دروس وعبر من وفاة الإمام الرباني

د. عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
كلية اصول الدين بالرياض
 
ما إن انتشر خبر وفاة سماحة الشيخ ابن باز حتى خيم على الأمة قتامة حالكة، وارتسمت على وجوه الناس جميعًا الحيرة والدهشة، وكأنهم لا يصدقون أن هذا البدر قد أفل، ولن يشاهدوا محياه المنير إلا في بحبوبة الجنة - إن شاء الله تعالى.
رحل هذا الإمام العلم القدوة الرباني، فريد زمانه، ووحيد أوانه، بعد أن ترك في الوجدان لوعة، وفي النفوس حرقة، لم تنطفىء رغم ما هطل عليها من دموع العين، وما هب عليها من زفرات القلب، رحل كأنه لم يعش بيننا ما يزيد عن ثمانين سنة، اكتنفاه في مجالسه ودروسه ومحاضراته، فكان كالأب الحاني، يأسرك بلطفه وكرمه وتواضعه وبذاذته وأخلاقه النادرة وعلمه الفياض، تلوح علامات الصدق والإخلاص على محياه، وتتعطر بهما كلماته، لباس التقوى في الدنيا هو دثاره وشعاره في كل أحواله، كأن سنة المصطفى وهديه ﷺ لم يخاطَب بها أحد سواه.
رحل - رحمه الله - وكأن الناس يرفضون وداعه ويودون لو أداروا عجلة الزمن إلى الخلف ليبقى بينهم ولو سنوات معدودة، يتلذذون بحديثه ومجالسته، مع أن جمهورهم أهدروا عشرات السنوات وهم على قرب منه، ومع ذلك شغلتهم دنياهم عن التمتع بخيرات الشيخ وظلاله الوارف، وكأنه - رحمه الله - الماء الذي لا يعرف الناس قيمته إلا عند فقده وما حاله معهم إلا كما قال الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
إن الذي شاهد تلك الجموع الغفيرة التي ودعته في أطهر بقاع الأرض جموع تموج موج البحر، هادرة بالبكاء والابتهال إلى الله، شيعه الوجهاء والأغنياء والفقراء والكبار والصغار، ومن سائر الأجناس واللغات، تحت لهيب الشمس الحارق، ووسط الزحام الخانق، تراكضت تلك الألوف خلف ذلك النعش المسجى في صورة مهيبة، تحمل رسالة سرور واغتباط لكل محبي الشيخ، وشوكة في حلوق جميع أعداء الحق، ولله در الأمام أحمد - رحمه الله - حين يقول: "بيننا وبين أهل البدع الجنائز".
إن الصورة التي رافقت رحيل شيخنا إلى الرفيق الأعلى وعاشها أو شاهدها كل محبي الشيخ أرى أنها تحمل دروسًا وعبرًا كثيرة من أهمها:
  • أن الإيمان والعلم والتواضع من أهم أسباب الرفعة في الدنيا والآخرة، يقول سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه.
  • أن اتفاق جمهور الأمة على الثناء العاطر عليه، والشهادة له بالخير من علامات الفوز في الآخرة - بإذن الله - فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه مر به جنازة فأثنى الناس عليها خيرًا فقال ﷺ: وجبت فسأله الصحابة عن ذلك فقال: اثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة.
  • لعل من كمال إكرام الله له أن كتب له الدفن في أشرف بقاع الأرض مع أنه كان لا يسكنها إلا أيامًا يسيرة، فقد ورد أن عمر بن الخطاب دعا فقال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتًا في بلد رسولك، فقال له عبدالرحمن بن عوف : كيف هذا يا أمير المؤمنين وإنما القتال في الثغور؟ قال: هكذا قلت، فحقق الله لعمر ما تمنى.
  • نرجو أن يكون هذا القبول والمحبة من عموم المسلمين له - رحمه الله - علامة حب الله له وملائكته، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وأخرجه الترمذي وزاد: فذاك قول الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96].
    والملاحظ يرى أن سماحته - رحمه الله - حظي بقبول ومحبة من جميع فئات الناس بصورة لا تتكرر في التاريخ إلا قليلًا، فكأنه هبط علينا من القرون الأولى - عصر السلف الصالح - برهة من الزمن ثم عاد إليهم ليرافقهم - إن شاء الله - في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولذا يظن أن الذين صلوا عليه في هذه البلاد وفي أنحاء المعمورة يعدون بعشرات الملايين، فلله درك من فارس أخذ بمجامع القلوب حيًا وميتًا.
  • تجلى وبشكل واضح في وفاة الشيخ - رحمه الله - ما يحظى به علماء الشرع في هذه البلاد من تقدير واحترام وإجلال من ولاة الأمر بخاصة، ومن جمهور الناس بشكل عام، مما يفوت على متربص بهذه البلاد ودينها فرصة الاختراق لتلك البنية المتماسكة بين القادة والعلماء والعامة، فالكل أسرة واحدة، وفي بيت واحد، ويسيرون على منهج واحد، فلا نامت أعين الشامتين والمنافقين.
  • أن هذه العاطفة الجياشة التي جلل بها المسلمون مصيبتهم بوفاة الشيخ أكبر مؤشر على حاجتهم لترجمة وافية تشمل كل جوانب حياته - رحمه الله - بتفاصيلها حتى يبقى الشيخ حيًا بين الأجيال اللاحقة، فهو بحق مدرسة فريدة من حق كل مسلم أن يستفيد منها ويستلهم العظات والعبر، وتحقيق ذلك يقع بالدرجة الأولى على خواص تلاميذ الشيخ ومحبيه، نسأل الله أن يسدد خطاهم، وأن يجبر مصاب الأمة الإسلامية برحيل عالمها، وأن يكتب الخير في خلفه وما ذلك على الله بعزيز. [1]
  1. جريدة الجزيرة، السبت 6 صفر 1420هـ.