سماحة والدنا إلى رحمة ربنا

الشيخ محمد بن سعد السعِّيد
إمام وخطيب جامع سلطانة الشرقي بالرياض
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يقول الباري جل ذكره: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، فكل من على وجه البسيطة سيموت ويفنى ولا يبقى إلا وجه رب العالمين القائل في كتابه: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] وفي آخر الزمان يكثر موت العلماء ويقبض العلم بموتهم كما قال ﷺ: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا متفق عليه.
وفي يوم الخميس1420/1/27هـ فقد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عالمًا جليلًا ومجاهدًا مخلصًا وعلمًا من أعلام الأمة الإسلامية ألا وهو سماحة الشيخ العلامة والد الجميع عبدالعزيز بن عبدالله بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي عن عمر يناهز 89 سنة قضاها - رحمه الله - في الجد والاجتهاد والعمل الصالح وطلب العلم وتعلمه وبذله، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وقضاء حوائج المسلمين ومساعدتهم والوقوف معهم، رحمه الله وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، ونور ضريحه وأنزله منازل الأبرار، وجمعنا به في دار كرامته، ومستقر رحمته، وجبر الله مصيبتنا وأخلفنا خيرًا منها، وأحسن الله عزاءنا وعزاء أهله وأسرته وجميع المسلمين فيه وخير ما نقول إلا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وإن كان رسول الله ﷺ يقول لوفاة إبراهيم ابنه: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون فإنا وكل مسلم يقول: "وانا لفراقك يا إبا عبدالله لمحزنون".
والحمد لله على قضائه وقدره له ما أخذ وله ما أعطى، نعم رحل والله أبو الجميع وأبو المساكين والفقراء والأرامل واليتامى.
  • فكم من مسكين مسح دمعته وآواه وكفله.
  • وكم من أرملة فجعت في زوجها واساها وبذل لها من ماله الخاص ما يبدد حزنها ويخفف آلامها.
  • وكم من مسكين يتلوى جوعًا وفقرًا واساه الشيخ وأعطاه وسد حاجته.
  • وكم من فقير لا يجد سكنا يؤيه أسكنه الشيخ أو دفع عنه أجرة السكن، أو كتب معه لأحد المحسنين لشراء مسكن له يؤيه وأولاده.
  • وكم من مديون غارق في ديونه سعى له الشيخ حتى أوفى ديونه وتبددت أحزانه.
  • وكم من أسرة متفرقة وأوشكت حياتهم على الانهيار والتشتت جمع الشيخ شملها وأصلح ذات بينها حتى عادت السعادة ترفرف عليهم، والأنس يكسوا منازلهم.
  • وكم من قضية ومسألة شائكة احتار فيها العلماء والمشايخ ردت إليه فوجد لها سماحته مخرجًا من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
  • وكم من منكر برز وظهر وتبرم المسلمون والغيورون على دين الله منه احتفى واندحر بفضل الله وكرمه، ثم تدخل الشيخ في إنكاره والحيلولة دونه.
  • وكم من المسلمين في أنحاء العالم وأرجاء المعمورة بلغتهم دعوة الشيخ وعلمه وفتاواه ومساعداته المادية والمعنوية.
  • وكم من الأيام صار حلقة ربط وواسطة خير بين العلماء والحكام والمواطنين والمسؤولين، فهو محبوب من الجميع ومحل تقدير الصغير والكبير، ومقبول الكلمة ومسموع الرأي، ومستشار العالم والجاهل والأمير والحقير.
  • وكم من الضيوف وعابري السبيل دخلوا بيته وحلوا بضيافته بالساعات والأيام مستقبلين بكل حفاوة وترحيب من سماحته مكرمين بأكرم ضيافة وأفضل لقاء على شتى طبقاتهم من أغنياء وفقراء وعرب وعجم.
  • ولله دره كم من الكتب ألفها إذ بلغت أكثر من 210 مصنفًا.
  • وكم من الكتب والمصنفات جمعها وحققها وخرجها وعني بها.
  • وكم من المقالات الإسلامية الصحفية والمواعظ المؤثرة والنصائح المفيدة والفتاوي القيمة نشرها.
  • وكم من الردود والإيضاحات التي أشكلت على أصحابها بينها الشيخ وناقشها فأقر صالحها ورد زيفها، وناظر أصحاب الأهواء والأفكار الضالة فرجعوا إلى رشدهم وصدروا عن قوله ونصحه.
  • وكم من المكالمات الهاتفية من شتى أقطار الدنيا من الداخل والخارج تطلب من الشيخ الجواب الكافي والرأي السديد استقبلها الشيخ ورد عليها ليلًا ونهارًا وصبحًا ومساء لا يكل ولا يمل ولا يفتر عن خدمة الإسلام والمسلمين، ونفعهم وإيصال الخير إليهم في أي مكان.
ولله ما أعظم أجره وثوابه، وما أعظم صبره وجلده، وهو يجلس لطلاب العلم بالساعات الطويلة متصدرًا دروسه المستمرة طوال السنة وأغلب ساعات اليوم بعد الفجر وبعد المغرب، يقرأ عليه الكثير من الكتب والمصنفات والمتون المطولة، وهو يقف أمام هذه المصنفات كالجبل الأشم مفتيًا ومفسرًا وموضحًا بكل تواضع وحلم وصبر وسعة صدر، حتى بعد انتهاء الدرس وهو في طريقه إلى السيارة وفي حال ركوبه ونزوله ودخوله منزله لا تنقطع عنه أسئلة السائلين واستفتاءات المستفتين يجيبهم بكل ارتياح على الرغم من فقد بصره وكبر سنه.
فهو يستغل وقته في طلب العلم وتعليمه حتى وهو في السيارة وفي أحرج المواقف، لذا رفع الله مكانته بالعلم وشرفه به، وقذف في قلوب الناس محبته له، لأن الله إذا أحب عبدًا حبب خلقه فيه، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال ﷺ: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين متفق عليه ، فرحم الله شيخنا وجعل الجنة مثوانا ومثواه، وسبحان القائل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
وإن سألهم عن مولد الشيخ ونشأته، فقد ولد - رحمة الله - في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض، وكان بصيرًا، ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346هـ، وضعف بصره، ثم فقده عام 1350هـ، وحفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ، ثم جد في طلب العلم على العلماء في الرياض، ولما برز في العلوم الشرعية واللغة عين في القضاء عام 1357هـ، ولم ينقطع عن طلب العلم حتى وفاته - رحمة الله، حيث لازم البحث والتدريس ليل نهار، ولم تشغله المناصب عن ذلك، وقد عنى عناية خاصة بالحديث وعلومه حتى أصبح حكمه على الحديث من حيث الصحة والضعف محل اعتبار، وهي درجة قل أن يبلغها أحد خاصة في هذا العصر.

