فقيه النوازل

عبدالرحمن بن إبراهيم المرداس
 
عرفت سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - يرحمه الله - وأنا طفل صغير إذ كانت تربطه بوالدي - يرحمه الله - علاقة ود قديمة، ربما كانت بداياتها عندما كانا يطلبان العلم على يد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - يرحمه الله، فتسنى لي أن أراه كثيرًا عندما كان يزور الوالد ويعوده.
يشد انتباهك منذ أن تسلّم عليه وتصافحه، فإن لم يكن يعرفك بصوتك أو لم تعرّفه بنفسك، ابتدر بالسؤال: "من هذا؟"، فإذا انتظم مجلسه نادى كلاً باسمه ليسأله عن حاله وحال المحيطين به، فتعجب من أسئلته وتعليقاته, يجتمع عنده خلق كثير يلتفت إلى القاضي فيدعو له بالعون والتوفيق والسداد، وإلى الداعية ينصحه أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلى المحتسب يحثه على العلم والحلم في أمره ونهيه، وإلى الكاتب يدعوه إلى نشر الفضيلة على أساس من عقيدة التوحيد، وإلى المعلم يذكره بواجبه وعظم مسؤولياته، وإلى ضيفه يحتفي به ويكرمه، وإلى قريبه يصله ويبرّه، وإلى مستشفع يشفع له ويسرّه، وإلى مستفتي يفتيه ويعلمه، لا يقطعه عن ذلك إلا رنين الهاتف واتصال من يتعذر عليه الحضور، أو دخول زائر جديد، فإذا حان موعد القراءة اليومية دعا قارئه ليقرأ صفحات من أمهات الكتب، ويستوقفه بين حين وآخر ليشرح الغريب والملتبس، ويفصّل المجمل والمختصر.
ويدرأ التعارض بين العقل والنقل، ثم يختم المجلس بالدعاء والاستغفار.
كان يؤمن بأن الشريعة مبنيّة على مصالح العباد، فلم يكن يضيّق عليهم في شيء، بل كان يعمد إلى التيسير، لأن الله جلّ وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها، وكان يعلم أن الفتوى تتغير وتختلف بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، لذلك لم يمنعه إجلاله العلماء وتقديره لهم أن يخالفهم الرأي في عدد من المسائل: (كجمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد، وزكاة الحلي)، وأن يبدي رأيه على اعتبار أنه عِلمٌ لا يجوز كتمه مخافة أن (يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، فما كانت تأخذه في الله لومة لائم، فعلى الرغم من أن علمه مؤسس على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، واتباعه الكبار أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية والحافظ ابن كثير، وابن قدامه المقدسي والشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلا أنه لم يقيّد نفسه بحرفية المذهب، فكان فقيهًا مجتهدًا تغلب عليه صفة المحدّث.
اجتمع على حبه الأضداد، وتتابع في رثائه وتأبينه محبّوه والمختلفون معه، وتبادل العزاء فيه الكبار والصغار، وتألم لفراقه الرجال والنساء، ولم يكن فقيد أسرة أو مجتمع أو دولة فحسب، بل فقيد أمة، فقد كان معلمهم إذا جهلوا، ومرجعهم إذا اختلفوا، ومَفزِعهم إذا رُوّعوا، فإذا نزلت بالمسلمين نازلة أو حلّت بديارهم مصيبة، وعصفت بهم عاصفة، تشعبت الأقوال والآراء، واختلف العلماء والمتعلمون، وتنازعت الجماعات والأفراد، حتى إذا بَلَغوُه - يرحمه الله - قال كلمته، فكانت فصل الخطاب، فيصبح الرأي جامعًا، والحكم قاطعًا، والبلاغ عامًا، فتأتلف القلوب، وتتوحد الصفوف، ويستقيم الأمر.
رحم الله شيخنا رحمة واسعة، وجزاه عنا خير الجزاء، وأنزله منازل الأبرار. [1]
 
  1. جريدة الجزيرة، السبت 6 صفر 1420هـ.