الشورى في حياته

لقد عُرف سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - بالحرص على إعمال مبدأ الشورى مع من حوله في جميع أموره العامة منها والخاصة، وكان لا يُصدر قرارًا ولا يأمر بأمرٍ إلا بعد مشورة أهل العلم والفضل المعروفين بالحكمة والعقل، منطلقًا في ذلك من الأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنة النبوية.
يقول الشيخ محمد الموسى: "مع أن سماحة الشيخ من أعقل الرجال، وأحزمهم، وأكثرهم روية وأناة وحكمة، إلا أنه كان كثير المشاورة، كثير الأخذ بمبدأ الشورى، سواء في أمور الخاصة، أو في الأمور العامة، منطلقا بذلك من قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، وقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ [الشورى:38]، ومقتديًا بالنبي ﷺ حيث كان كثير المشاورة لأصحابه، حتى إن سماحة الشيخ يستشير في أموره الخاصة به؛ كإجراء العملية التي قررت له أكثر من مرة، وكموضوع سفره للخارج للعلاج، وغير ذلك من الأمور". [1]
وقد تحدث الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة عن الشورى في حياة سماحة الشيخ فقال: "الشورى في حياة سماحة الشيخ - رحمه الله - تتمثل في جميع صورها وألوانها: فتارة مع إخوانه أصحاب الفضيلة العلماء، سواء كان ذلك في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، أو في هيئة كبار العلماء يراجع هو وإياهم ما استجد من المسائل العلمية والعملية في ضوء الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ويطرحون في تلك المجالس قضايا المسلمين بإنصاف وصدق وإخلاص وتجرد، فلهذا نرى أن رأيهم في كثير من القضايا يجد كلمة إجماع من جميع علماء المسلمين في أقطار المعمورة، وعلى هذا النحو في اجتماعاته في الرابطة في المجلس التأسيسي، أو في المجمع الفقهي، أو في المجلس الأعلى للمساجد وغير ذلك من مجالات الشورى ومتعلقاتها.
 وتارة أخرى يشاور أهل بيته في القضايا الخاصة الأسرية التي تتعلق بهم، ولا يستنكف من أخذ آرائهم إن رأى أن في ذلك مصلحة عامة متحققة لهم، وهذا - أعني به مشاورة أهل البيت - منهج نبوي، وشرع إسلامي.
 وتارة ثالثة يشاور مستشاريه ومدرائه فيما يتعلق بالأعمال الوظيفية وغيرها من الأعمال الإدارية، وينظر إلى آرائهم بعين الاعتبار والتقدير، وما تكوينه للمجلس الاستشاري في رئاسة البحوث والإفتاء إلا دليل واضح، وبرهان لائح على ما سبق ما قررناه من أهمية الشورى، وما قام به سماحته من جهد بين وفعل حميد مبارك". [2]

ومن المواقف التي تؤكد على حرص سماحته على الشورى:
  • ما ذكره الشيخ عبدالعزيز بن ناصر البراك، فقال: "عندما توفي أمير الدِّلم آنذاك ناصر بن سليمان الحقاني - رحمه الله - عام 1367هـ قام الشيخ باستدعاء الأهالي لاختيار أميرٍ لهم - حسب المتبع آنذاك - فاجتمع الناس وامتلأ المجلس في قصر الإمارة والمداخل والشارع، فأمر بأن يبقى من كل عائلة واحد والبقية يذهبون لمزارعهم وأعمالهم، وبعد مناقشات ومداولات بين المجتمعين اتفق رأيهم على اختيار عبدالعزيز بن حسن بن سيف - رحمه الله - أميرًا لهم وقدموا بذلك خطابًا مكتوبًا للشيخ فكتب عليه تأييدًا ثم أرسل الخطاب إلي الملك عبدالعزيز - رحمه الله - فأقره ووافق على الاختيار وتم تعيينه أميرًا للدِّلم". [3]
  • ما ذكره الشيخ محمد موسى، فقال: "ولما كان في الجامعة الإسلامية كوَّن مجلسًا استشاريًا يحيل إليه ما يحتاج إلى دراسة واجتماع في الرأي... ولما عُين سماحته رئيسًا لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد كون مجلسًا استشاريًا يضم كبار الموظفين في الرئاسة، وصار يحيل إلى المجلس المعاملات المهمة، وكان ذلك مساء كل اثنين ليلة الثلاثاء من كل أسبوع". [4]
  • كذلك ما ذكره الدكتور محمد المجذوب، حيث قال: "الشيخ الذي أخذ نفسه بأدب الإسلام، عزائمه ورخصه، ما كان له أن يتخلى عن مبدأ الشورى في أي شأن يقتضيه، وقد شاء الله أن أصحبه في مجلس الجامعة عدة سنين، فقيض لي أن أشهد من فضائله وبخاصة في هذا الجانب من خلقه، ما لا يصح إغفاله من أي ترجمة تكتب عنه، فأول ما نواجهه من شيم الشيخ في هذه المجالس ذلك الأنس الذي يشيعه في نفوس الأعضاء، بسؤاله كلا منهم عن حاله وصحته، ووقوفه على ما سمع من الأنباء العالمية وأحوال المسلمين، فإذا ما بدأ النظر في جدول الأعمال أخذ بكل منها على حدة، فعرضت للمناقشة، وأعطى كل عضو رأيه فيها بصراحة، فإذا انعقد على وجه منها الإجماع أثبت ذلك في المحضر، وإلا طرح كلا من الوجوه المختلفة للتصويت، وتقرر في شأنها الوجه الأجمع للأصوات، وكثيرا ما يكون هذا الترجيح مخالفًا لرأي الشيخ، ولكن ثقته بأعضاء المجلس والتزامه مبدأ الشورى ينتهيان به إلى الرضى التام بكل ما تم". [5]
 
