هيبته وعنايته بهيئته

لا بد للعالم من هيبةٍ تحفظ له مكانته، وتجعل كلمته مسموعةً في أوساط المحيطين به، ولا يعني ذلك التَّكبر على الخلق، أو احتقارهم وهضم حقوقهم، بل إن ذلك من نقيض الهيبة، وهو قرين الظلم، فالهيبة والوقار لا يُضادَّان الرحمة والرفق وحسن الخلق، فكل ذلك من مَعِينٍ واحدٍ، فمَن تعلَّق بالله تعالى وحسُنت أخلاقه قذف الله في قلوب العباد محبته، وأوجب عليهم هيبته.
وقد كان لشيخنا رحمه الله من ذلك النصيب الأوفر والحظ العظيم، فقد نبتت هيبته في قلوب الناس كما تنبت الثمار على الأشجار، وسقاها شيخنا بحُسن خلقه وطيب خِصاله حتى أَيْنَعَتْ وآتت أُكُلها.
وفي الأسطر القادمة نتعرف معالم تلك الهيبة، والتي كان من مقتضياتها العناية بالهيئة وحسن المظهر، وقد حافظ شيخنا على ذلك كما سنرى:

أولًا: هيبة الشيخ
على الرغم من التواضع الشديد الذي تميز به سماحته –ولا أدل على ذلك من مشاركة الفقراء والمساكين له في طعامه- والرفق بالمخاطبين والعفو والصفح والتماس الأعذار، إلا أنه رحمه الله كان مهابًا مُعَظَّمًا في نفوس الناس، المقرَّبين من سماحته وغير المقرَّبين، فما أن يراه الرائي إلا ويجد له في قلبه من المكانة والمهابة ما يجعله يتردد أحيانًا عن الحديث معه، يقول الشيخ محمد الموسى: "لقد عُرف عن سماحة الشيخ الحلم، والتواضع، والعطف، والشفقة، والبساطة، وحب الخير، ولين العَرِيكة، فلم يكن يُعنِّف أحدًا، ولم يكن يُقابل الإساءة بالإساءة، بل يعفو ويصفح، ويُقابل الإساءة بالإحسان، ولم أسمع منه طيلة ست عشرة سنة كلمةً تُعاب، بل كان دأبه الرفق والرحمة بالناس وبمن يعملون معه.
ومع ذلك كله فإن لسماحة الشيخ هيبةً عظيمةً في قلوب الناس، سواء كانوا من المُراجعين، أو ممن يعملون مع سماحته.
ولقد رأيتُ كثيرًا ممن لهم المكانة الكبرى عند سماحة الشيخ، أو مَن لهم وجاهة بين الناس، إذا حضروا عند سماحته حصل عندهم تلعثم وارتباك ...
وفي بعض الأحيان يأمر سماحته بالاتصال على شخصٍ ما، وربما كان ذلك الشخص كبيرًا، أو ذا مكانةٍ في الناس، فإذا قيل له: إن سماحة الشيخ يرغب في مجيئك إليه في وقت كذا وكذا. ظهر عليه الارتباك، وبدا ذلك من خلال نبرات صوته، وأخذ يقول: ماذا يريد مني سماحة الشيخ؟ ويحاول أن يعرف السبب في ذلك.
وقد يأتي إلى سماحة الشيخ بعضُ الناس ممن طبعه الغلظة والقسوة والجفاء لحاجةٍ ما، فإذا رأى سماحةَ الشيخ تباعد عنه، وطلب من أحد الكاتبين أن يعرض موضوعه على سماحة الشيخ، فإذا قلنا له: تقدم للشيخ، قال: لا أستطيع مواجهته.
ولقد رأيتُ بعضهم إذا قدم إلى سماحته قال: أنتم بمنزلة والدي، وأعُدّ إشارتكم أمرًا، ومجيئي إليكم شرفًا ...
