أعماله الاجتماعية

لقد اعتنى الشيخ – رحمه الله- بهذا الجانب عناية فائقة واهتم به اهتمامًا كبيرًا، وقد تعددت صور هذا الاهتمام، لترسم لنا جانبًا مضيئًا آخر من جوانب حياته الزاخرة، ونضع بين يدك عزيزي القارئ طرفًا من أعماله الاجتماعية:

تقديمه المساعدات المالية للمحتاجين:
عُرف الشيخ –رحمه الله- بالبذل والكرم وحب الإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، فالمساعدات المالية التي قدمها طيلة حياته لا يمكن حصرها؛ لكثرتها وتشعبها.
فكانت أكثر المساعدات إعانات للمستحقين من الفقراء، والمساكين، والغرباء، والمنقطعين، والأرامل واليتامى، وطلبة العلم ممن لا دخل لهم، أو لهم دخل لا يفي بحاجتهم الضرورية، أو يعجزون عن دفع إيجارات مساكنهم، أو أَلَمَّت بهم ظروف طارئة: من مرضٍ، أو سفرٍ، أو غيرها مما يستدعي المساعدة والعون، سواء كانوا من السعوديين أو غيرهم من الجنسيات المختلفة[1].
وكان منها ما يُصرف شهريًّا، ومنها ما يُصرف سنويًّا، ومنها المساعدات غير المنتظمة والتي كانت تُصرف في حال توافرها وتكون بدون التزام شهري أو سنوي[2].
وقد تم تحديد عدة جهات لتتولى أمر توزيع هذه المساعدات؛ ليتيسر على المنتفعين الحصول عليها، فكان مكتب الشيخ الخاص الموجود في منزله أحد هذه الجهات، وكذلك مكتب المفتي العام في الرئاسة، ومكتب مساعدات سماحة الشيخ في مكة المكرمة، ومكتب وكيل سماحة الشيخ في المدينة النبوية[3].
وقد استفاد من هذه المساعدات عددٌ كبير من المحتاجين، داخل المملكة وخارجها، فبعض هذه العطاءات والمساعدات كان يصل إلى عددٍ من المؤسسات الخيرية التي تهتم بشئون المسلمين خارج المملكة، وكذلك بعض المدارس والمعاهد العلمية في عددٍ من الدول، مثل: كينيا وموريتانيا وجيبوتي وأستراليا وساحل العاج وغيرها من البلدان[4].
وهذه نماذج من تلك الإعانات التي كانت تقدم من سماحته للمحتاجين من الفقراء والمساكين:
يقول أحد موظفي دار الإفتاء: "جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ رحمه الله فإذا بامرأة تقول: إن زوجي مسلم أخذه النصارى وألقوه في بئر، وأصبحت أرملة، وأطفالي يتامى، وليس لي أحد بعد الله جل وعلا، فقلت: لمن أكتب له في هذه الأرض لكي يساعدني بعد الله!!! قالوا لا يوجد إلا الشيخ عبد العزيز بن باز فآمل أن تساعدني، فكتب الشيخ رحمه الله للجهات المسئولة في الإدارة بمساعدتها وجاءت الإجابة أنه لا يوجد بند لمساعدة امرأة وضع زوجها في بئر، فالبنود المالية محددة، فقال الشيخ لكاتبه: أكتب إلى أمين الصندوق: مع التحية اخصم من راتبي عشرة آلاف ريال وأرسله إلى هذه المرأة"[5].
ومن أروع القصص ما ذكره معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السلام قائلا: "لقد روى لي صديق: أن أرملة تعول أولادها لم تستطع دفع انثي عشر ألف ريال أجرة سكنها، فعرض هذا الصديق على أحد المحسنين موضوعها، فدفع إليه المبلغ ليسدد عنها أجرة السكن، وحين ذهب ليدفعه وجد الشيخ ابن باز رحمه الله قد سبق إلى سداده، وهذا يعطي دليلا صادقا على اهتمامه بأمور الناس، وتفقد أحوالهم والاستجابة السريعة لمساعدتهم ومواساتهم، ويقول الصديق: إن المحسن جزاه الله خيرا عندما عاد له المبلغ؛ لأنه سق دفعه، كلفه بأن يدفعه للأرملة للاستفادة به في حياتها وأولادها"[6].
ومن القصص التي تدل على تفريج الشيخ للكربات ما ذكره معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر المستشار الخاص لسماحته، قال: "وفد سعودي ذهب في إحدى المهمات إلى غابات أفريقيا فجاءت عجوز عند هذا الوفد، وقالت لأحد رجال الوفد: أنتم من السعودية؟ فقال: نعم، فقالت: أبلغ سلامي إلى الشيخ ابن باز، فقال: كيف عرفته؟! فقالت: لقد كنت أنا وزوجي عائلة نصرانية أسلمنا، ولكن طاردنا أقاربنا وضاقت بنا الدنيا، فسألت عن مساعد بعد الله؛ فقالوا: مالك بعد الله إلا ابن باز! فكتبت إليه وكنت لا أتوقع وصول الرسالة؛ ولكن فجأة إذا بالسفارة السعودية تتصل علي وتطلبني بمراجعتها، وإذا بسماحته قد أرسل لي بمساعدة عشرة آلاف ريال ... فهذا الرجل كان له فضل بعد الله في ذلك بعد ما عرف أننا في بلاء ونحن مسلمون"[7].
وتقول وفاء محمد الباز: "سألت التي اتصلت -للعزاء- بعد وفاته وهي من كوسوفو كيف عرفت الشيخ ابن باز؟ قالت: كيف لا أعرفه ومصروفي يصلني من عنده"[8].
والقصص كثيرة في تفريج الشيخ لكرب المكروبين وقضاءه حوائج المحتاجين من الأرامل والفقراء والمحتاجين[9].
 
