فجيعةٌ كبرى لهذه البلاد في فقد عالمها الجليل

د. محمد بن عبدالله آل زلفة
عضو مجلس الشورى
 
إن الموت حق والنهاية الحتمية قدر لا مفر منه لكل ذي روح على ظهر هذه البسيطة، وفي الوقت عظة لكل متعظ، وسبحان من بيده أزمّة الأمور، الباقي وكل شيء هالك.
فجعت وأنا أتلقى خبر وفاة شيخ الإسلام ومفتي أقدس أرض في المعمورة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، فالموت حق ولكنه فاجعة كبيرة عندما يخترم عَلَمًا بارزًا ومنارة من منارات العلم الشرعي في حجم وطول هامة الشيخ ابن باز، الشيخ الذي وهب حياته في دراسة العلم الشرعي وتدريسه وتبليغه إلى كافة الناس على بصيرة، الشيخ الذي تشهد له المنابر وحلقات الدرس وطلابه من المشايخ العلماء، الشيخ الذي لم تجمع الأمة على مثل شهادتها له بالعلم والتقوى والتواضع، الشيخ الذي لم تجمع الأمة على مثل محبته، الشيخ الذي ضرب في تواضعه أروع الأمثلة مع كبير قدره وإجلاله في كل النفوس، الشيخ الذي ضرب أروع الأمثلة في الزهد والانقطاع إلى الله والتفرغ الكامل للعلم وخدمة الإسلام والمسلمين، الشيخ العازف عن متاع الدنيا وبهارجها، تلمس ذلك في كل مظهر من مظاهر حياته، فنجده متواضعًا في ملبسه ومركبه ومسكنه، متواضعًا في حديثه ودرسه؛ لأنه يرى في ذلك جزءا من صدق العبادة، لا يتواضع تصنعًا لكي يقال عنه: إنه متواضع وعازف عن الدنيا، بل إنه جزء من خلقه الذي استمده من خلق القرآن والحديث وسيرة السلف، هذه المرتكزات القوية التي أقام عليها عماد حياته، فلقد أمضى حياته - يرحمه الله - التي امتدت لتسعين سنة وشغله الشاغل تتبع القرآن بالدرس والحفظ والتفسير وحفظ الأحاديث، والتعمق في فهمها، والتمحيص في صحيحها، وتتبع أسانيدها تتبع العالم المؤمن المدرك لأهمية التعمق في مصادر التشريع الإسلامي وهما: الكتاب والسنة، ثم الاقتداء بسيرة السلف الصالح الذين اقتدوا بدورهم بما جاء في القرآن الكريم والسنة.
إن حياة هذا العالم الجليل وما قدمه طوال حياته من خدمة للدين الإسلامي الصحيح الخالي من الشبهات والمغالاة والانجرافات وراء ما تمليه الأهواء لهي حرية بالتدوين والدراسة والنشر يوكل القيام بهذا الواجب إلى نخبة من علماء الدين كل في مجال من المجالات التي أفنى فيها شيخنا الجليل حياته يساعدهم في ذلك نخبة منتقاة من علماء التاريخ المشهود لهم يسجلون ويدوّنون ويمحصون كل آثاره في المجالات الشرعية المختلفة من فتاوى ودروس ومواعظ ومحاضرات وأحاديث في الوسائل الإعلامية المختلفة، ورسائله إلى العلماء وطلبة العلم ورسائلهم إليه لكي تبقى سجلا خالدًا لأعمال هذا الرجل الجليل الذي وإن ذهب عن عالمنا الذي لن يستثني من هذا الذهاب الحتمي أحدًا، إلا أنه سيظل خالدًا في قلوب الأجيال؛ وأعماله منارة تنير الطريق لكل الأجيال المتعاقبة؛ فالإنسان وكما جاء في الأثر يفنى إلا من ثلاث: عمل نافع يذكر به، أو علم يستفاد منه، أو ولد صالح يدعو له، وأن الشيخ ابن باز - يرحمه الله - قد ترك وبشهادة كل من يعرفه أو قرأ له أو استمع إلى أحاديثه من العمل الصالح ما يجعل الألسن لا تتوقف عن ذكره، أما العلم فيشهد به ما سطر من صحائف وما تركه من آثار علمية تعمر بها المكتبات، وقبل وفوق كل ذلك القلوب الواعية التي تستوعب من علم الشيخ - يرحمه الله - الشيء الكثير، وأما الولد الصالح فإنهم لا يقتصرون على أبنائه وبناته من صلبه، بل كل طلبة العلم الذين تلقوا العلم على يديه أو من خلال كتبه ورسائله وأحاديثه، فكلهم أبناؤه وكلهم يدعون له، إضافة إلى عامة المسلمين الذين تعمر قلوبهم بحب الشيخ ابن باز - يرحمه الله.