ولقد تميز سماحة الشيخ عند إعماله لمبدأ الشورى بعددٍ من الميزات منها:
  • عدم احتقاره لرأي أحد:
يقول الشيخ محمد الموسى: "وكان - رحمه الله - لا يحقر الرأي من أي أحد كائنًا من كان، بل كان يقبله، وربما تبناه إذا رأى وجاهته، ولو كان من صغير، أو ممن ليس له شأن، وإذا كان له رأي في مسألة أو موضوع، ثم نوقش فيها، وتبين له وجه الصواب أخذ به، ولو كان مخالفًا لما رآه سالفًا". [6]
  • عدم تشبثه برأيه الخاص:
يقول الدكتور محمد المجذوب: "وذات ليلة احتدم النقاش حول إحدى القضايا المطروحة، وتباينت الآراء فيها، وكأني بالشيخ قد خشي أن يكون في إبدائه وجهة نظره إحراج للآخرين، فقال بلهجة ملؤها الود: أرى يا إخوان أن يأتي رأيي ورأي نائبي آخر الآراء؛ لئلا يكون في غير ذلك حرج لكم، وهي كلمة عميقة الدلالة على سماحة الرجل، واحترامه النبيل للعاملين معه، ورغبته الصادقة في الانتفاع بخبراتهم إلى أقصى الحدود، وليس ذلك شأنه في مجلس الجامعة فقط، بل هو مسلكه الطبيعي في كل شأن يتسع للتشاور، حتى القضية يسأل بها في الفقه، وهي من صميم اختصاصه، يطارحنا بها الرأي على ضوء النصوص الواردة في شأنها، حتى يطمئن قلبه إلى الوجه الأمثل، وقد يعترضه الأمر فيه الإبهام فيطرق مَلِيًّا يتأمله في صمتٍ، ثم يدلي برأيه، أو يقول لمن حوله ممن يثق به: أشيروا عليَّ". [7]
هكذا رأينا كيف اهتم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بالشورى، وكيف رسم لنا صورة رائعة في إعمال هذا المبدأ الإسلامي بين الناس، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه كل مسئول في مكان عمله، وكل ربِّ أسرة في بيته، إن أراد الصلاح والإصلاح؛ لأن الخير كل الخير في رأى الجماعة، فرحم الله سماحة الشيخ وأسكنه فسيح جناته.
 
  1. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز رواية محمد الموسى، محمد بن إبراهيم الحمد (223).
  2. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: (256،255).
  3. ابن باز في الدِّلم قاضيًا ومعلمًا، عبدالعزيز بن ناصر البراك (31).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز رواية محمد الموسى، محمد بن إبراهيم الحمد (223).
  5. علماء ومفكرون عرفتهم، محمد المجذوب (90).
  6. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (223).
  7. علماء ومفكرون عرفتهم، محمد المجذوب (90، 91).