الشيخ محمد صالح المنجد

لقد فجعنا وفجع المسلمون في العالم برحيل الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، - رحمه الله - رحمة واسعة.

أبو عبدالله عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله من آل باز، المولود في الرياض في الثاني عشر من ذي الحجة، في عام ألف وثلاثمائة وثلاثين للهجرة الذي أصابه المرض مبكراً في عينيه فنتج عن ذلك أنه أصيب بالعمى في سن التاسعة عشرة، رحمه الله تعالى.
 

عزاءٌ بني الإسلام قد عظم الأمر وليس لنا إلا التجلد والصبر
فشيخ المعالي غاب عنا مسافراً إلى ربه إذ ضمه اللحد والقبر
لقد كان بدراً ضاء في الكون نوره ألا إنه الشيخ المبجل والحبر
فسمعته في الناس فهي فريدة وسيرته بيضاء ما مسها غدر
وإن هو أعمى العين فالقلب مبصر يساعده في علمه العقل والفكر
فهاهي تنعاه الجزيرة كلها لقد مسها من فقده الحزن والضر

إني لأحسبه والله حسيبه ممن انطبق عليه قول النبي ﷺ: يقول الله : من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة.[1]

رزقه الله بصيرة ونوراً في قلبه، وفراسة يميز الصادق من الكاذب، واختيار الناس للمهمات، كان قوياً في أمر الله على ما يستطيع ويقدر، وهو الذي رد على أهل الباطل باطلهم، ولما قال عظيم من العظماء، من عظماء الدنيا، إن القرآن فيه خرافات كقصة أصحاب الكهف وعصا موسى، كتب الشيخ مبيناً أن ذلك ردة وكفر، ولما كتب إليه نائب لذلك القائل أن القائل لا يقصد وأنه متراجع عن قوله، كتب له الشيخ آمراً: إن كان صادقاً بإعلان توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ.

هو الشيخ الذي رد على أهل الباطل باطلهم وعلى أهل البدع بدعهم، فهذه كتبه ورسائله، حافلة بالرد عليهم، بين لما أمر الله أهل العلم أن يبينوا رحمة الله تعالى عليه، وهذه مقالاته في التحذير من البدع، كالاحتفالات غير الشرعية البدعية من المولد وذكرى الإسراء وليلة النصف من شعبان وغيرها قائمة، لما يرى المنكرات أمامه يتكلم، وعندما يرى انتشار ألوان الفحش والفساد من الأفلام والأغاني يتكلم عن ذلك وعندما يرى منكر سفر الناس إلى الخارج يتكلم عن ذلك، وعندما يرى فشوا المنكرات يتكلم عن ذلك، وهذه رسائله في المحرمات المنتشرة وفي البدع الكثيرة مع أخذه رحمه الله بالحكمة والموعظة الحسنة، نحن لا نبرؤه فهو بشر، ولا نرفعه إلى رتبة الأنبياء فليس بمعصوم، الحق ما وافق الكتاب والسنة، كان إماماً بحق لأهل السنة والجماعة في عصره، ومجدداً للدين فكم أحيا الله به من سنة وأمات من بدعة، وأيقظ من غفلة، وهدى من ضلالة فهو إمام إن شاء الله، داخل في قوله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، كان ساعياً في إزالة المنكرات، وخطاباته الكثيرة لم يطلع عليها الناس؛ لأنه كان يخاطب صاحب المنكر أو صاحب الشأن ولا يريد الفضيحة والتشهير ويسير على الحكمة في ذلك، مع ما في فعله - رحمه الله - من الاجتهاد، فاجتهد وتصدى للنوازل الكبار والمسائل الصعبة الشائكة، التي وجدت في هذا العصر والمتعلقة بأنواع المكتشفات والمخترعات، بما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة، فترأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أصدر عدداً من الفتاوى في النوازل الفقهية المعاصرة التي يحار فيها العلماء ويضطربون، كان مجدداً جامعاً بين الفقه والحديث، يعرف الحديث وصحته، ويحفظ من أحاديث دواوين السنة الكثير، يعرف الرجال وضبط الأسماء، وتصحح النسخ والطبعات بين يديه، مع كونه ضريراً كان بحراً في معرفة أقوال العلماء لا يخرج عنها، ولا تكاد تجد له فتوى شاذة، فظهر رحمه الله عدلاً وسطاً بين طرفين مال أحدهما إلى الحديث ولم يشتغل بالفقه كما ينبغي، ومال الآخر إلى الفقه وأقوال الفقهاء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي، فكان جامعاً بين الفقه والحديث، هذه من أعظم ميزات الشيخ، من أعظم ميزاته منهجه الجمع بين الفقه والحديث، هو الرئيس المسكت الذي تجتمع على قوله الآراء، وربما اختلف العلماء بين يديه في النقاشات في لجنة الفتوى أو في مجلس هيئة كبار العلماء فإذا قال قولاً فصل بينهم وأذعنوا له ورضخوا لرأيه وجعلوا لقوله صوتين في لجنة الفتوى مقابل صوت واحد لكل عضو من أعضاء اللجنة، هاتوا واحداً سيجتمع عليه العلماء بعد رحيل الشيخ فتكون له الكلمة المطاعة على الجميع، ويكون له النفوذ في كثير من أقطار الأرض، من الجهة العلمية، ومن الإذعان للفتوى، كان ينزل إلى مستوى العامة لتفهيمهم، ولم يكن يخاطبهم من علو بل كان كثيراً ما يجيب باللهجة العامي الدارجة ليفهموا عنه، كان متواضعاً لله عز وجل، قل ما كان يعلق في دروسه، مكتفياً بكلامه أصحاب الكتب كأن الدرس له ولمراجعته ومذاكرته وفائدته وتعليقاته على فتح الباري اليسيرة، يعلق على ما لا بد منه.

