وانطفأ المصباح المضيء (1)

عبدالعزيز بن عبدالله السالم
 
نسعى جهدنا ونبذل كل طاقاتنا في دنيانا، ونحن نعلم أن أعمارنا محسوبة، وأن حياتنا موقوتة، وأن آجالنا مرصودة في كتاب لا يضل ولا ينسى، وأن رحيلنا عن هذه الدنيا التي ألفناها قدر لا محيد عنه، وأجل لا ريب فيه، وندرك أن دنيانا مهما اتسعت فهي محدودة، وأن آمالنا مهما امتدت فهي قصيرة، وندرك أن أمانينا مهما تسامت فإنها عاجزة عن بلوغنا ما نريد، وأن تطلعاتنا وأن بدت قريبة فإنها بعيدة المنال.
والإنسان في هذه الحياة ينظر إلى دنياه كثيرا ولا يلتفت إلى آخرته إلا قليلا فتمتد به الآمال حتى لا يرى غير حاضره، وتطول به الأماني حتى يكاد ينسى أن له نهاية يقف عندها: هذه حال أكثر المسلمين إلا من اختصهم الله تبارك وتعالى بالعلم الرباني، وأنار بصائرهم بالنور المبين، فاتجهوا إلى الهدى يستضيئون به ويبلغونه ويدعون إليه، فنفع الله بعلمهم وبارك في أعمالهم وأعمارهم، فاستطاعوا في الفترة التي عاشوها أن يحققوا نتائج كبيرة في مجالات كثيرة، كما استطاعوا من خلال تلك الفترة أن يـعلوا كلمة الحق، وأن يحملوا مشاعل الهداية، وأن يكونوا حراسا أمناء على العقيدة، كما حافظوا على نهج الدين القويم، وعملوا بصدق وإخلاص على نشر الدعوة للإسلام في كل مكان بقدر ما اتسعت له طاقاتهم وتأهلت له قدراتهم وواتتهم ظروفهم؛ فنشروا أضواء الإيمان في ربوع واسعة.
وممن تميز في حاضرنا بهذا النهج الواضح، وسلك هذا السبيل المستقيم، وحقق منجزات مباركة في حقل الدعوة والإرشاد وفي مجال العلم والإصلاح: سماحة شيخنا الوالد الكريم الشيخ عبدالعزيز بن باز، العالم الرباني الذي نذر نفسه لله تعالى، فقد استدبر دنياه واستقبل آخرته منذ نشأته، فلم يكن للدنيا نصيب عنده يشغله عما أعد لنفسه فيما يستقبل بعد مفارقته لهذه الدنيا: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.. لقد كان شيخنا تولاه الله برضوانه العاقل الفطن الذي عمل لآخرته؛ لأنها المصير الذي لا مصير بعده، ولم يلتفت إلى الدنيا التي كانت تغر سواه.
نشأ نشأة صالحة منذ طفولته المبكرة، وقد كف بصره في صغره فكان ذلك من نعم الله الكبرى عليه، على حد قول الشاعر الحكيم:
قد يـنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وعلى هذا الأساس تحدد مصيره المضيء فاستطاع أن يحو ل ظلمة عينيه إلى إشعاع متوهج الأضواء ممتد الأثر، وذلك بتحصيل العلم والعمل به، وقد عوضه الله عن فقد البصر نور البصيرة: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] .. وببصيرته المضيئة الوضيئة شق طريقه في الحياة العامة متعلما في البداية ومعلما بعد التعلم، وكانت معالم النبوغ المبكر واضحة في دراسته وتدريسه وفيما استقبل من حياته بعد ذلك..
