إنسان بلغ من الحلم أعلاه

دوش بنت فلاح الدوسري
محاضرة في كلية التربية / قسم اللغة العربية
 
إنا لله وإنا إليه راجعون، أعظم كلمة تواسينا في مصابنا، ولا نملك غيرها، فالله سبحانه حث على قولها، ووعدنا بالرحمة والهدى وصلوات من عنده.
في يوم الخميس 27 محرم 1420هـ، أسلم الشيخ عبدالعزيز بن باز الروح لمولاه.
نعم.. غادرنا شيخنا الحبيب الذي تعلقت به القلوب؛ لا تعلقاً ينافي صفاء العقيدة الذي ظل ينافح عنها، بل حباً في الله وتعلقاً بصفات المسلم المعطاء، ذي النقاء والصفاء، والرجولة الحقة.
الكثير منا - خاصة نحن معشر النساء - لم نجالسه، ولكن مروءته ومزاياه شاعت وانتشرت، لأنها كالعطر، بل هي أعذب.
إنسان بلغ من الحلم أعلاه، ومن السماحة أروعها، ومن طيب الخلق ورقته وحسن الظن بالناس الكثير الكثير، لم يتعامل مع الناس بمنطق الشدة والقوة، بل باللين والرفق والحكمة، مقتدياً بنبي الهدى عليه الصلاة والسلام.
يذكر أحد الأشخاص الذين اعتادوا الذهاب إليه، أنه أثناء سلام الناس عليه في مجلسه، صافحه رجل كان فيه رائحة (سجائر)، فسارع أحد المتحمسين وأخبر الشيخ، كأنه يريد منه تعنيف الرجل وتوبيخه، إلا أنه برحابة صدره المعهودة، وحسن ظنه بالناس، قال له - ما معناه: لا تتعجل بالحكم، فلربما كان راكباً مع شخص مدخن، فأصابه شيء منه.
فلله دره، أي جلد وصبر وحلم كان فيه.
رجل نسي الدنيا بما فيها، وبقي ذاكراً مستيقظاً لساعات الدعوة والعبادة وخدمة الناس وقضاء مصالحهم، وليس أدل على هذا من قراءة برنامجه اليومي.
برنامجه اليومي، كما بينه ابنه أحمد بن عبدالعزيز بن باز:
يصحو قبل الفجر بساعة، ليصلي ويقرأ من القرآن ما شاء الله، ثم مع الأذان يحاول إيقاظ جميع أهل البيت لصلاة الفجر.
ثم يتوجه إلى الجامع الكبير، ليقوم بعد صلاة الفجر بإلقاء بعض الدروس لمدة تصل أحياناً إلى ثلاث ساعات.
ثم يرجع إلى البيت، وبعد الإفطار يتوجه إلى مقر عمله، ولا يمكن أن يخرج من عمله قبل الساعة 2:30 ظهراً.
فيرجع إلى البيت، ليجد الجمع الغفير من الضيوف الفقراء بانتظاره فيتناول طعامه معهم، ثم يجلس ليشرب القهوة ومحادثة الضيوف والإجابة عن الفتاوى والاستفسارات هاتفياً إلى أذان العصر، وبعد صلاة العصر والدرس اليومي يتوجه إلى منزله لأخذ قسط من الراحة إلى ما قبل أذان المغرب بنصف ساعة، ثم يجلس للناس بعد صلاة المغرب، يستمع إلى سائلهم، ويقرأ ما يعرض عليه من الأوراق، ويجيب عن الاستفسارات هاتفياً إلى أذان العشاء.
وبعد درس بين الأذان والإقامة، وبعد صلاة العشاء يرجع إلى البيت للاجتماعات الخاصة والمواعيد الشخصية ومطالعة الكتب في المكتبة، ثم يتناول طعام العشاء مع الحضور، ليتوجه إلى مكان راحته عند الساعة الحادية عشر أو أكثر، وقد تتخلل أيام الأسبوع محاضرات دينية أو ولائم ومناسبات اجتماعية، يقوم بكل ما سبق دون ملل أو كلل. [1] 
أبناء الشيخ وأحفاده! ما أعظم مصابكم فيه، ولكن لستم أنتم وحدكم الذين بكيتم عليه وحزنتم على فقده، بل ضجت معكم أنحاء المعمورة، وعلى مثله فلتبك البواكي.
لستم أنتم فقط من تحسون باليُتم، بل نحن كذلك نشعر بمرارة اليتم بعد فقده، ونسأل الله الصبر والسلوان.
يقال إن الشيخ حينما غادر الرياض إلى المدينة لتسلّم منصبه في رئاسة الجامعة الإسلامية احتشد أهل الرياض حوله وودعوه وبكوه بكاءً شديداً، وقال فيه الشيخ محمد المجذوب:
بكينا وفاء لامرئ قل أن يرى في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي أن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير
هذا الحزن كان حين غادر الشيخ الرياض إلى مدينة أخرى، فماذا نقول نحن وقد غادر الرياض إلى دار أخرى.
ذلك الحزن كان على فراق الأجساد، فماذا نقول نحن في فراق الأرواح؟!
لا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ارحم شيخنا ووالدنا، وأجزل له الثواب، وأسكنه فسيح جناتك. [2]
  1. من كتاب شهود هذا العصر، لمحمد الوعيل.
  2. جريدة الجزيرة، الإثنين 2 صفر 1420هـ .