عاش محمود السيرة .. سليم القلب

د. علي بن مرشد المرشد
الرئيس العام لتعليم البنات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الموت حق كتبه الله على كل حي في هذه الحياة، يقول تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ والمسلم يتقبل هذه المصيبة بقبول حسن لإيمانه أن كل من دنت منيته وانتهت أيامه في هذه الحياة فلن يتأخر ساعة واحدة، كما قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
ولذا فإن حق الميت على عارفي فضله الدعاء له والبر به بعد موته، وموت العلماء بخاصة له أثره في نفوس المسلمين، وذلك لما عرف به العلماء من أعمال صالحة وخصال جليلة، وقد بين لنا البشير النذير ﷺ قيمة العالم، وما يتركه رحيله عن هذه الدنيا من نقصان العلم بقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن بقبض العلماء الحديث.
وفضل العلماء كبير ومنزلتهم عند الله عالية يقول الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ويقول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ويقول رسوله ﷺ: العلماء ورثة الأنبياء.
وقد تأثر جميع المسلمين بوفاة سماحة والدنا فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، فهو من العلماء الأفذاذ، سخروا أوقاتهم لخدمة الإسلام والمسلمين، والدعوة الى الله على بصيرة، والعمل على إعلاء كلمة الله، وسجِل سماحته حافل بجليل الأعمال، وذلك من خلال ما تقلده - رحمه الله - من مناصب، وما قام به في حياته المديدة من أعمال تمثلت بـ: القضاء، والفتيا، والتدريس، ورئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم عمله في إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ومن خلال ما قام به من جهود في الأعمال التي كان يشارك بها غيره من العلماء مثل: هيئة كبار العلماء، ورابطة العالم الإسلامي، والمجلس الأعلى للمساجد، وغير ذلك من الأعمال الجليلة التي يصعب تعدادها، وكلها تصب في خدمة هذا الدين ونشره وإعلاء كلمة الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولقد عرفت سماحته - رحمه الله - عن قرب أثناء عمله في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت آنذاك أعمل بإدارة تعليم البنات بالمدينة واستمعت إلى دروسه العلمية والمتمثل في شرحه لصحيح البخاري وغيره من الدروس العلمية الكثيرة.
وكنت ممن استفاد منه في شرح صحيح البخاري، واستفدت من دروسه وما يرويه من تجاربه أثناء عمله، وكان يتسم - رحمه الله - بلطف المعشر، محبا للعلماء وطلبة العلم، يؤنسه وجودهم معه، فهو يأنس بأحبته وزائريه، ويبش في وجوههم، وهذه أخلاق العلماء المعهودة والمعروفة عنهم.
كان - رحمه الله - رجلا فذا من طراز العلماء الذي يذكر بسلفنا الصالح في سمتهم ومعشرهم وصدق أحاديثهم وحبهم للاطلاع وبعدهم عن المظاهر، ولم يثنه كبر سنه - رحمه الله - وتأثر صحته في أيامه الأخيرة عن شيء مما كان يقوم به من واجباته العلمية والعملية.
لقد كان سماحة الشيخ - رحمه الله - نسيج وحده، ومن علماء الرعيل الأول الذين يندر وجود أمثالهم في هذا الزمن الحاضر، فهو العالم المخلص الذي نذر وقته للنصح والإخلاص لله ورسوله ولولاة الأمر وعامة المسلمين يدعوهم إلى الخير بحكمة وبصيرة وعلم.
رحم الله سماحة الشيخ عبدالعزيز، وأسكنه فسيح جناته، فقد عاش محمود السيرة، سليم القلب، عالما محققا، محبا للعلم والعلماء، مسخرا وقته من أجل إعلاء كلمة الله وخدمة الإسلام والمسلمين، رحمه الله رحمة الأبرار، وأحسن عزاء أسرته ومحبيه وطلبته وعموم المسلمين، وجعل في ذريته الخير والبركة؛ ليعيدوا سيرته ويتأسوا به وبأمثاله من سلف هذه الأمة وعلى رأسهم المصطفى ﷺ الذي أمرنا الله بالتأسي به بقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونحمد الله على قضائه وقدره، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [1]
  1. جريدة الجزيرة، السبت30 محرم 1420هـ .