مساعدته لراغبي الزواج:
مع كثرة اهتمامات الشيخ –رحمه الله- ومسؤولياته لم ينس الشباب وما يحيط بهم من الفتن والشهوات، حيث سعى إلى تيسير سُبل الزواج عليهم سواء بالنصح إلى أولياء الأمور للحدِّ من غلاء المهور، أو ببذل المساعدات المالية التي تعين الشباب على أمور الزواج والعفة.
وذلك من خلال المشروع الذي تبناه الشيخ لمساعدة الراغبين في الزواج والعاجزين عن تكاليفه، وقد بدأ ذلك المشروع في عام 1400هـ، برئاسته، وعضوية عدد من العلماء، ويقدم المشروع مساعدة لمن يرغب في الزواج قدرها خمسة وعشرين ألف ريـال[10].
وقد استفاد من هذا المشروع عددٌ كبيرٌ من الشباب والفتيات بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بسبب جهود الشيخ -رحمه الله- ونفقات المحسنين.

مشاركته في المشكلات الطارئة:
من أعظم الأعمال الاجتماعية التي تُحسب للشيخ –رحمه الله- مشاركته للناس في مشكلاتهم الطارئة، فلم يكن سماحته في معزلٍ عنهم بحكم مكانته العلمية والوظيفية، بل كان كثيرًا ما يهرع الناس إليه في المشكلات والملمات، من ذلك:

مشاركته في مواجهة السيول:
في عام 1360هـ تعرضت منطقة الدِّلم لموجةٍ من السيول الشديدة حتى دخلت المياه ساحات البيوت، فما كان من الناس إلا أن توجهوا إلى سماحة الشيخ لثقتهم في رأيه، فأمر بفتح الآبار المجاورة؛ من أجل تصريف المياه، ولم تمر عدة ساعات حتى زال الخطر وسلمت البيوت[11].
وعندما تكرر الأمر مرة أخرى وارتفع منسوب مياه السيول، أمر ببناء بعض السدود والحواجز التُرَابية وأمر كذلك بفتح الطرق المنحدرة، وخرج مع الناس بنفسه، ونادى في الناس بإحضار الأدوات، فخرج الجميع لإجابته، وتعاونوا حتى فرَّج الله عنهم الكرب[12].