لقد كان الكتاب رفيق دربه، وملازم مجلسه، فكل أوقاته مراجعة لكتب العلم وتحصيل دائب واستيعاب دائم حتى نهل من معين العلم الكثير وحقق بالمراجعة المفيد، وجلس مجلس الأستاذ من التلاميذ، وحل مكانة الشيخ من الطلاب، فكان المدرس والمرشد والموجه، ولم يشغله واجب عن آخر، فلم يشغله القضاء في بداية حياته العملية عن إقامة حلق الدرس واحتضان الراغبين في العلم، وحتى بعد ما توسعت دائرة مسئولياته العلمية والإدارية لم تقف همته العالية عند حدود العمل الوظيفي ولم تشغله عن نشر العلم وتوسيع آفاق المعرفة وإنما خطت به خطوات واسعة في مجال التعليم، فقام بالتدريس في كلية الشريعة النواة الأولى لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتولى الإشراف على الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم بعد ذلك تولى منصب مفتي المملكة العربية السعودية، ورئيس دائرة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد.
وجميع المناصب التي تولاها كان يديرها بحزم واقتدار وبرؤية إيمانية ثاقبة فهو الذي يتولى بنفسه البت في شئونها، كما أنه يجيب على المكاتبات، ويرد بالهاتف على السائلين والسائلات، ويرأس هيئة كبار العلماء، ويصدر الفتاوى، وينشر العلم الواسع والفوائد التي يحتاجها الناس، ويشارك في جميع وسائل النشر بعلمه الغزير، وقد جعل الله له القبول لدى المواطنين والمقيمين في بلادنا وسواهم من سائر المسلمين خارج البلاد: يوجهون لسماحته الإسئلة في الرسائل وعبر الإذاعة وبكل الطرق المؤدية لتلقي الفتوى لكبير الثقة فيه والاطمئنان إلى علمه واجتهاده، وهو العالم التقي الورع الذي يجتهد في تقصي المراجع الصحيحة، ويختار القول الراجح ولا يستنكف أن يقول لا أدري إذا لم يتبين له في المسألة وجه صحيح.
إلى جانب أنه نقي السريرة، طاهر القلب، قوله صورة لعمله، يحسن الظن بالناس؛ لأنه يراهم بمرآة نفسه، ويصدر في ذلك عن نبعه الصافي وطبعه الصدوق وخلقه الرائع، وما تربى عليه من تنشئة ربانية تحفها المعرفة من كل جانب، وتحيطها أنوار العلم من جميع الجوانب، وهو إضافة إلى تلك السجايا الكريمة فإنه كريم النفس سخي اليد، فلقد كان بيته مفتوحا ـ في أي بلد يحل فيه ـ يقصده طلاب العلم والسائلون عن الأحكام الشرعية والممثلون للجمعيات الدعوية في الخارج، فهو مقصد كل ذي حاجة يستقبل القاصدين بكل خلق كريم ويستضيف الغرباء في بيته، وكل ما يصل إلى يده من دخل مادي ينفقه ابتغاء مرضاة الله تعالى فقد طبعه الله على الكرم المتميز فكان منزله موئل القادمين وإكرام الضيوف، فهو لا يأكل زاده وحده بل يشاركه الكثيرون من قاصديه، وحتى عندما أصيب بمرض دخل على أثره المستشفى نصحه الأطباء بأن يخصص لنفسه طعاما تتوافر فيه عناصر تغذية معينة، فلم يوافق على أن يخص نفسه بغذاء خاص أو ينفرد للأكل وحده، وإنما يأكل مع الجموع الكثيرة التي تفد إليه وتتحلق حول مائدته وكان هذا دأبه طيلة حياته.
شغل أوقاته كلها بالعلم والفـتيا ووسائل الدعوة الإسلامية وكل ما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وكانت جميع أوقاته مملوءة بمتابعة المسائل العلمية ومراجعة القضايا الفقهية والأحاديث النبوية التي له فيها الباع الطويل والتخصص المحمود إلى جانب اتساع علمه وسعة مداركه..