كان يذكر مشايخه ويترحم عليهم، ومن تواضعه أنه كان يقوم إلى العجائز والضعفة الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال أو سؤال أو قضية طلاق وغيرها، وأوقف مرة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب امرأة بالهاتف، فلما عاتبه بعضهم قال: هذه صاحبة حاجة، ومن تواضعه جلوسه على الأرض للطعام، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وبساطة لباسه يلبس ثوباً فضفاضاً لا رقبة له ولا يتعدى أنصاف ساقيه، وبشته ليس نفيساً غالي الثمن ولباسه وحذاؤه وعصاه تدل على زهده في الدنيا، ينفق مرتبه وربما يستدين لقضاء حوائج المسلمين، كان في غاية الديانة والأمانة، يُستأمن على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم، فيجتهد في إنفاقها في وجوهها، كان يهتم بطلابه، ولما درَّس في الخرج جعل لهم سكناً وطلب لهم سكناً إضافياً لما ضاق، ومكافآت وعقد لهم الدروس والحلق بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، كان يذكر عنه بعض طلابه الذين يقرؤون عليه تفسير ابن كثير بين العشاءين: أنه كان كثيراً ما يتأثر ويبكي وربما يطول الدرس بسبب تأثره دون أن ينتبه، فإذا انتبه أنهى الدرس وأقيمت صلاة العشاء. وكان يناقش طلابه، وخصوصاً في درس المواريث ويتفقد أحوالهم ويقضي حاجاتهم ويخرج معهم إلى البر ولا ينسى إقامة الرياضات البدنية لهم، كرياضة العدو والمسابقة على الأقدام التي وردت بها السنة، كما جاء في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع، كان مشاركاً للناس والأهالي، ولما دهمت السيول بلدة الدلم في سنة ألف وثلاثمائة وستين للهجرة خرج يشجع الأهالي على إقامة السدود، وأخرج من بيته التمر والقهوة إلى مواقع العمل لخدمة الناس، ولما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد، وكان حريصاً على الأوقاف وإدارتها وإقامة المدارس، ولما عين في إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوي في عام ألف وثلاثمائة وواحد وثمانين وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى، وقضاء حوائجهم وتوفير الكتب لهم، والاهتمام بتعليمهم اللغة العربية، ولما عين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام ألف وثلاثمائة وخمس وتسعين، وغادر المدينة النبوية إلى الرياض للمنصب الجديد حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه، وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج من الجميع، حتى قال أحد الحاضرين في نفسه:
 

