تواضعه

قال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، أي: ساكنين متواضعين لله والخلق. [1]
وقال النبي ﷺ: ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله[2].
وإن شيخنا - رحمه الله - تواضع لله ولعباده؛ فرفعه الله بين الناس، فلم تَغْرُرْه المناصب، أو تخدعه مظاهر العظمة والأبهة، بل كان حسن العشرة، لطيف المعاملة، رفيقًا حانِيًا، لا يتكبر على أحدٍ، ولا يترفَّع عن مجالسة الفقراء والمساكين والمشي معهم، ولا يحتجب عن ذوي الحاجات، فحين طلب منه بعضُ الفُضلاء أن يترك مُجالسة الفقراء والمساكين ومُؤاكلتهم، وأن يجعل لنفسه مجلسًا خاصًّا يليق به، رفض وقال: "مسكينٌ صاحب هذا الرأي، هذا لم يتلذذ بالجلوس مع المساكين، والأكل مع الفقراء". [3]
وكان - رحمه الله - يُقْبِلُ على مُحَدِّثه، ويُصْغِي السمعَ له، ويَقْبَل النصيحةَ من مُسْدِيها، كائنًا مَن كان، ومن ذلك: أنه اتَّصل به طفلٌ ذو ثلاثة عشر عامًا، واقترح على فضيلته أن يُعَيِّن في كل مدينةٍ مُفتِيًا يرجع إليه الناسُ في مسائلهم، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن قَبِلَ النَّصيحةَ، وكتب بعرضها على هيئة كبار العلماء. [4]
فقد نظر شيخُنا - رحمه الله - إلى الدنيا نظرة حكيم، وتعامَل معها تعامُل خبير، فرأى كلَّ مُتعها زائلة، فاستعان عليها بالله، وأخذ ما يرضيه سبحانه ولو كان قليلًا، وترك ما يجلب سخطه وغضبه وإن كان محبوبًا إلى النفس، فحين عُرِضَ على سماحته تغيير أثاث بيته في مكة بأحدثَ منه، أَبَى وقال: "لنا في هذا البيت ست عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا؟!". [5]
وكان - رحمه الله - يأبى أن يتميز عن الناس في شيءٍ، سواء كان في موقفٍ، أو مجلسٍ، أو مَرْكَبٍ، أو مَأْكَلٍ، أو غير ذلك، فكان في الحج ينام وسط الحجيج، فلا يكاد يُعْرَف.
وحين ذهب ليُلْقِي محاضرةً في مسجدٍ، وجد أن المسجد مفروشٌ بالحصير، وأن القائمين على المسجد وضعوا له سجادةً خاصَّةً به، فطواها - رحمه الله - بنفسه وطرحها جانبًا، وجلس كما يجلس الناس.
وحين انتهت مدةُ سيارته الممنوحة له من الدولة وأراد المسؤولون أن يُغَيِّروها بأحدثَ منها، وذكروا للشيخ أنواع السيارات الحديثة (المرسيدس، الفورد، الكاديلاك، البيوك) ليختار منها، ترك الشيخ كل هذه الأنواع واختار (الكابرس)، فقيل له: لا يليق بمقامك، فقال: لماذا؟ أليس القبر واحدًا؟!. [6]
ومن القصص التي تصور لنا هذا المشهد ما حكاه الدكتور الشويعر، حيث ذكر أن رجلًا جزائريًا قدم إلى مكة للحج، وأراد أن يسأل عن مسألةٍ ما، فأتى إلى مجلس الشيخ دون أن يعرف أن هذا هو مجلس الشيخ ابن باز، فلما دخل قال للدكتور الشويعر: أريد السؤال. فقال له: هذا الشيخ أمامك فاسأله، قال: ما اسمه؟ قال: الشيخ عبدالعزيز بن باز. فتعجب الرجلُ من بساطة الشيخ وسهولة رؤيته والوصول إليه رغم مكانته العالية ومنزلته الرفيعة، فقال للدكتور الشويعر: سبحان الله! هذا الشيخ ابن باز الذي نسمع عنه ونتمنى رؤيته، وبدون حجاب ولا حراس!. [7]
وفي عرفة في حج عام 1418هـ كان جالسًا في المُصَلَّى، ومئات الناس حوله، فجيء له بفاكهةٍ مُقَطَّعةٍ؛ لأن عادته في المشاعر في الحج أنَّه لا يأكل في الغالب إلا الفاكهة، والتمر، واللبن، فلما وُضِعَ أمامه قال: أكلُّ الحاضرين وُضِعَ لهم مثل هذا؟ قالوا: لا، فقال: أبعدوه، وغضب. [8]
ومن تواضعه - رحمه الله: تلبية دعوة طلابه ومحبيه، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، فقد بلغ عدد المناسبات التي شارك فيها الشيخ في آخر عامٍ من حياته في مدينة الرياض نحو ستين مناسبة. [9]
