رحمك الله يا سماحة الوالد

وليد عبدالله الروساء
المجمعة
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
يقول النبي ﷺ: العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا بل ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر نعم لم يعرف عن نبي أنه ورث من حطام الدنيا ونعيمها الزائل شيئًا، وإنما ورثوا عليهم السلام الهداية والسعادة للبشر، فمن تمسك بشرعتهم ومنهجهم نجى وأفلح في الدنيا والآخرة، وكذلك العلماء العاملون الصادقون هم للأنبياء أتباع ومبلغون عن الله ورسوله آياته ودينه، لم يعرف عن ابن المبارك أو الزهري أو السدي أو أحمد بن حنبل أو الشوكاني أو ابن عبدالوهاب أو عبدالعزيز بن باز أنهم ورثوا من متاع هذه الدنيا إلا قليلًا، وكان لسان حالهم يقول: (أنا رجل ملة ولست برجل دولة).
ولد الشيخ عبدالعزيز بن باز في 1330هـ، وطلب العلم على علماء نجد الكبار فمنهم على سبيل المثال:
  • محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمهم الله.
  • صالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمهم الله.
  • سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله.
  • حمد بن فارس، رحمه الله.
  • سعد بن وقاص البخاري، رحمه الله.
  • محمد بن إبراهيم، رحمه الله.
هذا وقد ابتلي - رحمه الله - بمرض في عينيه مما أدى لفقده للبصر سنة 1346هـ، لذلك صبر وصابر فعوض عن البصر بصيرة في العلم، وأفنى عمره داعيًا مجاهدًا صابرًا محتسبًا يقول كلمة الحق ولا يخشى في الله لومة لائم من كبير أو صغير، مع ذلك فلقد كان حاملًا لهم الأمة، يعطف على الصغير، ويعلم الشاب، ويسعى على الأرملة والمسكين، وعجوز أفريقيا على ذلك خير مثال، فلقد ذهب بعض الدعاة إلى الله لنشر الإسلام في مجاهيل أفريقيا الوسطى، فبينما هم يتنقلون من قرية لأخرى إذ توقفوا عند تيك القرية التي بها مسلمون فعرضت لهم عجوز مسلمة طاعنة في السن فقالت: اقرؤوا مني السلام على الشيخ عبدالعزيز بن باز، فقالوا لها: وما الذي عرفك به؟ فقالت: تأتيني منه معونة سنوية، فانظر إلى صنيع ذلك المجاهد رحمه الله.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذ يموت لموته خلق كثير
وكان الشيخ فوق ذلك كله عابدًا زاهدًا، يحدثنا أحد طلبة الشيخ الكبار فيقول: أتينا من المدينة المنورة في ساعة متأخرة من الليل متوجهين إلى الرياض، وقد أخذ منا الإعياء مأخذه، وفي وسط الطريق أحس الشيخ - رحمه الله - أن أصحابه قد أجهدوا فأمرهم بالتوقف، فأخذ كل واحد منهم مضجعه وغط في نوم عميق من التعب، فيقول صاحبنا: فسبرت الشيخ قد تظاهر بالنوم فلما أخذ على ذلك برهة قام يحيي ليله بالتهجد والتلاوة، واستمر على ذلك حتى قبيل صلاة الفجر، فرحم الله من أتعب رجليه وقوفًا بين يدي الله يناجيه ويدعوه، رحم الله من أسهر ليله وأظمأ نهاره عبادة لله.
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالحرب عزمه
وموت العابد القوام ليلًا يناجي ربه في كل ظلمة
وموت فتىً كثير الجود محلًا فإن بقاءه خصب ونعمة
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمة
لقد كان فقيد الأمة يحمل همها فلا يسمع بضعيف إلا مد يد العون حسب طاقته، وله مع الثكالى والأرامل واليتامى مواقف يعجز القلم عن تسطيرها في زمن قل فيه للمسلمين الناصر، حدثنا أحد المقربين للشيخ فقال: جاءت رسالة مستعجلة من الفلبين وإذ بفحواها امرأة فلبينية مسلمة هجم النصارى عليهم فقتل زوجها وابنها، وفعلت الفاحشة في ابنتها، وكذلك خربوا دارها فهدموها، فأرسلت للشيخ تطلب منه يد المساعدة فأرسل أن اسحبوا من رصيدي عشرة آلاف ريال فقيل له: يرحمك الله ليس في الرصيد شيء فاستلف من الراتب القادم عشرة آلاف ريال وأرسلها لها.