بكينا وفاء لامرئ قل أن يرى له في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي إن ألح بي البكاء فإن فراق الصالحين عسير

قليلون أولئك الذين تولوا المناصب فلم يتغيروا، قليلون أولئك الذين تولوا المناصب فلم يظلموا ولم يتجبروا، كان الشيخ واحداً من هؤلاء القلة لم يخربه المنصب، لم يشغله بالدنيا، لم يتجبر ويظلم من تحته، كان متواضعاً، كان إدارياً ناجحاً، كما تولى إدارة الجامعة الإسلامية وإدارة اللجنة الدائمة للإفتاء، وهيئة كبار العلماء، كان رجلاً منظماً في وقته وعمله ودروسه وطعامه ومجلسه، يعطي كل ذي حق حقه، كثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان ابتداؤها منه، وكثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان إنهاؤها على يديه من المساجد ومدارس تحفيظ القرآن ومنشآتها، المشاريع الخيرية المتعددة المبثوثة وراؤها أبو عبدالله، هو الذي يدفع بها، وهو الذي يكتب عنها، وهو الذي يطلب المسؤولين لإنفاذها لا شفاعات عظيم، وله تمييز عجيب لأصوات الناس مع كثرتهم حتى لربما عرف المتكلم ولو لم يسمع صوته منذ سنين، ويحفظ الأشخاص، ويسأل عن أحوالهم وأحوال بلدهم وأقاربهم مع كثرتهم البالغة، يترددون على مجلسه بالعشرات أو بالمئات أحياناً يومياً، هذا الإمام العلم أيها الإخوة لسنا نزعم أنه أعلم من الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية كلا والله، ولكن أهميته في عصره لا تقل عن أهميتهم في عصورهم، إن لم تكن أكثر وحاجة الناس إليه أكثر لقلة العلماء في هذا الزمان بالنسبة إلى العلماء في الأزمنة الماضية، كان يكثر ذكر الله تعالى حتى وهو على الطعام وبين اللقم، كان ورعاً في الفتوى، كثيراً ما يقول: ننظر فيها، تحتاج إلى تأمل، اكتبها للجنة ونبحثها مع الإخوان، ولا يستنكف أن يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس، وسمعته بنفسي: المسألة مشتبهة عليَّ، ولا يجيب، وكم من مرة سألته فيتوقف عن الإجابة، ولو عرضت على طالب علم صغير لتسرع فيها، كان صاحب خشية لله، سريع الدمعة، شديد التأثر، يقطع درسه بالبكاء لما يغلبه، لا عجب في ذلك فقد قال الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، يقطع الجواب لإجابة المؤذن، ويستدرك ما فاته من الآذان لو سها وأكمل المكالمة، ولا يفوت الذكر بعد الصلاة بالرغم من كثرة السائلين حوله، ويقطع الكلام مع الشخص عند الخروج من المسجد لأجل أن يقول الذكر، كان عادلاً حتى بين زوجتيه، له زوجتان بلغ من عدله أنه لا يصلي سنة المغرب البعدية إلا في بيت التي هو عندها الليلة، فيبدأ من البداية، فيبدأ من بداية الليلة من بعد المغرب، من بعد صلاة الجماعة، لا يصلي سنة المغرب إلا في بيت التي هو عندها.