بل إن هيبته لم تكن لتقتصر على مَن هو بعيد عن سماحته، بل إن الذين يعملون معه ويرونه صباح مساء يهابونه، ويحسبون له ألف حسابٍ، فيقومون بالعمل كما ينبغي، ولا يتكلمون عنده إلا بعد تحري الصواب، وملائمة الكلام للمقام، مع ما كان منه من السماحة.
وأذكر أن رجلًا قدم من الاتحاد السوفيتي بعد تفكك الشيوعية، فلما دخل على سماحة الشيخ سأل عنه، فقلتُ له: ها هو سماحة الشيخ سلِّم عليه، فتردد قليلًا، فقلتُ له: أُقدم، وسلِّم، سماحة الشيخ من أيسر الناس. فقال: لا أجرؤ على السلام عليه. فحاولتُ به مرارًا حتى سلَّم على سماحته". [1]
إذن فهيبة الشيخ كانت حاضرةً في القلوب، لكنها لم تكن عن خوفٍ أو سوء طبعٍ وغلظ قولٍ، فالشيخ رحمه الله عُرف بحُسن خُلقِه، بل كانت إجلالًا وتقديرًا لسماحته، واحترامًا وتوقيرًا لمكانته التي تبوَّأها في أمته، وقبل هذا وذاك فهي نعمةٌ من الله تعالى، امتنَّ بها على شيخنا؛ ليحفظ له مكانته، ويُهيِّئ له سبل النجاح في تبليغ دين رب العالمين.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "مما تميز به سماحته رحمه الله الهيبة، وقد حدثني غير واحدٍ من كبار العلماء الفضلاء وطلبة العلم أن للشيخ هيبةً فيها عزَّة العلماء مع عظيم مكانتهم وكبير منزلتهم، وهذه الهيبة قذفها الله في قلوب الناس، وهي تَنُمُّ عن محبةٍ وإجلالٍ وتقديرٍ له، لا من خوفٍ وهلعٍ وجبنٍ منه، والذي يظهر أن الشيخ رحمه الله قد فرض احترامه على الناس بجميل شمائله، وكريم أخلاقه، مما جعلهم يهابونه حياءً منه، ويُقدِّرونه في أنفسهم أشدَّ التقدير ...
ومما زاد هيبته أنه ابتعد عن ساقط القول، ومرذول اللفظ، وما يخدش الحياء أشدَّ الابتعاد، فلا تكاد تجد في مجلسه شيئًا من الضحك إلا نادرًا ولمامًا، بل تجد مجالسه عامرةً بذكر الله، والتفكر والتأمُّل في الدار الآخرة.
ومع هذه المكانة العظيمة والمنزلة السامية والهيبة، فإنه آيةٌ في التواضع، وحُسن المعاشرة، وعلو الهمة، وصدق العزيمة، مع عزَّةٍ في النفس، وإباءٍ في الطبع، بعيدًا كل البعد عن الصَّلَفِ والتَّكلُّف المذموم، كأنَّه واضعٌ نُصب عينيه قوله تعالى: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]". [2]
ويصف الدكتور خليل بن عبدالله الخليل ما لمسه في مجالس الشيخ، وحال الحاضرين في تلك المجالس حين يتحدث الشيخ، فيقول: "لمجلسه هيبة، ولوجوده حضور في النفوس، بصرف النظر عن السن والثقافة والمنصب، فهو يملأ نفوس الحاضرين، ويملك عقولهم؛ لذلك عندما يتحدث يُنصت الجميع وكأنَّ على رؤوسهم الطير". [3]
ولم تقتصر هيبته على فئةٍ دون أخرى، أو جماعةٍ دون غيرها، بل كانت عامَّةً في قلوب الجميع، الصغار والكبار، العلماء وطلبة العلم والعامة، الفقراء والمساكين وأصحاب الثراء والنفوذ، فالكل يعرف مكانته، ويُقدِّره حقَّ قدره.
