الحدث ودلالته وكيف نحفظه؟

د. سليمان بن حمد العودة
الأستاذ المشارك بفرع جامعة الإمام بالقصيم
 
عاش العالم الإسلامي وفي مقدمته المجتمع السعودي الأيام الماضية حدثًا اهتزت له مشاعرهم وتحركت عواطفهم بصورة تذكرنا معه ما سبق أن قرأناه في مدوناتنا التاريخية عن مشاهد الجنائز للأئمة الأعلام أمثال إمام السنة أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثالهم رحمهم الله.
لقد كان نبأ وفاة إمام عصره، ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه - الله حدثًا جللًا، ومصابًا فادحًا حزنت له القلوب وبكت عليه العيون، وهرع الناس يلتمسون وسيلة تمكنهم من المشاركة في الصلاة عليه وتشييع جنازته، وعند مكاتب الخطوط السعودية - الخبر اليقين - هذا فضلاً عن الذين استقلوا مراكبهم قاصدين البيت العتيق حيث يصلى على الشيخ الفقيد ويدفن.
وزاد من حضور الشيخ وإبرازه إعلامياً حضور المسؤولين في الدولة وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وعدد من مسؤولي الدولة وجمع من رؤساء الهيئات والمنظمات الإسلامية والعالمية، وهنا أورد عدداً من الأسئلة وأحاول الإجابة عليها.
ترى ما أصل هذه المحبة للشيخ؟ وما أسباب توافد هذه الجموع؟ وما دلالة هذا الحدث العظيم؟ وكيف يحافظ على هذا الرصيد الإسلامي ويستثمر؟
إنها أسئلة تفرض نفسها ويفرضها الواقع المشاهد، ولئن صح عن رسول الله ﷺ قوله: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة فنعتقد أن شيخنا (الراحل) ممن يستثنى من هذه القاعدة، وهو أقرب إلى مقولة الرجل الراشد لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف، وإلى نظم الشاعر حين قال:
........... وواحد كالألف إن أمر عنى
إن أساس هذه المحبة للشيخ الراحل - رحمه الله - شعور فياض صادق نبعه توفر عدد من السجايا والمناقب تميز بها الشيخ، وضاعفت من محبيه، فأهل العلم والمعنيون بدقائق مسائله يحبون الشيخ ويشعرون بفقده، بل وبذهاب وعاء من أوعيته، وأهل الدعوة يدركون دوره الفاعل في الدعوة إلى الله، ويحزنون لفراقه؛ لأن مسؤوليتها ستتضاعف عليهم وحصة الشيخ منها ستوزع عليهم، وأهل الحاجات وأرباب المشكلات يؤلمهم أن يذهب القاضي لحوائجهم والمهتم بحل مشكلاتهم، أما الغرباء وذوو الأقليات المسلمة فيحسون بالفراغ الكبير الذي سيتركه لمزيد اهتمامه بقضاياهم ودعمهم ومساندتهم، ويحس بلوعة الفراق وعظيم الحزن أهل الحسبة ورجال الهيئات الذين يفزعون للشيخ كلما ظهر منكر أو أوشكت فتنة أن تطل برأسها، فيرون من الشيخ اهتمامًا بها ويجدون منه خطوات عملية لدفعها والإنكار على أصحابها، كما يشعر بمرارة فقد الشيخ - رحمه الله - عامة الناس رجالهم ونساؤهم شيبهم وشبانهم الذين اعتادوا السماع لفتاواه المقنعة ونصائحه الصادقة المستمرة، وينضم إلى هذه الشريحة من المجتمع شريحة أخرى، قد تختلف في نمط تفكيرها وقد لا تعنى كثيراً - بالمناقب السابقة رغم أهميتها - لكنها ترى في الشيخ نموذجًا لهدي الإسلام في حسن الخلق، وكرم الضيافة، وسلامة الصدر وسعة الأفق، والحرص على تقديم النفع للآخرين، إلى غير ذلك من أخلاق كانت تلازم الشيخ وتوسع دائرة محبيه والمتأثرين لرحيله.