مشاركته في القضاء على الجراد:
في عام 1364هـ هاجمت أسرابُ الجراد المزارع، وراحت تأكل الأخضر واليابس، فخرج الناس واجتمعوا على قتله بالجريد، وقد خرج الشيخ –رحمه الله- معهم؛ وذلك لشدِّ أزرهم وتشجيعهم على حماية مزارعهم[13].

الدعاء بالاستسقاء:
يذكر أن الأمطار قد تأخرت في عامٍ من الأعوام، فصلى الشيخ بالناس صلاة الاستسقاء، ودعاهم إلى التوبة والاستغفار؛ فاستجاب الله -تبارك وتعالى- لهم وأنزل غيثًا عظيمًا، وجرت السيول، فأرسل سماحته رسولًا إلى الملك عبدالعزيز – رحمه الله- يبشره بالغيث، فلما قرأ الملك الكتاب سأل الرسول، فأخبره أن الشيخ استسقى، فقال الملك: جزاه الله الخير، يا ليته أخبرنا قبل حتى نستغيث معه[14].

المساعدة على اختيار الأمير:
عندما توفي أمير الدلم ناصر الحقباني –رحمه الله- سنة 1367هـ، خشي الشيخ من تفرق الكلمة واضطراب الناس، فقام سماحته بجمع الأهالي ورتَّب طريقة للشورى فيما بينهم، من أجل اختيار أمير جديد للمنطقة، حيث طلب من كل أسرة أن ترشح رجلًا يتحدث بلسانها ويعبر عن رأيها، وبالفعل تمت الشورى باختيار عبدالعزيز بن حسن بن سيف أميرًا عليهم، وكتب الشيخ تأييدًا لذلك، وأرسله للملك عبدالعزيز –رحمه الله- فأقرَّ سموه ما فعل سماحته[15].
فقد كان سماحة الشيخ في هذه المنطقة كالحاكم بتأييدٍ من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- نظرًا لبُعد الشُّقة عن العاصمة (الرياض) وصعوبة المواصلات في هذه الأثناء فضلًا عن الاتصالات[16].

