سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في كتابات علماء شبه القارة الهندية الباكستانية

د. سمير عبدالحميد إبراهيم
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
 
بالأمس القريب فقدت المملكة العربية السعودية، بل فقد العالم العربي والإسلامي عالمًا جليلًا، وهب حياته لخدمة الإسلام والمسلمين، فقد قضى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - تغمده الله برحمته - حياته يعمل من أجل الدين الحنيف من مواقع مختلفة منذ أن ولي قضاء الخرج عام 1358هـ، وبعد عمله في المعاهد العلمية عام 1371هـ، وقيامه بالتدريس في كلية الشريعة، ثم تعيينه نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1381هـ، وكان رئيس الجامعة آنذاك هو سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ.
كما كان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عالمًا جليلًا وأبًا رحيمًا، يرعى طلبة العلم، كما كان يدعو بالتي هي أحسن، فنال حب الجميع وتقديرهم، ولا أدل على ذلك من تقدير ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية لشخصه - يرحمه الله، وكم سمعنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده يخاطبانه دائمًا بالوالد سماحة الشيخ، أما طلبة العلم من جميع أقطار العالم الإسلامي فكانوا يفدون عليه ويجلسون معه يحضرون مجالسه العلمية ويشاركونه الطعام، فالشيخ الجليل كان حريصًا على استثمار وقته كله فيما يفيد الإسلام والمسلمين.
كما كان - رحمه الله - على دراية كاملة بالمدارس الفكرية والمجالس الأدبية، وما يدور فيها من نقاش وحوار، ولم يكن يأل جهدًا في سبيل إبداء الرأي وإسداء النصيحة، ويذكر كاتب السطور أنه تلقى تشجيعًا من سماحته - رحمه الله - بعد إلقاء محاضرة عن الإسلام في اليابان، ونصحنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بالاهتمام كثيرًا بالدعوة الإسلامية في اليابان، وكان لتشجيعه أثر طيب ونتائج مفيدة.
لقد نال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز تقدير واحترام علماء الهند وباكستان الذين حرصوا دائمًا على لقائه أثناء زيارتهم للمملكة العربية السعودية، وحرصوا دائمًا على بيان مشاعرهم ومحبتهم للشيخ ووصفه بما حباه الله إياه من نعمة التفقه في الدين، والسماحة وحسن الخلق، والتواضع، وما إلى ذلك من صفات أرى من الواجب أن ننقلها من مصادرها، وهي كثيرة ومتعددة، أختار منها مصدرين فقط على سبيل المثال لا الحصر:
- فقد زار العلامة الشيخ أبو الأعلى المودودي - رحمه الله - المملكة العربية السعودية وبقي في الرياض عدة أيام من شهر نوفمبر 1959م وزار بلادًا عربية أخرى، وسجلت رحلته في كتاب بالأردية بعنوان (سفرنامه أرض قرآن) أي: رحلة في أرض القرآن، في 348 صفحة من القطع المتوسط، في هذه الرحلة وردت صفحات تحت عنوان: (الشيخ عبدالعزيز بن باز)[1]، جاء فيها:
"بعد المغرب شرفنا العالم النجدي الشهير الشيخ عبدالعزيز بن باز، مع جمعة الأحباب، وكان الأستاذ عابدين المصري قد أخبرهم بوصولنا إلى الرياض، ورغم أن الشيخ عبدالعزيز ولد مكفوف البصر، ورغم عدم تقدمه في العمر إلا أنه يعد من علماء المملكة العربية السعودية الكبار، وقد نال شهرة، ونال حب الناس في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية لما يتصف به من علم وذكاء وبساطة وتواضع واستغناء والرغبة في المزيد من التعلم، وأكثر من هذا وذاك شجاعته في قول الحق، وكان يقوم بالتدريس في كلية الشريعة، وينال عن ذلك راتبه الشهري، وبعد تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عين نائبًا لمديرها.
وقد وصل حب الناس للشيخ عبدالعزيز بن باز إلى حد أننا أثناء سفرنا داخل المملكة العربية وخارجها أيضا لم نجد عالمًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ولم نجد رجلًا من أعيان الناس أو من عامتهم إلا وأثنى على علمه وإخلاصه وشجاعته في قول الحق، وقد أعطاني سفير المملكة العربية السعودية في باكستان الأستاذ محمد الحمد الشبيلي خطابًا له، وكنا ننوي الذهاب للقائه، لكن الرجل جاء إلينا بنفسه، وحضر للقائنا قبل أن نذهب إليه، والحقيقة أن أهل الجزيرة متواضعون تمامًا ويراعون احترام الزائر لبلادهم، فعندهم مقولة مشهورة هي القادم يزار، وهي قاعدة يتمسكون بها تمامًا".