هذا فضلاً عن مؤلف كان يراجع الشيخ فيما ألف، أو رجل او امرأة حصينين لا يعرفان الشيخ إلا باسمه، وليس للشيخ عليهم فضل في ذوات أنفسهم لكنهم يدركون أنهم من جملة المستفيدين - بشكل عام - من بقاء الشيخ وجهاده فقد يكون وراء معروف أو خير انتشر في البلاد، وقد يكون سببًا لدفع مكروه أو سوء سيستطير شرره وتعم الفتنة به لو لم يكن للشيخ وأمثاله جهد مع المسؤولين في إيقافه والإنكار على المتلبسين به.
إنها مجموعة من الخلال والخصال الحميدة شاء الله أن تجتمع في الشيخ، وقد يعجز عن القيام بها كلها الفئام من الناس، وهذه وتلك شكلت جمهوراً كبيراً من محبيه والمتأثرين لفقده.
وهنا يرد سؤال أذلك الفضل من الله اجتمع للشيخ لفصاحة لسانه؟ فنحن نعلم أن ثمة من هو أفصح منه لساناً، لكنه كان أقل من الشيخ الراحل جرأة وبياناً للحق.
أم ذلك كان لقوة جسدية امتاز بها الشيخ عن غيره؟ فالكل يدرك نحالة جسم الشيخ وضعفه، ولكنها همة القلب لا تملك الجوارح إلا الاستجابة لها ولو كان على حساب راحتها ونحولها.
وحين يستمتع عدد منا بالبصر ليرى الأشياء على حقيقتها فقد انطفأ نور عيني الشيخ ظاهراً، لكنهما أبصرتا بنور الله ما لم يره المبصرون وصدق الله: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وأمر رابع هل كان الشيخ - رحمه الله - فارغاً من المسؤوليات والمهام بحيث يمكن للقاعدين أن يقولوا: لو تفرغنا كما تفرغ الشيخ لعملنا مثل أو أعظم مما عمل؟ إننا نعلم جميعاً أن الشيخ ذو المهام والمرشح لعدد من المناصب والمسؤول عن عدد من الهيئات والمدعو لعدد من الاجتماعات إلخ القائمة في التكاليف وهي لا تخفى.
إذن فالأمر حسن استثمار للوقت بل فن في إدارة الوقت، وهو من جانب آخر استشعار لحقيقة هذه الحياة، وشعور واع بقيمة الزمن، والمسارعة إلى الخيرات وعمل بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُوقوله: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ.
إن من دلالات ونتائج تأثر الناس - على كافة طبقاتهم - لموت الشيخ رحمه الله ما يلي:
  • أثر الخطاب الشرعي وتأثيره على فئات المجتمع وقد عبروا عن تأثرهم يوم جاء نبأ الوفاة وفي الصلاة وتشييع الجنازة.
  • إن بإمكان البشر لا سيما العلماء والدعاة أن يشكلوا من أنفسهم طاقة تتفجر هنا، وتفيض بخيريتها هناك لكن زاد ذلك الصبر وعلو الهمة والطمع في الأجر واستثمار الوقت والاستعانة بالله وسؤاله التوفيق والتسديد.
  • يعجز أصحاب المناهج الأرضية والملل والنحل والأهواء الفاسدة أن تجتمع القلوب عليهم بمثل هذه الكثرة والتنوع والشمولية، وقد يكون لبعضهم حضور في حياته - يقل أو يكثر - "ولكن الموعد يوم الجنائز".