يقول الدكتور ناصر الزهراني: "مع تواضعه الجم وأدبه الرفيع كان مهابًا عند الناس على مختلف مستوياتهم، يهابه الأمراء والوزراء، ويُجلُّونه ويُبجِّلونه، يهابه العلماء والمفكرون، ولا يتقدَّمون بين يديه، يهابه الصغير والكبير، والقريب والبعيد، بل رأيتُ الملازمين له الذين قد أخذوا عليه وأخذ عليهم لما لهم من سنوات طويلةٍ وهم في صحبته، رأيتهم حينما يدلف إليهم أو يُقبل عليهم ينهضون استقبالًا له، ويصمتون إجلالًا له، ويطرقون احترامًا له.
ولقد كنتُ أجد له من المهابة والجلال في نفسي ما يجعلني أذوب حياءً منه، وأفعم إكبارًا له، وعلى الرغم من أنني من المقرَّبين إليه، ولا أذكر أنه ردَّ لي قولًا، أو رفض لي شفاعةً، فقد كنت أحيانًا كثيرة أتحمس للحديث معه في أمر معين، فأزور كلامًا في صدري، وأرتب أفكاري، وأستجمع قواي، وكان يُداعبني رحمه الله كعادته مع كثير ممن يُحب، فإذا أتيته وقلتُ له: يا سماحة الشيخ، عندي أمر هام، وموضوع ملح أريد أن أُكلم سماحتكم فيه، يبتسم ثم يقول: "خير، خير إن شاء الله، عسى ما هو زواج"، ومع كل هذا التواضع منه والتَّلطف إلا أنني والله كنتُ أجد له من المهابة ما يُضيع أفكاري، ويُبعثر معلوماتي، ويُربك كياني، ولا ينطلق لساني". [4]
بل إن أبناءه أيضًا كانوا يهابونه، رغم قربه منهم، وحُسن تعامله معهم، يقول ابنه أحمد: "كان الشيخ رحمه الله يتعامل معنا بلطفٍ ورفقٍ، فهو لا يفرض رأيه علينا فرضًا، بل يعرضه عرض الناصح المشفق، ولا يتعصَّب لهذا الرأي، وكان رحمه الله يجالس أبناءه، ويتعرف على مشاكلهم، وقد خصص لنا بعض الوقت مساء للسمر والمحادثة، وكان يحرص على حثنا على الأعمال الخيّرة، ورغم التواضع والبساطة إلا أن للشيخ مهابةً في نفوس أبنائه؛ نظرًا لما منحه الله من هيبةٍ، فقد كنا نخجل منه رغم بساطته وقربه منا رحمه الله". [5]

ثانيًا: عناية الشيخ بهيئته
اعتنى شيخنا رحمه الله بنظافة ملبسه وجمال مظهره رغم كثرة مشاغله وتنوع مسئولياته، وذلك في حدود ما حثَّ عليه الإسلامُ أتباعه، وما جاء عن نبيّنا ﷺ بلا إسرافٍ ولا تقتيرٍ، فمنهجه دائمًا الوسطية والاعتدال في كلِّ شيءٍ، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما يأتي ويَذَر؛ لذلك كان حريصًا على لبس الأبيض من الثياب، مع تقصيرها بحيث لا تتجاوز الكعبين، كما حرص على استعمال الطِّيب وتغيير الشعر الأبيض بالحناء مع تجنب السَّواد.
يقول الشيخ محمد الموسى: "كان سماحة الشيخ رحمه الله يعتني بمظهره بلا إسرافٍ، ولا مخيلةٍ، فهو يعتني بنظافة بدنه، وقصّ شاربه، ويتعاهد نفسه بالطيب كثيرًا، بل كان يستعمله كل يوم، ويُدار بخور العود في مجلسه أكثر من مرةٍ، وإلا فلا أقلّ من أن يُدار مرةً واحدةً.
وكان يلبس مشلحه –بشته- في صلاته، وزياراته، وذهابه إلى عمله، وكان ثوبه يعلو كعبه بنحو أربعة أصابع، فهو يرى أن نزول الثوب أو السراويل أو المشلح أسفل الكعبين منكر محرم، سواء كان ذلك للخيلاء أو لغير الخيلاء، ويقول: "إن الإسبال حرام؛ فإن كان للخيلاء فهو أشد تحريمًا".