ومن ذا الذي في هذه البلاد لا يعرف الشيخ ابن باز ولا يحبه ولا يدعو له، أذكر بهذه المناسبة حادثة لن أنساها طوال حياتي رغم طول السنين التي مضت على وقوعها وصغر سني حينذاك، ارتبط اسم الشيخ عبدالعزيز بن باز بتفاصيل تلك الحادثة التي وقعت قبل حوالي خمس وأربعين سنة، وأنا لا أزال دون العاشرة من عمري، حيث كان في قريتنا الوادعة من قرى منطقة عسير أسرة تتكون: من زوج، وزوجة، وثلاثة أبناء، كان بين الزوج وزوجته من العشرة الجميلة ما كان يضرب به المثل في القرية، ولظرف ما ولربما لشدة وطأة ظروف الحياة على تلك الأسرة نزغ الشيطان بينهما فذلف من الرجل لفظ أبغض الحلال إلى الله على زوجته بطريقة كان للشرع فيها وجهة نظر.
فافترق الزوجان وأظلمت الحياة في وجه ذلك الزوج الذي يعرف الجميع أنه يحب زوجته حبًّا أقرب ما يكون إلى الجنون، وزوجته تبادله ذلك الشعور، لم يسد الحزن على تلك الأسرة لوحدها، بل عمّ كل سكان القرية وتحولت تلك الحادثة إلى مناحة تعاطفًا مع هذين الزوجين، وغادر الرجل القرية يطلب الفتوى، وطالت غيبته وهو يرحل من بلدة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، ولم يجد من يتفهم وضعه والظروف والكيفية التي حدث فيها الطلاق، ولا ما حلّ بتلك الأسرة من ظروف صعبة ومأساوية ألقت بكل ظلالها على بقية سكان القرية، وأصبح أكبر همَّ سكان قريتنا تتبع أخبار ذلك الزوج، وينتظرون عودته وهو يحمل فتوى تمكنه من لمّ شتات أسرته مرة أخرى، وعاد بعد طول غيبة ولم يظفر بما تغيب، وتألم من أجله فانكسرت مشاعر الجميع تعاطفًا مع تلك الأسرة فأشار عليه فاعل خير: لماذا لا تذهب إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز وتعرض عليه قضيتك فلعله يجد لك ما يعيد إليك زوجتك، فهو الشيخ التقي العالم الورع الذي منحه الله بصيرة العالم المتفهم، فشدّ الرجل الرحال إلى الرياض، ولعله أول شخص من قريتنا يذهب إلى الرياض، وظلت قلوبنا نحن أبناء القرية الكبار والصغار والرجال والنساء تدعو في أعماقها أن يحقق لذلك الزوج أمنيته، وكاد لا يكون للقوم من حديث سوى تتبع أخبار ذلك الرجل، وما عسى سيكون عليه حاله وهو يعرض مسألته على الشيخ ابن باز الذي أصبح الكل يردد اسمه في اليوم أكثر من مرة، وكلما ورد اسمه دعوا له بما فيهم أولئك الشيوخ والعجائز الذين لا يعرفون أين يقع موقع الرياض دعك عن معرفتهم بالشيخ نفسه.
ويعود الرجل بعد غيبة طويلة وهو يحمل بيده بشرى بفتوى شرعية من شيخ عظيم بجواز عودة المرأة إلى رجلها بعد أن تفهم ملابسات وظروف الطلاق، لم تشهد قريتنا في تاريخها فرحة أكثر من سماع تلك البشرى، وأقيمت احتفالات وأولمت الولائم احتفاءً بذلك الحدث السعيد، الأهم من ذلك كله ارتفاع أصوات الدعاء عالية من كل حناجر أبناء وبنات القرية للشيخ ابن باز بطول العمر وحسن الجزاء، ودخل اسم الشيخ عبدالعزيز بن باز تاريخ أهم أحداث القرية، بل عمّ كل القرى المحيطة، وبقي ذلك الاسم محفورًا في ذاكرة ووجدان كل أهل القرية.
رحم الله الشيخ ابن باز، فكم له من أيادٍ بيضاء على كثير من الأسر السعودية، وكم له من المواقف الإنسانية في معالجة الكثير من هموم وشجون هذه الأمة بروح العالم المتبحر في معرفة الدين الإسلامي الذي نزل لمساعدة الإنسان على التخلص من همومه ومشاكله، قبل شهور قليلة قدمت بطلة تلك القصة إلى رحمة الله فاستعاد الناس ذكرى تلك الحادثة وارتفعت الأصوات لاهجة بالدعاء للشيخ ابن باز عندما استعادوا قصة تلك الحادثة، وهم يقدمون العزاء لزوجها الذي أصبح وحيدًا بدونها، وإني لعلى يقين بأنه سيكون أكثر الناس حزنًا على فقدان هذا الشيخ الجليل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي هذه الديار الطاهرة المقدسة، وأن يجعل الله الجنة مسكنه ومأواه لقاء ما قدمه لهذه الأمة من جلائل الأعمال وأن يعوض هذه البلاد فيه خيرًا، وأن يجعل في من سيخلفه خلفًا لخير سلف، وإنا لله وإنا إليه راجعون. [1]
 
  1. جريدة الجزيرة، الاثنين 2 صفر 1420هـ.