وانطفأ المصباح المضيء (2)

عبدالعزيز بن عبدالله السالم
 
نعيش في عصر تتكاثف في ربوعه المشكلات وتتسارع في أجوائه الأحداث، وتستحكم في أفراده الأنانية، وتكتنفه سحب من الفتن لا يجلوها سوى أنوار يحملها علماء أجلا ء: ينهجون نهج السلف الصالح، يعملون بما يعلمون من كتاب الله العظيم الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42] ويستضيئون بسنة رسوله الكريم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] ..
هؤلاء العلماء الربانيون المؤهلون للفتيا، والمعروفون بعلمهم المفيد بين الناس أولئك مصابيح الدجى ومنارات الأرض وأولئك هم أولو الألباب. يلجأ إليهم الناس في أمور دينهم ومشكلات حياتهم، وما يعترضهم في دنياهم من صعوبات وما يواجههم في أحوالهم من عقبات: يستفتونهم ويطمئنون إلى توجيهاتهم وأحاديثهم؛ فيرتبطون بأقوالهم، ويقتدرون بأفعالهم، ويسيرون على منوالهم، فيكون لكلامهم صدى طيب في نفوسهم، ولحلول مشكلاتهم آثار طيبة تأسو جراحهم، وتبدد همومهم، وتشرح صدورهم، وتنير أذهانهم، فترفع عنهم الحرج، وتعزز لديهم الأمل، وتجعل منهم مجتمعا صالحا يقدر علماءه المخلصين حق قدرهم، ويعرف لهم حقهم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وعليهم مسئولية جسيمة، وأمانة عظيمة يحملونها تجاه الأمة ويؤدونها كما أمر الله تبارك وتعالى أن تـؤد ى وكما يجب أن تـؤد ى: تلك صورة عامة لما يجب أن يكون عليه العلماء العاملون أو ما يـفترض أن يسير نهجهم عليه وبمقتضاه.
وشيخنا العلامة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز كان صورة صادقة للعالم المخلص العامل الذي ملأ وقته كله بالعلم، وطبقه بالعمل، فكان نبراسا مضيئا في حياة الأمة.
طـبع على خلق كريم، وسجايا حميدة، لم تزده المناصب التي شغلها إلا تواضعا ونبلا، يلتفت إلى الصغير كما يلتفت إلى الكبير، ويحتفي بالبعيد كاحتفائه بالقريب.
كان رفيقا في نهيه عن المنكر، مفيدا في أمره بالمعروف، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك أحبه الناس، واستفادوا من إرشاده، ورأوا فيه الداعية القريب إلى نفوسهم، والمرشد الصادق في نصحهم، فكان لكلامه الأثر الكبير في القلوب والصدى الواسع في المجتمع، فأجمع الناس على حبه وإكباره لأنه يصدر في توجيهاته وإرشاداته عن علم واسع واطلاع عميق واخلاص منقطع النظير، تغمده الله برحمته، وقبل الله ما ارتفع من دعوات له من عشرات الألوف الذين رأوا فيه كل الميزات والتي يجب أن تتوافر في رجل العلم..
ولهذا فقد ترك رحيله المفاجئ أسى عظيما وفاجعة كبيرة، فقد كان الأب الحاني، والمرشد الحكيم، والمضيف الكريم مفرج الضائقات، وجابر العثرات، ومواسي المصاب، وملاذ الممتحن، من قصده وجد عنده الحل لمحنته، والفرج لكربته، وهذه الخصال الرفيعة والاهتمام الكبير بقضايا الأمة الإسلامية مما عمق جذور الحب له في النفوس في الداخل والخارج، وكنموذج للتعبير عن هذا الحب والتقدير لعلمه وفضله رأينا الجموع الكثيرة التي احتشدت لتشييعه، فقد امتلأ البيت الحرام بالمصلين عليه وضاقت الطرقات بالسائرين خلف جنازته، وهذا الاحتشاد الكبير والمسيرة الضخمة والحضور الكثيف للكثيرين إلى مكة المكرمة للصلاة عليه وتشييع جثمانه.
إنما يدل ذلك كله على مبلغ حبه الذي ترك في قلب كل فرد مؤمن صورة له لا تمحوها الأعوام في مرورها ولا يطويها غيابه الذي لن يعود منه؛ لأنه إن رحل بجسمه فقد  بقي علمه شاهدا له، وعمله ذكرى طيبة من بعده...