وفي يوم من الأيام لبس سماحته مشلحًا جديدًا، وكان ذلك المشلح على خلاف ما كان عليه سماحة الشيخ، حيث كان المشلح نازلًا عن الكعبين، ولم يكن سماحته يعلم بذلك، فقال له شخص: يا سماحة الشيخ، مشلحك هذا نازل عن الكعبين، ولا أدري هل تغير رأيُكم في وجوب رفعه؟ فما كان من سماحة الشيخ إلا أن خلعه ورماه، وقال لي: "اذهب به إلى مَن يرفعه"، وصادف أن كان سماحته في ذلك الوقت في مكة في آخر رمضان، فجاء إلى الرياض وليس عليه مشلح.
وكان يتعاهد لحيته بالحناء، ويرى تغيير الشَّيب، وحُرمة تغييره بالسَّواد". [6]
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "يُعد شيخنا رحمه الله حسن الهيئة، جميل المظهر، يعتني بحسن هندامه وثيابه، ولا يتكلف في ذلك أبدًا، ويحرص جدًّا على لباس البياض في ثيابه، ويُحب ارتداء الثياب الواسعة، وثيابه تصل إلى أنصاف ساقيه، ويُزين ثيابه بمشلح وعباءة عودية اللون في الغالب، وكان رحمه الله يحمل العصا، وآخر عصا معه أهداها له الشيخ العلامة أبو حبيب عبدالعزيز بن محمد الشثري رحمه الله، وفي الجملة فهو سلفي في المظهر والشَّارة". [7]

ممارسته لرياضة المشي:
من عناية شيخنا بهيئته واهتمامه بمظهره: ممارسته لرياضة المشي، سواء كان ذلك من بيته إلى مسجده، أو داخل منزله قبل أن ينام، يقول الشيخ محمد الموسى: "كان سماحة الشيخ يُحب رياضة المشي، وكان كثيرًا ما يمشي، خصوصًا قبل إصابة قدمه في شهر شعبان عام 1414هـ.
فكان رحمه الله يمشي من بيته إلى المسجد ولو بعُدت المسافة، ولما كان في المدينة كان بيته يبعد عن الحرم مسافة تزيد على الكيلو متر، وكان يسير إلى المسجد على قدميه، إلا إذا خاف فوات الوقت.
وفي الرياض بعدما جاء من المدينة في نهاية 1395هـ صار إمامًا للجامع الكبير في الرياض قرب قصر الحكم، وسكن في بيت سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وكان يمشي من بيته إلى المسجد، مع أن المسافة كانت كيلو متر تقريبًا.
ولما سكن بيته الذي يقع في حي البديعة في الرياض كان يسير من بيته إلى المسجد الذي يقع غربي بيته على قدميه.
وفي مكة المكرمة كان يمشي من بيته الذي يقع في العزيزية إلى المسجد الذي يقع في الجهة الشرقية في أغلب الأحيان.
ويقول رحمه الله: "إنني رتبتُ وقتًا للمشي مدة تتراوح ما بين ربع ساعة إلى نصف ساعة كل يوم"، وذلك قبل النوم، وفي الصباح بعد المجيء من الدرس، وبعد القيام من مكتب البيت في الصباح، حيث كان سماحته يمشي في الغرفة، أو بين البيوت". [8]
فلم تمنعه المسئوليات الملقاة على عاتقه والمهام الموكلة إليه من الاهتمام بهيئته والعناية بمظهره، فقد وعى جيدًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله جميلٌ يُحب الجمال[9]، وكما تقدم فإنه رحمه الله لم يكن يشغله شيءٌ عن شيءٍ، أو يهتم بأمرٍ دون آخر، وظلَّ على هذا النحو إلى آخر حياته المباركة، فنسأل الله تعالى أن يحشره في زمرة النبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين وحسُن أولئك رفيقًا.
  1. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (129-131).
  2. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (38).
  3. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (590).
  4. إمام العصر، لناصر الزهراني (85).
  5. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (38،37/1).
  6. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (37).
  7. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (38،37).
  8. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (521).
  9. أخرجه مسلم (91).