وفي ضوء ما سلف فقد أجمع الناس على حبه وإجلاله لما يتمتع به من مكارم الأخلاق والتواضع الجم والتفاني في أعمال الخير والسعي لصالح المسلمين، إلى جانب ما هو عليه من سجايا رفيعة، وخصال حميدة، مع ورع شديد، وزهد في الدنيا، وحب لعباد الله وحدب عليهم: مما أحله المنزلة العالية في النفوس، والمكانة الغالية في القلوب؛ فعاش في أفئدة الناس عزيزا كريما محبوبا لأنه يراقب الله في كل تصرفاته، ويخشاه  ولا يخشى أحدا غيره، لا تأخذه في قول الحق لومة لائم، ولا مجاملة لأحد، فقد كان يرى الله في عمله، ولا يرى أحدا عداه؛ لذلك انطلق اسمه محفوفا بالإجلال والإكبار داخل المملكة وخارجها..
وقد كان من أعماله الخيرة أنه يسعى بنفسه لمساعدة المحتاجين وإيصال حاجاتهم إلى المسئولين كما كان يعمل على دعم جمعيات الإصلاح لتؤدي رسالتها المناطة بها على الوجه المطلوب منها، كما أنه كان يصرف نهاره في العمل وليله في العبادة.
وفي سبيل الإسلام سخر كل جهوده وجند جميع قدراته لما يرفع اسم هذا الدين الحنيف ويمكن له في الأرض ويسعد المسلمين بحيث لا يؤثروا دنياهم على آخرتهم أو يفسحوا لرفاهيتهم على حساب مصيرهم، فكان المخلص الأمين في إبلاغ كلمة الحق، ونشر المعروف، وإنكار المنكر، والتصدي لمن أراد الإسلام بسوء أو أي مساس به، سواء جاء ذلك من ملحد فيه من أتباعه أو حاقد عليه ممن حـرم نعمته..
ولقد قام سماحته بواجبه كما ينبغي في كل ما يتصل بمسئولياته مما له ارتباط بالعالم الإسلامي، فبارك الله في توجهاته وسدد خطاه ونفع بجهوده، فكان اسمه تتويجا لأعمال الخير في كثير من البلدان في الداخل والخارج وعلى نطاق واسع. حيث يتابع نشاط الدعوات الإسلامية ويوالي دعمه لها بالتوجيه الرشيد والكتب والنشرات النافعة والمادة التي يجمعها من أجلها وينفقها في سبيلها، وكان في كل أعماله محتسبا الأجر عند الله، مضحيا بصحته في هذا السبيل بالعمل المتواصل والجهد المبذول والدأب الملموس، وقد رفع الله قدره، وأعلى ذكره بين الناس، وجعل له القبول لدى الخاصة والكافة؛ لأنه أخلص لله في مسعاه ابتغاء مرضاته جل وعلا، فلم يعمل متطلعا إلى ثناء أحد عليه أو التنويه بأعماله، وإنما مصدر أعماله تقوى الله في كل الحالات، وخشيته في السر والعلانية، وطلب مرضاته من كل الوجوه وبجميع الوسائل، فوفقه الله لعمل الصالحات، وأفاض عليه من التوفيق ما جعله ناجحا في كل أعماله، وزاده الله من الفضل..
وقد جمع بين الورع العميق والإخلاص المنقطع النظير والصدق المؤكد في التوجه إلى أعمال الخير والبر بكل ما يملك من قـدرة وما يستطيع من وسيلة، وقد أمضى عمره المديد كله مشغولا بطاعة الله سواء كان ذلك في الشؤون التعبدية والدعوية أو في الاهتمام بالعلم ومدارسته وتدريسه وجلب طلاب العلم إليه، وقد شغل مجالسه كلها بالعلم والذكر حتى إنه إذا وجهت له دعوة فإنه لا يدع مجالا ليخوض الجالسون في أحاديث الدنيا وإنما يطلب من أحد الحاضرين قراءة آيات من القرآن الكريم فيفسرها، أو يقرأ أحد طلبته في كتاب فيعلق عليه، فمجالسه كلها ليس فيها مجال لفضول القول، وإنما تمـضـي محفوفة بذكر الله وما يتـصـل به من علم أو دعوة، فجزاه الله عن الإسـلام والمسلمين خير الجزاء، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. [1]
  1. جريدة الرياض، رقم العدد (11282)، السبت 28 محرم 1420هـ.