هذه شفاعاته لا تعد ولا تحصى، أدى زكاة جاهه كما أدى زكاة علمه، رغبة – نحسبه – في قوله ﷺ: اشفعوا تؤجروا. [2] شفاعاته للكبار والصغار، كم من طالب قبل في جامعة، وكم من فقير حصل على صدقة، وكم من عامل استقدم زوجة وغير ذلك كثير كثير كثير من شفاعات أبي عبدالله، نسأل الله أن يجعلها في ميزانه يوم يلقاه.

كان ساعياً بالصلح بين الخصوم لما كان قاضياً، وبعد القضاء يسعى بالصلح بين الأزواج والزوجات، والإصلاح بين المتخاصمين، كان حليماً عفواً سمحاً متسامحاً دخل عليه أيام كان قاضياً بالدلم رجل سباب فسب الشيخ وأفحش، والشيخ ساكت لا يجيب، ثم سافر الشيخ للحج فمات ذلك الرجل فلما قدموه لصلاة الجنازة أبى إمام المسجد وكان يعرف الواقعة، وقال: لا أصلي على شخص يشتم العالم، صلوا عليه أنتم، ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل الذي سبه والقصة ترحم عليه وعاتب الإمام وقال: دلوني على قبره، فصلى عليه ودعا له.

وقلت له قبل موته بأيام: أريدك يا شيخ أن تسامحني وتحللني، فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك، فقال لي: مسامح، مسامح، سامحك الله، هذا هو طبعه المسامحة، وهذا من أسباب اجتماع القلوب عليه ومحبة الناس له، أنه لم يكن يصادم، ولم يكن يرد بسفاهة، وإنما كان حليماً رحمه الله، كان متأدباً حتى مع كتابه، فمرة أطال إلى الساعة الحادية عشرة ليلاً ثم قال: يبدو أنا قد تعبنا، مع أن الشيخ لم يتعب، ولكن قال ذلك مواساة للكاتب الذي كان يكتب معه فتأخر إلى هذا الوقت.

وهو الذي كان من أصحاب العبادات والطاعات، قال أحد الذين رافقوه من الطائف إلى الرياض براً: لما صرنا في منتصف الليل، بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً قال لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا، قفوا لننام في الطريق، فتوقفنا فما لامست أقدامنا الأرض إلا وأخذنا النوم، والجيد منا من صلى ركعة أو ثلاث، قبل أن ينام، فشرع الشيخ في الصلاة، فاستيقظ من كانوا معه قبل الفجر فإذا بالشيخ يصلي. كذا جاء حديث عن النبي ﷺ في الثلاثة الذين يضحك الله إليهم.

جاءت رسالة من الفلبين إلى الشيخ من امرأة تقول: زوجي مسلم، أخذه النصارى وألقوه في بئر، وأصبحت أرملة وأطفالي يتامى وليس لي بعد الله أحد جل وعلا، فسألت: من يتحمل ومن يساعد، فقالوا لي: اكتبي للشيخ عبدالعزيز بن باز ليساعد في ذلك، فلما قرأ الشيخ الخطاب وتأثر كتب للإدارة بالمساعدة، فلما جاءه الجواب أنه لا يوجد بند لذلك، قال: اخصموا من راتبي نفقة هذه المرأة وأرسلوها فوراً، لم يعلن القصة على الملأ، وإنما قالها الخاصة الذين عرفوا بها.

إن علمه وصل وانتشر في العالمين شرقاً وغرباً، حتى أن بعض الدعاة لما دخل في بعض بلاد أفريقيا وجد عجوزاً فقالت: من أين أنتم؟ فقلنا لها عبر المترجم: من بلاد السعودية، فقالت: بلغوا سلامي للشيخ ابن باز. هكذا حصل من نشر صيته في الأرض، والله إذا رضي عن عبد وضع له القبول في الأرض.