قضاء الحوائج والشفاعات:
لقد عرف الشيخ –رحمه الله – بقضاء حوائج الناس قدر استطاعته، حتى أصبح هذا الأمر من أبرز أعماله المبرورة، ومساعيه المشكورة، فلم يلجأ إليه أحدٌ لقضاء حاجةٍ إلا وبذل له الشيخ جاهه وكتب له شفاعة، وعندما سُئل –رحمه الله- عن حرصه على ذلك ذكر للسائل قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا[النساء:85] وقول النبي ﷺ: «اشفَعُوا تُؤجَروا» [17].[18].
وقد كان –رحمه الله-  إذا وُفق لقضاء بعض حوائج الناس يفرح أشدَّ الفرح ويشكر الله أن أعانه على تفريج كرباتهم وإقالة عثراتهم، وكان يرى أن ذلك من أقل الواجبات عليه، وكان يقول: "ليس البخيل بخيل المال، بل البخيل بخيل الجاه ولكل شيء زكاة وزكاة الجاه الشفاعة للمعسورين والمحتاجين"[19].
وقد تعددت أنواع الشفاعات التي كان يبذلها وتنوعت، فمنها:
الشفاعة في رفع الظلم عن المظلومين سواء في الداخل أو الخارج.
الشفاعة في منح الإقامة النظامية.
الشفاعة في المِنَح الدراسية.
الشفاعة في قبول الطلاب إذا توافرت فيهم الشروط.
الشفاعة في قضاء الديون عن المدينين.
الشفاعة في تعمير المساجد، وبيوت الأئمة والمؤذنين في الداخل والخارج.
الشفاعة في إصلاح الطرق والمرافق العامة.
الشفاعة في إصلاح ذات البين، سواء بين الأفراد، أو الجماعات، أو الدول.
الشفاعة في نقل المدرسين والمدرسات.
الشفاعة في دعم المراكز والجمعيات الإسلامية.
الشفاعة لبعض المسجونين في الداخل والخارج.
الشفاعة في فتح المدارس، والمعاهد، والكليات الإسلامية.
الشفاعة في افتتاح مراكز الدعوة والإرشاد.
الشفاعات في الوظائف الحكومية لمن تتوافر فيهم الشروط.
الشفاعات في التكفل بطباعة الكتب النافعة وتوزيعها.
الشفاعة في بناء المدارس الخيرية.
الشفاعة في علاج المرضى.
الشفاعة في المنح الرعوية السعودية.
الشفاعة في إصلاح المناهج الدراسية، وإبعاد ما لا فائدة فيه.
الشفاعة في حفر الآبار، وسقي القرى والهجر.
الشفاعة في تأمين سيارات لنقل الماء، وسقي المحتاجين إليه.
الشفاعة في تركيب مكائن الكهرباء للبيوت والمساجد.
الشفاعة في تسوير المقابر، وحفظها من الامتهان.
الشفاعة في إيصال الكهرباء إلى بعض القرى والهجر.
الشفاعة في تأمين سيارات للدعاة خارج المملكة.
الشفاعة في تعيين الأكفاء من الموظفين في جميع المجالات.
ويُذكر أن الشيخ عندما كان قاضيًّا على الدِّلم كتب لبعض المسؤولين يطلب منه تعيين شخص ليكون أميرًا على قرية من القرى، فرد عليه ذلك المسؤول: بأن هذا ليس من اختصاصك، وأنه من اختصاص جهات معينة، وأنت قاضٍ وينبغي أن تترك مثل هذه الأمور. فرد عليه الشيخ وقال: إذا كان القضاة والعلماء لا يدخلون في مثل هذه الأمور، فمن الذي يدخل؟ فالقضاة أولى من غيرهم، فسكت ذلك المسؤول، واستجاب لشفاعة سماحة الشيخ[20].
وقد انتفع خلقٌ كثيرٌ داخل المملكة وخارجها بهذه الشفاعات التي كان لها المكانة العالية، بسبب مكانة الشيخ في قلوب الجميع، فلم يشفع الشيخ –رحمه الله- في أمرٍ من الأمور إلا وسارع الجميع في تنفيذ هذه الشفاعة.
لقد تعددت الأعمال الاجتماعية للشيخ –رحمه الله- والتي تعبر عن علو همة الشيخ وحرصه على نفع المسلمين بشتى الطرق، جعل الله ذلك كله في ميزان حسناته، وجزاه الله خيرًا على ما قدم في خدمة المسلمين.
  1. انظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، محمد بن إبراهيم الحمد (378).
  2. انظر: المصدر السابق (379).
  3. انظر: المصدر السابق (379-381).
  4. انظر: المصدر السابق (381-384).
  5. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (ص 161).
  6. المصدر السابق (ص 196).
  7. المصدر السابق (ص 197-198).
  8. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، إبراهيم بن عبدالله الحازمي (ص 244).
  9. للاستزادة من ذلك، ينظر: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، إبراهيم بن عبدالله الحازمي (ص 240)، الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (ص 196 وما بعدها).
  10. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، محمد بن إبراهيم الحمد (364-365).
  11. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (ص 161).
  12. انظر: المصدر السابق، نفسه.
  13. انظر: موسوعة أعلام القرن الرابع عشر والخامس عشر لإبراهيم الحازمي (1/23).
  14. انظر: ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، عبدالعزيز بن قاسم، محمد زيد التكة (52).
  15. انظر: ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، عبدالعزيز بن قاسم، محمد زيد التكة (49).
  16. انظر: المصدر السابق نفسه.
  17. متفق عليه.
  18. انظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى، إعداد محمد بن إبراهيم الحمد (298).
  19. انظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف (158:157).
  20. انظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، محمد بن إبراهيم الحمد (299-301).