  • قد يخيل إلينا - أحياناً - أن الطريق لكسب الناس مجاراتهم ومداهنتهم والواقع يشهد أن التجرد للحق والنصح للخلق وعدم المداهنة في دين الله طريق مأثور لرضى الناس وكسب مودتهم، وأعلى من ذلك أنه الطريق لرضا الله ومحبته: فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
  • إن في قلوب الناس وعقولهم مكاناً واسعاً لاستقبال الخير، وتقدير رجالات العلم والدعوة، يظهر ذلك في محيط العالم الإسلامي - بشكل عام - وتظهر بوادره أكثر في بلاد الحرمين على وجه الخصوص وتلك قضية ينبغي أن يقدرها الخيرون حق قدرها ويستثمروها أمثل استثمار.
اكتفي بهذه الدلالات الخمس لأتيح الفرصة لتفكير الآخرين في سواها.
وانتقل بعد ذلك لكيفية المحافظة على هذا الرصيد واستثماره.
  • فقد يفكر المسؤولون وغيرهم بإيجاد وقف خيري يصرف ريعه على الدعوة والدعاة في الخارج ويكون باسم الشيخ ومن حسناته، وقد تعمر مساجد أو تبنى قاعات للعلم والدعوة أو نحوها، تحمل اسم الشيخ وتستمر لتحقيق منهجه وتبقي أثره.
  • ومع أهمية هذه فأهم منها الاستمرار على اهتمامات الشيخ ومنهجه والمحافظة على السمت وتشجيع المعروف وإنكار المنكر الذي صرف له جل وقته وانتقل إلى خالقه وهو يمارسه ويوصي بالعناية به.
  • وأذكر العلماء والدعاة وطلبة العلم ورجال الحسبة وأصحاب الجمعيات الخيرية وسواهم أن يتنادوا لملء الفراغ الذي تركه الشيخ في كافة المجالات وفيهم مؤهلون للفتيا، وآخرون للدعوة، وفئة للاحتساب ورابعة لقضايا العالم الإسلامي وأقلياته ومستضعفيه، وخامسة لنشر العلم وتحرير مسائله، وسادسة لنصرة أهل السنة والتحذير من أهل البدع والتغريب والعلمنة، وهكذا من مهام الشيخ وإرثه الذي تركه، وإن أمكن أن يقوم بها فرد أو عدة أفراد فذلك المرجى، والا فلتقسّم هذه التركة الثرية وليأخذ كل بنصيبه ورحم الأمة ولود لم يعقم وإذا مات منا سيد قام سيد، والرجال تعرف بالحق، ولا ينبغي التعلق بالأشخاص.
  • هل تقوم هيئة إسلامية كالشؤون الإسلامية أو الرابطة أو الندوة العلمية أو غيرها بطباعة كتب الشيخ ورسائله وفتاواه بأكثر من لغة وتوزع في أنحاء العالم الإسلامي وكذلك الأمر بالنسبة لأشرطته وفي ذلك استدامة لذكره ونشر علمه، وبلادنا والحمد لله مشهورة ولها جهود في نشر الخير والعلم والدعوة في العالم.
  • أما العامة وشريحة الشباب (من الجنسين) فإن البرهان على محبتهم للشيخ التعرف على صفاته ومناقبه الإسلامية وقراءة كتبه ورسائله والسماع لأشرطته وفتاواه، والدعاء له، والتطلع للسير على منهج رسول الله ﷺ وورثته من العلماء، واستثمار الوقت، وعلو الهمة، وبناء الذات في العلم والعبادة والدعوة، ونفع الخلق، كل ذلك مع اعتماد الإخلاص وحسن المتابعة، والبعد عن الغلو في الصالحين، فذلك أول انحراف كان في البشر، وليس يخفى أن أساس قبول العمل توفر الإخلاص والمتابعة للنبي ﷺ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه احدًا.
  • رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وعوض المسلمين عن الشيخ خيراً.
وعزاؤنا بفقد الشيخ وجود عدد من العلماء والدعاة وطلبة العلم في هذه البلاد المباركة - وفي غيرها - سيحملون رايته ويسيرون على منهجه، اللهم وفقهم وسددهم وأعنهم وبارك في جهودهم. [1]
  1. جريدة الجزيرة ، الجمعة 6 صفر 1420هـ .