إن ذلك الشيخ كان أمة في الأعباء التي يقوم بها، يبدأ يومه قبل الفجر بالاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل، فيصلي ما كتب الله له أن يصلي، ويستغفر لقوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، وبعد صلاة الفجر يحرص على قراءة الأوراد، ولا يكاد يجيب أحداً حتى يقرأ الأوراد كلها، ثم يبدأ الدرس، فيقرؤون عليه حتى ساعة متأخرة من الضحى، ثم يتوجه إلى العمل للإجابة على المعاملات والأسئلة الواردة من الأقطار الأخرى، وقضايا أصحاب الحاجات والشفاعات، ثم بعد ذلك يتوجه إلى بيته فيرتاح قليلاً ثم يدخل للإجابة على الهاتف ثم يتغدى مع الضيوف لم يكن يتغدى وحده - رحمه الله - ثم بعد ذلك راحة إلى صلاة العصر، وبعدها أعمال خاصة له وبمكتبه، ثم بين المغرب والعشاء الإجابات على الأسئلة، وهكذا بعد العشاء يلقي الكلمات في المساجد، ويحضر الندوات، ويحضر المحاضرات، كانت أعماله متوالية، وكان حريصاً على صيام الاثنين والخميس، وحضور دروس الفجر، ودعوة زواره، يستقبل الوفود من البلدان المختلفة، وينجز المعاملات، وهو - رحمه الله - يدعو غير المسلمين للإسلام، ويأتي بالمترجم ليقول لهم ما يريد أن يقوله حتى لم يكد يخلو يوم من ناس يسلمون بين يديه، لا يقلون عن خمسة، هذا أبو عبدالله أمة بعمله، جماعة بمفرده، رحمه الله تعالى، وجعل الجنة مثواه.

كان - رحمه الله - كريماً سخياً يعطي من طلب ولا يكاد يرد من سأل، ولم يكن يأكل وحده فكان كثير الضيوف، ولا يأكل إلا ومعه أناس على مائدته، ولما مرض قال لنا مرة ونحن في مجلسه وقد حضر الطعام: تفضلوا أنتم وأنا اسمحوا لي. كان يعطي من طلب، ورأيته أعطى لباسه بشته من سأله إياه في مجلسه، متعه الله بعقله فلم يصبه زوال ولا خرف ولا تغير، وبعض النسيان الذي حصل له لكبر السن لم يؤثر على مقدرته في الإفتاء واستحضار الأدلة والتركيز والفهم، مع أنه دخل في التسعين، وقد سألته قبل أيام من موته عن امرأة ماتت وعليها سعي لم تأت به هل يقوم به ولدها عنها؟ فقال: الموت ما معه حيلة، ولولدها أن يسعى عنها، كما له أن يحج عنها، ثم وقف، ثم قال: ولكن يجب أن يكون محرماً بنسك عند سعيه، عند سعيه عنها يكون محرماً. فقلت له: مثل أن يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى لنفسه، وقبل أن يقصر شعره يسعى عن أمه؟ فقال: أو قبل أن يأتي بعمرته وبعد الإحرام. هذه الدقة وهذا الانتباه للسؤال، وفي الجواب لازمه ذلك إلى آخر عمره، عمل حتى آخر نفس، وكان دروسه مستمرة حتى أيام مرضه، ودرس الفجر يوم الخميس يزيد على ثلاث ساعات، عمل ثمان وخمسين سنة ولم يأخذ إجازة واحدة، وكان لا ينام في يومه إلا أربع إلى خمس ساعات، وبقية ذلك في العبادة ومصالح المسلمين، هذا الإنسان كيف يجد وقتاً لمعصية الله؟ من استعمله الله في طاعته، من هيأ له هذا الأمر، من أدخله في هذه العبادات وحوائج الناس والتدريس والفتيا كيف يجد وقتاً للمعصية، وهو مستحق للتقاعد منذ عشرين عاماً بكامل الراتب، ولكنه استمر لخدمة الإسلام ونصرة الدين، ومعنى ذلك أنه عملها بدون أي مقابل، ولما مرض، وكان يشتد عليه الألم إذا أفاق، هذا في آخر أيامه، إذا اشتد عليه الألم فإذا أفاق بعد ذلك قال لمن حوله من الكتاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم اقرؤوا علي، فيقرؤون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق، والشكاوى من المنكرات، وخطابات الشفاعات، وغير ذلك مما ينفع به العباد والبلاد، كان لا يشتكي والله، جلست بجانبه وهو يتألم فقلت: خيراً، قال: بعض الشيء، أشكو بعض الشيء، وكان إذا اشتد به الألم، وقد أصابه سرطان المريء والبلعوم في آخر عمره إذا اشتد عليه الألم تغير لون وجهه وسكت ووضع يده على موضع الألم ولم يتأوه، ولم يصح، إن الإمام أحمد رحمه الله لما مرض فأنَّ سمع أن طاووساً كان يقول عن الأنين إنه شكوى، فما أنَّ أحمد حتى مات، فيشمت بموته ويفرح أصناف من أعداء الله، وهذه حقيقة نعرفها،
أولهما: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس.
وثانيهما: المبتدعة أهل الزيغ والأهواء، هؤلاء الذين سيفرحون بموت الشيخ عبدالعزيز، أصحاب الشهوات الذين كانوا يقولون: إن المرأة ستسوق إذا مات ابن باز وارتحنا من فتاواه المتشددة، ولكن أخزاهم الله تعالى في الفترة الماضية، ومات الشيخ وهم في ذل وخيبة ولن يتحقق مقصودهم، لا رفع الله لهم رأساً ولا مكنهم مما يريدون، دعاة تحرير المرأة والاختلاط يريدون موت الشيخ بأي طريقة؛ لأن فتاواه عقبة في طريقهم، وهكذا أصحاب الشهوات والمنكرات يريدون وفاته والتخلص منه، ولكن الله لهم بالمرصاد، وسيقيض الله من هذه الأمة من يقوم ويتصدى، والحمد لله إن الدين لا يقوم على شخص واحد، وإن في هذه الأمة أفذاذاً وأخياراً، وعلماء ودعاة وطلبة علم يقفون بالمرصاد أمام دعاوى هؤلاء أرباب الشهوات وهؤلاء المنافقين الذين يريدون عزل الدين عن حياة المسلمين.

