فقد ابن باز ثُلمة في جسد الأمة

سعد بن تركي الخثلان
المحاضر بكلية الشريعة بالرياض
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: فيقول الله تعالى: وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ [الأنبياء: 34]، لقد فجعت الأمة الإسلامية بفقد علم بارز من أعلامها, فجعت بفقد إمام من الأئمة يعتبر من بقية السلف الصالح, هذا الإمام مآثره أكثر من أن تحصى, عاش نيفًا وثمانين سنة أمضى معظم هذا العمر في خدمة الإسلام والدعوة إلى الله ونشر العلم وتعليمه, إنه الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز, هذا الاسم الذي حفظه الكبير والصغير والذكر والأنثى والعالم والعامي, هذا الاسم الذي إذا اقترن برأي أكسبه قوة وقدرًا, لقد كان الشيخ رحمه الله قدوة للعلماء العاملين الناصحين لدينهم وأمتهم، وهو مدرسة للطلاب المتعلمين, مدرسة في الحرص على طلب العلم وتعلمه والجهاد والمجاهدة في سبيل ذلك، فهذا الرجل - كما يعلم من سيرته - كف بصره وهو صغير، ولم يثنه ذلك عن طلب العلم، فسعى في تحصيل العلم وصبر وصابر في الطلب حتى أصبح أكبر علماء الأمة الإسلامية وأكبر فقهائها, وهو مدرسة في الحرص على تعليم العلم ونشره وتبليغ دين الله عز وجل, يستغل كل فرصة تسنح في التعليم والتوجيه والإرشاد، وحتى في المناسبات الخاصة التي يُدعى لها لا بد أن يتخللها كلمة للشيخ، ثم إجابة عن بعض الأسئلة, وهو مدرسة في الحرص على الدعوة وتفقد أحوال الدعاة في العالم الإسلامي ودعمهم دعمًا ماديًا ومعنويًا.
وأذكر أنني لما سافرت لخارج المملكة للدعوة عن طريق جامعة الإمام كان أول سؤال يطرح علي من الجاليات الإسلامية هو السؤال عن صحة الشيخ ابن باز، وكنت إذا طرحت مسألة وقلت: هذا رأي شيخنا ابن باز سروا بذلك واعتبروا أن ذلك الرأي الذي تبناه الشيخ ابن باز حجة لهم أمام الله عز وجل.
وهو مدرسة في التقوى والورع والخشية, وكان كثيرًا ما يبكي من خشية الله عز وجل.
وهو مدرسة في حسن الخلق وكريم السجايا والخصال, قد فتح قلبه وصدره قبل أن يفتح بيته للناس، وأعطاه الله القبول فأحبه الناس على مختلف طبقاتهم, ومن التقى بالشيخ ولو لمرات قليلة ليعجب من سعة حلم الشيخ وتحمله وصبره، فلا يرى الشيخ إلا وقد التف به الناس، وأحاطوا به، وكل له مشكلة أو سؤال أو استفسار، فيجيب عن أسئلتهم جميعًا بكل رحابة صدر.
والشيخ مدرسة في الزهد في الدنيا والإعراض عنها بل لا تكاد تذكر الدنيا في مجلسه, وقد وصفه بعض الناس وأظنه ليس بمبالغ في ذلك الوصف بأنه من العلماء الذين لم يمر على الأمة الإسلامية مثلهم منذ قرون.
ومن مآثره العزيمة والتي كان لها أثر كبير على الأمة, دعوته الناس للتمسك بالكتاب والسنة ونبذ المذهبية والتعصب لأقوال الرجال.
والشيخ محدث فقيه صاحب أثر وسنة, وقد أثّر الشيخ بذلك على الأمة الإسلامية عمومًا، وعلى المملكة خصوصًا في التمسك بالدليل من الكتاب والسنة، وعرض أقوال الرجال على الكتاب والسنة، فما كان موافقًا منها للكتاب والسنة قبل وإلا رد, ويتضح لك هذا التأثير عندما تتأمل في فتاوى علماء المملكة، وترى أنهم كثيرًا ما يخالفون مذهب الحنابلة - وهو المذهب السائد في المملكة - اتباعًا للدليل, وقد ربّاهم شيخهم ابن باز على القاعدة إذا صح الحديث فهو مذهبي.
ولقد تتلمذت على الشيخ سنوات عديدة واستفدت منه علمًا كثيرًا وأدبًا جمًا وحضرت كثيرًا من دروسه فوجدتها دروسًا عظيمة نافعة على طريقة السلف الذين نقرأ لهم سيرهم وتتعطر المجالس بذكرهم, فللشيخ في رقبتي منة بل وله في رقبة كل طالب علم في هذا الزمان منة.
وإن فقد الشيخ لمصاب جلل ورزية عظمى ليس لأنه الشيخ ابن باز فحسب، بل لأنه عالم جليل حاز جزءًا من ميراث النبوة، فإن العلماء ورثة الأنبياء والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا لأنه لا ينتزع العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا, وإن فقد هذا الإمام ليحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والحمد لله على قضائه وقدره، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى, إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تغفر للشيخ، وأن ترحمه، وأن ترفع درجته في المهديين، وتجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, ونسألك أن تجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين[1].
  1. جريدة الجزيرة، الإثنين 2 صفر 1420هـ.