وترجل الفارس.. فقيد الأمة الإسلامية

الشيخ :عبدالقادر بن محمد العماري
 
كنت في جناح اللاجئين من كوسوفا في ألبانيا ضمن وفد قطر عندما تلقيت خبر الشيخ عبدالعزيز بن باز فتضاعف الشعور بالمأساة، واشتد ألم الحزن ونحن نشاهد تلك المناظر في المخيمات؛ لأن وفاة الشيخ ابن باز هي في الواقع تمثل صدمة العالم الإسلامي في هذا الزمن الذي فقد المسلمون فيه الرجال الذين يعيشون مشاكل شعوبهم ويبذلون النفس والنفيس في سبيل دعوة الإسلام، لقد كان الشيخ ابن باز نبراساً في العالم الإسلامي يهتدي به السائرون في الطريق المظلم، وكان علما للحق وللخير في وقت تغلب فيه الظلم على الحق والشر على الخير، فماذا تقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
الشيخ عبدالعزيز هو المرجع لكل من يسأل عن الطريق الآمن في مجال الدين والشرع فيطمئن مستفتيه أنه إذا اتبع فتواه وما أرشده إليه، فقد سار على النهج المؤدي إلى الهدف الذي يرضي ربه؛ ليرتاح ضميره، ويطمئن قلبه، ولابد أن نتذكر قول الرسول ﷺ: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا، ولكن ينتزعه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا، فوفاة الشيخ عبدالعزيز ثلمة في الإسلام، وثغرة فتحت في جداره، نسأل الله أن يسدها.
فقد كان - رحمه الله - يجهر بكلمة الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يتصدى لأهل البدع والخرافات الذين يفسدون عقائد المسلمين ويتصدى للعلمانيين الذين يحاربون الإسلام بطرق مختلفة، فقد وهبه الله قدرة على خوض المعارك الفكرية، وأيده الله باستحضار الحجج الدامغة والأدلة التي لا يرقى إليها الشك من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
إننا عندما نبكيه نبكي العالم والأخلاق والإخلاص والتقوى والإصلاح، ونبكي الغيرة على الإسلام، فأين لنا مثله في هذا الزمن الذي كثر فيه المنافقون والدجالون وكثر فيه المتنطعون والمتشدقون والمتعالمون!.
إن الشيخ ابن باز كان فلتة بين علماء المسلمين، كان سديد الرأي، ولا يغضب إلا من أجل الحق، فقد خصه الله بمزايا الحلم والأناة والخلق الحسن، فحتى لو اختلف معه في الرأي فلا يغضب؛ لأنه يؤمن بما قاله الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الروضة" يعني رسول الله ﷺ ويقول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وما زلنا نذكر فتاواه التي خالف فيه الأئمة الأربعة وأخذ فيها برأي شيخ الإسلام ابن تيمية لقوة الدليل فيها، وبذلك حل الكثير من مشاكل الأسرة المسلمة، وهو إلى جانب ذلك يعيش مشاكل المسلمين ومآسيهم، فهو يتابع أخبارهم، ويبذل كل ما يستطيع لمساعدة ضعفائهم ويتألم لآلامهم ويضع أمامه دائما قول الرسول ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقوله: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ويحرص على الصلح بين المسلمين انطلاقا من قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] وهو يدعو إلى الوحدة الإسلامية، ويطالب المسلمين جميعا بأن يحكموا شرع الله وينتقد تصرفات القادة في كل مكان؛ ليكون نهجهم مطابقا للكتاب والسنة، ويعدلوا بين الناس ويحذرهم من أعداء الإسلام، وألا يسمحوا للمنصرين أن يستغلوا حاجة المسلمين وضعفهم، فيطالب دائما بسد حاجة المسلمين ونشر الدين الإسلامي في البلاد غير الإسلامية، وهو يهتم بشباب المسلمين ليكونوا مجاهدين في سبيل الإسلام ويدعوهم إلى الاقتداء بالسلف الصالح في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو بصفاته وأخلاقه وإخلاصه جعل الله له المحبة في قلوب المسلمين.
واسم الشيخ عبدالعزيز عندما يُذكَر يُذَكّر الناس بسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذه نعمة أنعمها الله عليه، إذ أحبه الله وجعل المحبة له في قلوب عباده المؤمنين.
وقد كانت مجالسه مجالس علم، كلها يرتع فيها طلبة العلم، وكأنهم يرتعون من رياض الجنة، فهو لا يقبل في مجالسه غيبة ولا نميمة ولا سبابا ولا شتائم كما يفعل بعض من يدعون العلم، ونحن عندما نفقد هذا العالم الكبير نؤمن بأن لله ما أخذ وله ما أعطى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
ولا يسعنا إلا أن نقول: لاحول ولاقوة الا بالله انا لله وإنا إليه راجعون، فنسأل الله أن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعله في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، ونعزيهم ونعزي أنفسنا والعالم الإسلامي أجمع؛ فقد كانت وفاته مصيبة للمسلمين جميعا، لأنه فارس عظيم من عظماء الإسلام، وقد ترجل الفارس فقيد الأمة الإسلامية، رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه دار القرار، إنا لله وإنا إليه راجعون[1].
  1. جريدة الجزيرة، الجمعة 6 صفر 1420هـ .