وكما احتشدت الجموع الزاحفة من أنحاء البلاد للمشاركة في الصلاة على الشيخ الجليل وتشييعه إلى مثواه الطيب، كذلك احتشدت الأقلام الصادقة لتملأ صفحات الصحف بالحديث عن مآثره الطيبة نثرا وشعرا، وسوف يسجل تاريخ هذه الفترة روايات ووقائع وحكايات عن فضائله وشمائله لم تكن معلنة في حياته، ولو أعلنت لما سمح - رحمه الله - بذكرها؛ لأنه يؤثر العمل الصامت في أداء أعمال الخير والمواساة فهو يؤدي الأعمال الخيرية إيمانا واحتسابا ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، وينظر ببصيرته النيرة إلى ادخار هذا الثناء عليه في الدنيا ليكون زادا له في الآخرة، ولقد روى لي صديق أن أرملة تعول أولادها لم تستطع دفع اثني عشر ألف ريال أجرة سكنها فعرض هذا الصديق على أحد المحسنين موضوعها فدفع إليه المبلغ ليسدد عنها أجرة السكن وحين ذهب ليدفعه وجد الشيخ ابن باز قد سبق إلى سداده، وهذا يعطي دليلا صادقا على اهتمامه بأمور الناس، وتفقد أحوالهم، والاستجابة السريعة لمساعدتهم، ومواساتهم، ويقول الصديق أن المحسن جزاه الله خيرا عندما عاد له بالمبلغ لأنه سبق دفعه كلفه بأن يدفعه للأرملة للاستعانة به في حياتها وأولادها.
الورع والتقوى والإخبات لله وخشيته في السر والعلن صفات تـميز هذا الشيخ - تغمده الله برضوانه، لقد كان يراقب الله في كل تصرفاته ويحسب للآخرة كل حساب، ولا يحسب للدنيا أدنى حساب، فعاش بين الرجاء فيما عند الله تبارك وتعالى والخشية منه وحده سبحانه، وهذه المعادلة المتوازنة بين الأمل في رضا الله والخوف من عذابه هي التي تسود حياته وتـهيمن على تفكيره فلا يرى أمامه في كل أحواله سوى منهج واحد يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يقوده إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
لذلك كان فكره منصبا على آخرته يعمل من أجلها وفي سبيلها، وقد أدار ظهره لدنياه؛ لأنه يعلم أنه مهما عاش فإنه مفارق ومهما طال به العمر فإن له نهاية، ومن هنا كانت صلته الوثيقة بالله تبارك وتعالى وتعلقه به تعلق العبد المؤمن الصالح.
وقد حدثني صديق ـ وهو إمام مسجد بمكة المكرمة ـ أنه كان يصلي بجماعته ثم ينطلق بسيارته ليدرك درس سماحة الشيخ عبدالعزيز في مسجده بحي العزيزية وقد ذكر أنه ذات مرة وكان موضوع الدرس عن حديث جابر بن عبدالله الذي نصه كما جاء في صحيح البخاري. قال: بعث رسول الله بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة، فخرجنا وكنا ببعض الطريق ففنى الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجـمع فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت .. وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير أنه أيضا سـئل عن ذلك فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت فقلت: كيف تصنعون بها؟ قال نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل..
وعند بلوغ نهاية الحديث من أن نصيب كل واحد من هؤلاء الصحابة تمرة واحدة يمصها ليسكت بها جوعه وهو يجاهد في سبيل الله. عند ذلك انفجر الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله رحمة الأبرار - في نشيج متصل وبكاء متواصل دام ـ كما يقول محدثي ـ سبع دقائق: ذلك أنه يعيش بأحاسيسه الإيمانية مع مواكب الأخيار، ويتأسى بأحوالهم وما نالهم من مكابدة العيش في هذه الدنيا الفانية، وقد شرح الشيخ هذا الحديث ودموعه تهطل من خشية الله، وصوته يتهدج بين المستمعين إليه والمتحلقين حوله، وهو يصف لهم حالة صحابة رسول الله من شظف العيش وشكرهم لله، وكيف نعيش نحن في عصرنا الحاضر ونعم الله علينا كثيرة؛ ولكننا لا نقدرها حق قدرها، ولا نحمد الله عليها كما يجب أن يـحمد، وإنما كثير منا يرمون بها في النفايات، وهذا ما أوصلنا إلى الحالة الواهنة التي نعيشها، وقد كان الصحابة مع قلة أمكاناتهم هزموا الدول العظمى في عهدهم لأنهم كانوا يعرفون حق الله عليهم ويقدرون نعمه، ومضى سماحته يتحدث طويلا في هذا المجال.
إن هذا الشيخ الجليل يجسد أحد الرموز العلمية الكبيرة التي لها ثقلها في ميزان العلم والتشريع والدعوة الإسلامية، مما جعل لأقواله وأعماله الأثر المباشر على نفوس أفراد هذا الشعب حاكمين ومحكومين، وعلى نفوس كثير من العرب والمسلمين، فلقد أخلص في الدعوة إلى الله على بصيرة، وسيظل لها إن شاء الله صداها وضياؤها وبهاؤها في صفحات تاريخنا الإسلامي المعاصر: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين [فصلت:33]. [1]
 
  1. جريدة الرياض، رقم العدد (11289)، السبت 7 صفر 1420هـ.