وأما عزاؤنا في وفاة الشيخ فإن على الرأس العزاء موت محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي قالت عائشة فيه، فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي  .  [3]

فعزاؤنا في موت الشيخ أولاً نتعزى بالمصاب الذي لقيناه ولقيته الأمة بوفاة محمد بن عبدالله ﷺ، فكل مصيبة دونه تهون، وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسؤولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه وأن نترحم عليه، وندعو له، ونتذكر بأسى وحزن أن أرقام الهاتف 4354444 و 4351421 في الرياض. و5562874 في مكة. و7460223 في الطائف، لن يرفع سماعتها الشيخ بعد اليوم ليجيب.

كانت أسئلة الناس يفزع بها إلى الشيخ ليجيب، كانت الملمات تعرض على هذا المجتهد، كنا إذا دهمنا الناس بالأسئلة فزعنا إلى الشيخ نتصل به وننقل إجابته، فلن يرد علينا الشيخ بعد اليوم في المستجدات، ولكن العزاء فيما تركه من الفتاوى، وفي العلماء الذين تركهم خلفه، فما من عالم مشهور في البلد إلا وللشيخ عليه فضل ومنه.

ونتذكر برؤية جنازته تلك المشاهد العظيمة لجنائز علماء الإسلام الذين قال السلف فيها: آية ما بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز. [4]

  1. رواه الترمذي (2401)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
  2. رواه البخاري (1432).
  3. رواه ابن ماجه (1599)، وهو حديث صحيح.
  4. فاجعة رحيل الإمام الوالد ابن باز، من خطب الشيخ محمد صالح المنجد، الموقع الرسمي للشيخ.