٌ للفتى إن قصرت حلل المفاخر والغنى والمنسب
فانصب وجد السير في تحصيله وكذاك مَن رام المعالي يتعب
واعمل بعلمك إن أردتَ سعادةً وعليك بالإخلاص فهو المطلب
واجعل لنفسك من وفاتك واعظًا مَن لم يعظه الموتُ فهو الأخيب
إني عجبتُ من امرئٍ متيقن أن المنية إن أتت لا تُحجب
لكنه في غفلةٍ وتجاهلٍ يلهو ويخبط في الضَّلال ويلعب
إنَّ الحياة جميلةٌ لو أنها دامت ولكن المعمر يخرب
يتزود الإنسانُ في الدنيا على عجلٍ وما يجنيه فيها يكتب
إن كان زادك في حياتك طيبًا فالعيش في أُخراك أيضًا طيب
أمَّا إذا كان التزود سيئًا فتُساق للنيران ثم تكبكب
فاحذر وكن بين المخافة والرّجا واعمل فإنك في الحياة مراقب
واجعل لنفسك بعد موتك سيرةً تزهو بها ولها المسامع تطرب
كن كالذي دمعت عليه قصيدتي شهم كريم ناصحٌ ومهذب
لله من شيخٍ تسنَّم سيرةً عظمى تقصر في مداها يعرب
لو أنها قصص الأوائل خلتها نسج الخيال رواه غمر كاذب
لكنه مجد الكرام مؤثل يعلو صداه مدى العصور ويصخب
شيخٌ به حلل الفضائل جمّة باز سما فوق السحائب أهدب
أبكيه لما مات دمعًا بل دمًا والكل حولي لائمٌ ومعاتب
جاء الصديق معاتبًا ومؤنبًا ويقول: أكثرت البكا يا صاحب
فيمَ البكاء وقد مضى وقتٌ على فقد الإمام وكل حيٍّ غائب
كفكف دموعك ليس ينفعك البكا شيئًا وليس من المقدر مهرب
أتراك قد أشعلتَ نار حشاشتي وكلمتني وجعلتَ دمعي يسكب
فأجبتُه بالعين علَّ سهامها تُنبيه ما أخفى الفؤادُ الصيب
لما رأى بؤسي وقلَّة حيلتي قال: الحياة تصرم وتقلب
والموت في الأحياء حقّ واجب لم ينجُ من فكيه أمٌّ أو أبُ
يمشي على الأرواح في خيلاء لا يخشى فضاضةَ سيدٍ أو يرهب
هوّن عليك فقد رأيتك ساهبًا وأراك من فقد ابن باز معذب
أهو الوحيد يموت من علمائنا أنا ما رأيتُك قبل ذلك تسهب
إن هدَّ صرح فالصروح كثيرة وبكل صرحٍ واعظ ومأدب
فأجبتُه والدمع يحبس منطقي والقلب في صدري ينوح ويندب
دعني لعل الدمعَ يُطفئ لوعتي ولعلَّ ما بي من عناء يذهب
فلقد مضى شيخ البلاد وحبرها بحر العلوم النافعات الأنجب
ولقد هوى الصرحُ الذي كنا به نسلوا إذا ما هُدَّ صرحٌ أهيب
وأبيت تصرعني مخاوف أمتي وأظن ميزانَ الحياة سيخرب
كيف الحياة تسير من غير ابن با ز وكيف أنواع العلوم ستطلب
وعذرتُ فاروق الخليفة عندما نادى وقال: محمد لا يعطب
قد كنتُ أعجب يا أبا حفص لذا لكن وقد جربتُ لا أتعجب
هُدّت لمصرعه منابر أمتي وتزلزت يوم الخميس المركب
أتراك قد أنصفتَ في لومي به أتلومني فيمَن أحبّ وتشجب؟!
يا باز إن العيش بعدك علقم والأرض من بعد افتقادك غيهب
ما كنتُ أعلم قبل موتك ما البكا وألوم مَن يبكي ومَن يتنحب
حتى بكاك القلبُ من فرط الأسى فظننتُ مَن يسلو بكاءك مذنب
كم من حبيبٍ مات لم أبكِ على فرقاه إلا أنت يا نعم الأب
تبكي البديعةَ بعد أن فارقتها وبكتك مكةُ والرياض ويثرب
تبكيك نجد والعراق ومصر والـ بحرين والشام الأشم الطيب
يبكي عليك المسلمون جميعهم وبكاك مشرق أمتي والمغرب
والناس غادٍ في البكاء ورائح وبكل بيتٍ دامع ومغالب
وكأنَّ قومي ما بلوا بمصيبةٍ أو محنةٍ هي من فراقك أصعب
يا شيخ أفئدة الخلائق حزتها والدمع أوثق شاهدٍ لا يكذب
ما متّ يا علم السماحة والنَّدى بل أنت في كلِّ القلوب مُقرَّب
ما مات مَن أحيا القلوبَ بوعظه وله على أهل الزمان مناقب
كل القصائد في وفاتك أجمعت أن الأسى سمة لمثلك توهب
وقصيدتي فوق القصائد كلها نذرت بأن بكاءها لا ينضب
تمت بحمد الله في أعدادها جاءت كعمر الشيخ بل هو أطيب[1]
  1. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (4/ 1788- 1798).