ثم يذكر كتاب (سفرنامه أرض قرآن) ما دار من لقاء بين العلامة المودودي وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمهما الله - وذهابهما للقاء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن والأمير مساعد بن عبدالرحمن، ووصف الكتاب كرم الضيافة النجدي ورفقة الشيخ عبدالعزيز بن باز للمودودي ورفاقه.
- وإذا ما رجعنا إلى الوراء وبالتحديد أواخر سنة 1949م بداية سنة 1369هـ، وجدنا عالمًا آخر من علماء شبه القارة هو العلامة مسعود عالم الندوي (مؤلف كتاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) يزور ديار العرب ويسطر ذكرياته في كتاب ضخم سماه: (شهور في ديار العرب) ترجمة كاتب هذه السطور، وطبعته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بتشجيع من صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني والرئيس الأعلى لمجلس إدارة المكتبة حفظه الله، والكتاب الذي يقع في 450 في أصله الأردي و648 صفحة في ترجمته العربية جدير بأن يقرأه كل مهتم بتاريخ الجزيرة الثقافي والحضاري.
كتب المؤلف عن ذكرياته في الرياض، وعن لقائه بسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وكان يحلو له أن يسميه: (الباز)، والباز هو الصقر الذي يحلق في الأجواء عاليًا، نظره ثاقب، كريم النفس، عزيز، قوي الهمة، جسور.
يذكر الشيخ العلامة مسعود عالم الندوي في رحلته ما يلي:
"بدأنا الآن (10 من ذي القعدة 1368هـ/ 3 سبتمبر 1949م) نألف الرياض ونأنس بها، ذهبنا إلى الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ الذي رحب بنا ترحيبًا حارًا، ودار الحديث عن سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وموضوعات متنوعة، وتقرر أن نلتقي بالشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ بعد المغرب، وهو من أكبر العلماء، وكان الشيخ قد بنى منذ فترة بسيطة بيتًا جميلًا، جلسنا على سطح البيت.
كانت الجلسة على الطريقة العربية: فرشت السجاجيد، ووضعت الوسائد والحشايا، واستمر توافد الضيوف واحدًا تلو الآخر، وقدم أحد تلاميذ الشيخ وهو عالم ممتاز يدعى الشيخ عبدالعزيز الباز (هكذا في الأصل) قاضي الخرج.
ودار الحديث بطريقة علمية مهذبة، قال الشيخ عبدالعزيز بعد أن سمعني امتدح جهود عبدالحميد الخطيب (سفير المملكة في باكستان):
- إنه يسرنا سماع نشاط وجهود عبدالحميد الخطيب لكنه يطبع الصور على إمساكية رمضان، وهذا غير طيب؛ لأنه قد يجر إلى تقديس الصور في المستقبل.
كنت قد اطلعت إلى مقال للشيخ عبدالعزيز بن باز في مجلة الهدي النبوي القاهرية، فأثنيت على المقال، فلفت نظره إلى هذا الشيخ محمد بن إبراهيم قائلا:
- عبدالعزيز! مسعود الندوي يثني على مقالك.
فسُر الشيخ، ودعا لي، ثم أثنى الشيخ عبدالعزيز بعد ذلك على كتاب (النظرية السياسية)، وسأل عن أحوال المودودي واعترض على قول المودودي في الآية الكريمة: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ بأن معنى الحديد هنا: القوة السياسية بالأردية (سياسي قوت) ثم قال:
- يمكن أن يكون الأصل: قوة أساسية (بالأردية أساسي قوت) ثم جاءت الترجمة: قوة سياسية .
فقلت: لا، في الأصل أيضا: قوة سياسية، والمترجم التزم بالأصل.
- فقال: حسنا هذا أمر بسيط، ولا أثر له على الكتاب الأصلي.
وتحيرت، كيف وصله كتابنا هذا؟! فقد أعطيت مجموعة واحدة من كتبنا لولي العهد، وأخرى للشيخ حسن الشنقيطي، وهنا في هذا المجلس قدمنا مجموعة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم، وعرفنا فيما بعد أن ولي العهد أعطى المطبوعات للشيخ عمر بن حسن، وأن الشيخ عبدالعزيز بن باز أخذها من الشيخ عمر!!.
إن ما جاء في كتاب (شهور في ديار العرب) عن الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - يدل على حرص الشيخ منذ بدء حياته على مطالعة كل ما يصدر عن الإسلام من كتابات بقلم العلماء المسلمين، ويدل أيضا على تواضعه وحرصه على رعاية أهل العلم وطلابه، ولما كان الكتاب الآن مترجمًا إلى العربية فأختصر حديثي هنا داعيًا الله أن يتغمد فقيد الأمة الإسلامية سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، آمين. [2]
 
  1. سفرنامه أرض قرآن: ص 89 وما بعدها.
  2. جريدة الجزيرة، الأحد 1 صفر 1420هـ.