تحول المجتمع من البداوة إلى التحضر

الحدث الذي أثَّر كذلك في حياة الشيخ - رحمه الله - هو ما تلى توحيد المملكة من قيام الحضارة وانتهاء عهد البداوة بصورة كبيرة، فعندما فكر الملك عبدالعزيز بشكل جدي في تأسيس المملكة، كان أول ما بدأ به هو تهيئة العشائر والقبائل - ما استطاع إلى ذلك سبيلا - لجو الاستقرار الذي يخلو من العادات الموروثة في الغزو والكسب عن طريق السلب بعد أن أدرك أن حياة البداوة غير المستقرة هي من العوائق الأساسية في طريق إنشاء الدولة التي يريدها.
وفي هذا الصدد راح يفكر في إحداث ما يشبه الثورة الانقلابية في حياة البدوي، فيصبح له وطن يستقر فيه ويعيش في ظلاله، وتمثلت أول خطوة في اختيار منطقة معزولة ومهجورة يطلق عليها الأرطاوية، وهي أرض تحتوى على عدة آبار تستخدمها القوافل أثناء مرورها ويجتازها التجار والمسافرون للتزود من مائها، وقام بتوزيع أرضها على فريق من أهل العشائر.
ومن ثم راح البدو من الأعراب بمساعدة الفلاحين من سكان المناطق المجاورة في إنشاء البلدة خاصة بعدما أصدر لهم الملك نظاما لتوزيع المياه، وقدم لكل منهم بندقية وعتادا، ونظم لهم سجلا للنفوس على أن يلبوا نداءه للجهاد إذا دعاهم.
وهكذا استطاع الملك عبدالعزيز أن يؤسس أول بلدة أو مجتمع متحضر من مختلف القبائل والفلاحين، وهذه كانت بداية الاستقرار الذي يهيئ النفوس لتلقي العلم وترسيخ القيم والسلوكيات والتوافق على أساسيات للتعامل فيما بينها. [1]
كما وضعت النظم الإدارية، وأنشئت المؤسسات والهيئات النظامية، فوُضِعَتْ أسس نظام الحكم سنة 1345هـ، وتأسست مديرية المعارف قبل ذلك بعام، وتم إنشاء أول مجلس للمعارف عام 1346هـ، والذي قام بوضع أول نظام تعليمي في المملكة. [2]
كما أَعْلت المملكة من شأن العلماء، وجعلت لهم دورًا قياديًّا في المجتمع، فكان العلماء مسؤولين بشكل كبير عن إدارة المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات، إلى جانب القضاء والإفتاء والهيئات الشرعية.
فعلى سبيل المثال: حين طلب الشيخ ابن باز - رحمه الله - إنشاء مدرسة ابتدائية في الدلم - حين كان قاضيًا لها - وافق ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - وأمر بإنشائها، فتم افتتاحها سنة 1368هـ، وأوكل الإشراف عليها لسماحة الشيخ ابن باز، يُرشِّح لها المدير والمدرسين الأكفاء. [3]
ولما أُنشئت الجامعة الإسلامية مُنِحَتْ رئاستُها للشيخ محمد بن إبراهيم، واختير الشيخ ابن باز ليكون نائبًا له - عليهما رحمة الله. [4]
يقول فهد البكران: "إن الملك عبدالعزيز بعد أن أدرك أن وحدة المملكة الناشئة وأن رباطها المتين الذي يجب أن يربط بين القبائل المختلفة سوف تصطدم بعقبة الجهل، عمد إلى التأكيد على أهمية التمسك بشريعة السماء ونشر العلم والمعرفة، خاصة فيما يتعلق بفرائض الدين، واستعان في سبيل ذلك بالمشايخ والعلماء لشرح الدين الإسلامي بشكل يقبله عقل البدوي، وراح يوسع دائرة الخطباء والمرشدين الذين كلفوا بمهمة التعليم وإرشاد أهل هذه البلاد". [5]
 
  1. ينظر: ابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (22،21).
  2. ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (25،24)، وابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (18،17).
  3. ينظر: ابن باز في الدلم قاضيًا ومعلمًا، لعبدالعزيز البراك (21،20).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (46).
  5. ابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (22).