عفاء على أرض تعيش بغيرها فليس لها في الصالحين معرج
لمن تستجد الأرض بعدك زينة فتصبح في أثوابها تتبهرج
هذه هي التضحية، هذه هي الإغاثة، هذه هي النجدة، هذه هي معاني الأخوة الإسلامية، هذا هو البنيان، هذا هو التآزر، لكم شهد التاريخ ويشهد بمواقف الشيخ رحمه الله تجاه العالم الإسلامي، فكم مرة سمعنا بموقفه تجاه القضية الأم فلسطين، وكذلك كشمير، وبورما، ورايوند، والبوسنة، والبانيا، والشيشان، وأخيرًا كوسوفا، إن كل هذه المناطق التي اضرمت نيران الحرب فيها لتشهد للشيخ أنه أدى أمانة الكلمة وأدى ما كان يدين الله به من إظهار الحق ونصرة إخوانه المسلمين.
لكَم شهد التاريخ ويشهد بمواقف الشيخ - رحمه الله - تجاه حقوق المرأة المسلمة، فهو يسعى ليل نهار على توعية المرأة المسلمة المؤمنة، بالشريط تارة، والإذاعة تارة، والكتاب تارة، والفتوى تارة أخرى، فهو حريص - رحمه الله - أشد الحرص على عفاف المرأة المسلمة وحشمتها وكرامتها، وله في ذلك قدم صدق معروفة مشهودة، كم من أسرة عالها الشيخ - رحمه الله - لما فقدت الزوج، وكم من صدقة تشهد للشيخ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، كم من بيت جمع الشيخ شمله بعد الفرقة بجهود الإمام، وكم من شاب اهتدى بعد أن ارتمى في حبائل الضلال، كم من جاهل ارتفع بالعلم فينهل من دروس الشيخ، وكم من طالب علم معوز محتاج سد جوعته وفرغه للعلم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
نعم هؤلاء قدواتنا وبهم نفتخر وعنهم ننافح، بورثة الأنبياء نبتهج، وعنهم نصدر بحكمنا وآرائنا وأفعالنا، فهم معنا وإن غابت شخوصهم، وإن ووروا تحت الثرى، ووسدوا الحادهم، فهم موجودون بعلمهم بتراثهم بصدقهم بدعوتهم بجهادهم، فيا لله كم من ميت استحالت عظامه هشيمًا حي بألسنة الناس، ويرجع الناس إليه في أمور عظيمة في كتبه، وما أودع فيها من درر العلوم، فأين شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه الوفي ابن القيم وأئمة السلف من هذه الأمة.
ونحن إذ نكتب عن الشيخ فيجب أن نقتدي بعلمه وفقهه وجهاده ودعوته وصبره، فسبحان من طرح في قلوب العباد محبته، وسبحان من أشاع له القبول في الأرض فلا تجد صغيرًا ولا كبيرًا ولا ذكرًا ولا أنثى ولا ضالًا ولا مهتديًا إلا ويذكر الإمام بالخير، ويدعو للشيخ بالجزاء الحسن، فهذه والله الحياة الهانئة والعيشة السعيدة، وهذا حقًا مصداقًا لقول النبي ﷺ: إن الله إذا أحب فلانًا نادى جبريل إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يطرح له القبول في الأرض.
ونحن إذ نكتب هذا المقال ونسطر هذه الأسطر ونكتب هذه الكلمات لنقول للمحسن أحسنت، نشكر من صنع إلينا معروفًا، يقول النبي ﷺ: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، وهل أعظم من تعليم العلم معروفًا، ومن الفتيا والسعي في قضايا الأمة الإسلامية عملًا، هل من معروف أعظم من ذلك؟ لذا فلا أقل من أن ندعو للشيخ بظهر الغيب أن يرحمه الله، ويغفر له، وأن يحشرنا الله معه في زمرة النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأن نشيد بجهوده في كل محافل، فالشيخ قد أفضي إلى ما قدم من صالح العمل، ولكن الشأن شأننا، هل كل منا أدى ما عليه من الأمانة التي كلف بها؟ هل سعينا في إصلاح بيوتنا وإصلاح ذات البين؟ هل نشرنا الخير للغير في كل مجال كل على حسبه؟ هل حففنا بيوتنا بذكر الله وبطاعة الله وابتعدنا عما يغضب الله؟
أما ترديد الكلام عن الأعيان والأشخاص فلا يقدم ولا يؤخر، بل من فعل الصوفية الضالة وغيرها من الفرق الأخرى، ولكن الأمر قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ، البدار البدار للعمل الصالح، كل بحسبه وطاقته وما بوأه الله من مكانة ومسؤولية وأمانة، ونسائل أنفسنا عن مدى أدائنا لهذه الأمانة قال الله تعالى: وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا، وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
اللهم ارحم الشيخ، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، يا سميع الدعاء، اللهم إنا نشهدك إنا نحبه فأحبه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. [1]
  1. جريدة الجزيرة، الأربعاء 4 صفر 1420هـ .