طبت حيًا وميتًا.. يا شيخ العلماء

سليمان بن سالم الحناكي
 
قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] يوم الخميس الموافق 1420/1/27هـ إنه يوم وقف عنده التاريخ، ففي صبيحته استيقظ العالم الإسلامي على فاجعة عظيمة ومصيبة أليمة وخسارة فادحة، بكى منها المسلمون وحق لهم أن يبكوا، وحزنوا وحق لهم أن يحزنوا، لأن المصاب كان جللًا، والراحل كان علمًا، ففقيدهم هذه المرة ليس أي فقيد، وميتهم ليس أي ميت، إنه الطود الشامخ، وعلامة الأمة، وفقيه الفقهاء في زمانه، وجبل الفتوى، وإمام السنة، سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة.
لقد رزئت الأمة برحيل العالم الجليل والفقيه العظيم، ففقد مثل هؤلاء العلماء الأجلاء هي الخسارة الحقيقية، إن الشيطان ليفرح فرحًا شديدًا بموت هؤلاء العلماء؛ لأن العالم أشد على الشيطان من ألف عابد، فالعابد عبادته وعمله لا يتجاوزان نفسه، أما العالم فهو يعلم الناس الخير، فعلمه يتعداه إلى غيره، والعلماء كالنجوم في السماء، بها يهتدي الناس وعلى هداها يسيرون، فإذا طمست واختفت ضل الناس وتاهوا، فكيف والغائب عن سماء الهدى النجم الساطع وبدر العلماء وإمامهم الشيخ ابن باز، أحد أبرز علماء الإسلام في القرنين الأخيرين، وقد قال الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد (شيخ) يموت بموته خلق كثير
لقد كان الشيخ عالمًا ربانيًا يمثل القلة الباقية من السلف الصالح، ويذكرنا بأولئك الأئمة الأفذاذ الذين قلَّ أن يجود التاريخ بمثلهم، إنه يذكرنا بمشايخه الذين أحيوا السنة وقمعوا البدعة، شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومجدد الدعوة الإسلامية في القرون الأخيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمهم الله جميعًا، لقد كان الشيخ عالمًا ربانيًا متخلقا بخلق نبيه ﷺ، فعلم ودرس، وأرشد وأفتى، وشفع وأصلح بين ذات البين، وتفقد أحوال المسلمين، وخدم الإسلام والمسلمين في المملكة وفي العالمين الإسلامي والعربي على مدى عمره المديد الذي قضاه عالمًا مجاهدًا في خدمة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وفي خدمة قضايا الأمة، والحفاظ على حقوقها والتمسك بتعاليم الإسلام وقيمه السامية.
فالشيخ هو المرجع الديني الأول للأمة في الفتاوي الدينية وفي حسم المسائل الخلافية، فإذا اختلف الناس في أمر سألوا ماذا قال الشيخ ابن باز؟ لقد كانت فتاواه تجد القبول لدى الناس على اختلاف مشاربهم، لأنها نابعة من مصادرها الشرعية اليقينية، فكان العالم الإسلامي يعتبر فتاوي الشيخ ابن باز قضايا مسلمة لا تقبل الشك أو المجادلة، وفي مقابلة صحفية قال الشيخ - رحمه الله: "وأنا بحمد الله لست بمتعصب، ولكني أحكم الكتاب والسنة، وأبني فتاوي على ما قاله الله ورسوله، وليس على تقليد مذهب بعينه، فالفتاوي التي تصدر مني إنما أبنيها على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة حسب ما ظهر لي، وهذا هو الذي سرت عليه منذ عرفت العلم".
نعم لقد فقدت الأمة الإسلامية علمًا من أعلامها الكبار بعلمه وزهده وورعه، بذل علمه وماله وجاهه ووقته وحياته لصالح الإسلام والمسلمين، دعوة وعلمًا وتفاعلًا مع قضايا المسلمين في كل مكان وزمان واهتمامًا بشؤونهم وشجونهم، لقد أفنى حياته في الدعوة إلى دين الله، وتنقية العقيدة من البدع والشوائب، وإحياء سنة الرسول ﷺ.
وكان شيخنا عالمًا ورعًا زاهدًا بهذه الدنيا وسفاسفها، مدبرًا عن زخرف الحياة الدنيا وبهرجها، يعيش بجسده في الدنيا وقلبه معلق بالآخرة، كان الرحيل عن هذه الدنيا والاستعداد للقاء ربه، والتزود لما بعد الموت هاجسه وشغله الشاغل، وأذكر أنه قبل أربعين سنة في 1379/10/13هـ تلطف سماحته وبعث لنا بخطاب تعزية بوفاة والدنا الشيخ سالم بن ناصر الحناكي وكان مما كتب سماحته في هذا الخطاب: "ولا يخفاكم أن الموت طريق مسلوك ومنهل مورود، والمصاب في الحقيقة من حرم الثواب، والعاقل يبكي نفسه ويستعد للقاء ربه قبل أن يهجم الأجل ويفوت الأمل".
لقد تناقلت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية نبأ وفاة الشيخ، وبثته تلفزيونات وإذاعات الدول الإسلامية والعربية، وعلقت عليه طويلًا راثية بها الشيخ ومعددة مناقبه وسجاياه.
وعرف الشيخ - طيب الله ثراه - أنه كان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه بالله لومة لائم، وكان على صلة وثيقة بولاة الأمر لا يتوانى عن مناصحتهم بالحق والدعاء لهم بالخير، وقد نعاه الديوان الملكي، وتقدم المصلين عليه والذين قاربوا المليون مصل في المسجد الحرام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمير عبدالله وسمو النائب الثاني الأمير سلطان واخوانهم من الأمراء وكبار رجالات الدولة من الأمراء والعلماء والمسؤولين، وقد أحسنت وزارة المعارف بعزمها إقرار سيرة الشيخ ضمن مواد المنهج الدراسي، لأن سيرة هؤلاء الأعلام العظام هي النبراس الذي تهتدي به الأجيال وعلى أثره تسير نحو مدارج العلا والفلاح.
ونتقدم بخالص العزاء إلى أسرة الشيخ وإلى خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير عبدالله وسمو الأمير سلطان النائب الثاني وإلى الأمة الإسلامية، ونسأل الله أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته، وأن يجعل ما قدم رفعة له بالدار الآخرة، ويجبر مصيبة المسلمين في فقد شيخ يعجز القلم أن يوفيه حقه، وأن يعوضنا خيرًا في ما خلف من علماء هذه البلاد، وإنا لله وإنا إليه راجعون. [1]
  1. جريدة الجزيرة، الجمعة 6 صفر 1420هـ .