مشايخه:
تلقى العلم على أيدي كثير من العلماء ومن أبرزهم:
  • الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب قاضي الرياض.
  • الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
  • الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض.
  • الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض.
  • سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية، وقد لازم حلقاته نحوًا من عشر سنوات، وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة 1347هـ، إلى سنة 1357هـ.
  • الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة أخذ عنه علم التجويد في عام 1355هـ.
من تلامذته:
درس على يديه كثير من المشايخ والطلاب فهم:
  • الشيخ عبدالله الكنهل.
  • الشيخ راشد بن صالح الخنين.
  • الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك.
  • الشيخ عبداللطيف بن شديد.
  • الشيخ عبدالله بن حسن بن قعود.
  • الشيخ عبدالرحمن الجلال.
  • الشيخ صالح بن هليل.
  • الشيخ فهد الحمين.
  • الشيخ عبدالعزيز القاسم.
  • الشيخ عبدالعزيز الراجحي.
  • الشيخ عمر العبيد.
  • الشيخ عبدالعزيز السدحان.
  • الشيخ سعد البريك.
  • الشيخ أحمد بن باز (ابنه).
  • الشيخ محمد الشويعر، وغيرهم كثير من طلبة العلم.
أعماله ومناصبه:
  • القضاء في منطقة الخرج مدة طويلة استمرت 14 عامًا واشهرا وامتدت بين سنتي 1357هـ إلى عام 1371هـ.
  • التدريس في المعهد العلمي بالرياض عام 1372هـ، وكلية الشريعة بالرياض بعد انشائها عام 1373هـ في علوم الفقه والتوحيد والحديث.
  • عين في عام 1381هـ نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى عام 1390هـ.
  • تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في عام 1390هـ بعد وفاة رئيسها الشيخ محمد بن براهيم آل الشيخ - رحمه الله - إلى 1395هـ.
  • وفي 1395/10/14هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى عام 1414هـ، وفي 1414/1/20هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه في منصب المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وله في جانب هذا العمل عضوية كثير من المجالس العلمية والإسلامية ومن ذلك.
  • رئاسة هيئة كبار العلماء في المملكة.
  • رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الهيئة المذكورة.
  • عضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
  • رئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
  • رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي.
  • عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
  • عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر فقط، كان يلقي المحاضرات ويحضر الندوات العلمية، ويعلق عليها، ويعمر المجالس الخاصة والعامة التي يحضرها بالقراءة والتعليق، بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة ملازمة له.

مؤلفاته:
فهي كثيرة جدًا نذكر منها:
  • مجموع فتاوى ومقالات متنوعة.
  • الفوائد الجلية في المباحث الفرضة.
  • التحقيق والإيضاج لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك).
  • التحذير من البدع ويشتمل على أربع مقالات مفيدة: (حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد).
  • رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
  • العقيدة الصحيحة وما يضادها، وغيرها كثير من مؤلفاته.
وعالم وشيخ هذه سيرته وهذه آثاره ومورثاته حق لنا أن نبكي على رحيله ونحزن على فراقه، ونقتدي به، ونقتفي أثره ومحاسنه، ويبقى حبه في قلوبنا وبين ضلوعنا، داعين له بالرحمة والمغفرة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وأن يجبر عزائنا وعزاء أهله والمسلمين فيه، وأن يعوضنا خير منه، وخير ما نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ولقد أحسن من قال:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شخص يموت بموته خلق كثير
ولقد صلى على جثمانه بعد صلاة الجمعة خلق كثير وجموع غفيرة لا يحصيها إلا الله  يتقدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، وولي عهده الأمين عبدالله بن عبدالعزيز، وكثير من أصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ وطلاب العلم، والموطنون والمقيمون، يترحمون عليه ويدعون له بقلوب ملؤها الحزن والأسى على فراقه ووداعه، الكل يريد أن يشارك في حمل جنازته ويلقي عليه نظرته الأخيرة مع كثرة المشيعين وشدة الزحام، حيث لم يشهد الحرم المكي وأهل مكة شدة في الزحام في تشييع جنازة مثل جنازة العلامة الورع الزاهد عبدالعزيز بن باز، هذا وقد صلى عليه صلاة الغائب في المسجد النبوي وجميع جوامع المملكة بعد صلاة الجمعة، وكذلك في بعض الدول الإسلامية وبعض دول الخليج المجاورة، وهذا برهان ودليل محبة الناس له، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته[1]
 
  1. جريدة الجزيرة، السبت 30 محرم 1420هـ.