يقول منصور اليحيى: "لقد حصل لي الشرف الكبير في مقابلته - يرحمه الله، ففي يوم من الأيام دُعِيَ إلى وليمة فلم يتردد في تلبية الدعوة، سواء من كبير أو صغير. ودعاني صاحب الوليمة وحضرت، وكنت مِمَّن استقبل الشيخ - يرحمه الله، فكان إنسانًا متواضعًا، يجلس بين الناس، فأول ما صل إلى مكان الدعوة بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ﷺ، وبدأ بإلقاء المواعظ والتذكير والحث على الصلاة في المساجد وتربية الأبناء تربية سليمة... إلخ، وبعدما انتهى لم يجلس صامتًا بل فتح قلبه لمن أراد أن يستفتي فتدفق عليه جمع من الحضور للسؤال عن أمور دينهم وآخرتهم فما كان منه أن لبى لهم ولم يكن ليتذمر أو يتضجر منهم بل كان مسرورًا ومستعدًا لفتياهم لو ظلوا طوال الليل حتى تم تجهيز وجبة العشاء فتقدم صاحب الدعوة لسماحته - يرحمه الله - وأخذ بيده إلى مكانه والحضور من حوله على مائدة الطعام تكاد لا تراه أو تعرفه من بين الحضور هذا دليل تواضعه، ولم يكن له مكان مستقل بل بين أبنائه من المسلمين". [10]
كما كان سماحة الشيخ - رحمه الله - مُبْغِضًا للمديح، سواء كان في وجهه، أو من ورائه، فحين أخذ مُقَدِّمُ إحدى المحاضرات في مدح الشيخ والثناء عليه قال له أحدُ الحضور: اتَّقِ الله في نفسك، ألا تعلم أن الشيخ يكره المدحَ والثناءَ في الوجه؟ فقال سماحته: وأكرهه كذلك من خلف ظهري.
وأراد أحد تلاميذه أن يُلَقِّبه بـ (شيخ الإسلام عبدالعزيز)، فرفض الشيخُ وقال: يكفي أن تقول لي: عبدالعزيز بن باز.
ولما مدح الشيخُ محمد تقي الدين الهلالي المغربي سماحةَ شيخنا - رحمه الله - بقصيدةٍ، ونشرها في مجلة الجامعة السلفية في بنارس الهندية؛ كتب سماحته للمجلة استنكاره لذلك وتكدّره، ونشر مقالًا جاء فيه: وإني أبرأ إلى الله من الرضا بذلك، ويعلم الله كراهيتي له، وامتعاضي من القصيدة لما سمعتُ فيها ما سمعت. [11]
يقول الشيخ محمد صالح المنجد: 
"من تواضع الشيخ ابن باز - رحمه الله - أنه يقوم فيمشي إلى النساء الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال أو سؤال ونحو ذلك، وأوقف مرّة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب على امرأة بالهاتف فلما عاتبه بعضهم قال هذه صاحبة حاجة". [12]
وبعدُ، فهذا غَيْضٌ من فَيْضٍ، وإلا فالأمثلة على تواضع الشيخ - رحمه الله - كثيرة يصعب حصرُها.
  1. تيسير الكريم الرحمن، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (586).
  2. أخرجه مسلم (2588).
  3. ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (84).
  4. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد بن موسى الموسى، (136).
  5. المصدر السابق (133).
  6. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد بن موسى الموسى، (133،132)، وموسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (85/1).
  7. ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (735،734).
  8. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد بن موسى الموسى، (135).
  9. ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن بن يوسف الرحمة، (45-47).
  10. مواقف مضيئة في حياة الإمام ابن باز، لحمود المطر (9-10).
  11. ينظر: الإمام ابن باز، لعبد العزيز السدحان، (70،69)، وترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، لعبدالعزيز بن قاسم ومحمد زياد التكلة، (175-177).
  12. الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، خواطر، من تواضع الشيخ ابن باز رحمه الله.