عصفت بنا ريحُ الخطوب

للدكتور عبدالله بن محمد الحكمي
دُهِشَتْ وقالتْ إذ رأت عبراتي: ماذا دهاك؟ فقلت: واحسراتي
أُمَّاه مات إمامنا فاسترجعت واستعبرت في حيرةٍ وشكاة
أُمَّاه مات مجددُ الإسلام في أرض الجزيرة مهبط الرحمات
مات الذي يأسو الجراحَ بحكمةٍ وبصيرةٍ وحصافةٍ وأناة
مات الذي يأوي إلى أكنافه أهلُ الحوائج من ذوي الكربات
جرت الدموعُ على الخدود جداولًا حرَّى مع الترديد للدعوات
لم يبكِ أهلُ العلم فقد إمامنا كلا وسائل غاديًا والآتي
فلقد بكاه شيوخنا وشبابنا ونساؤنا بسواجم العبرات
وبكى الأراملُ واليتامى فقده في سائر الأمصار والفلوات
وبكته دورُ العلم في أرجائنا إذ غاب عنها أعذب الكلمات
مات المعلمُ ذو السَّداد ومَن به جمعت جميع منابع الخيرات
ما زرتُه إلا تذكرتُ الأُلى نشروا الهدى ببسالةٍ وثبات
كابن المبارك والفُضيل ومالك الصَّانعين المجد بالعزمات
سلب الإله حبيبتيه فكانتا مهرًا لسربالٍ من البركات
فلقد أقام لكل رشدٍ سوقه لم يخشَ إرجافًا ولا تبعات
إذ رام رضوان المهيمن فاستوى في عرفه مدح وقدح جناة
فحباه منزلةً وذكرًا خالدًا وجلالةً تسمو على الرَّغبات
وحباه حلم المنقري وأحنف وأبي الوليد الكمّل السادات
وإذا أحاط به العظامُ بمجلسٍ هابوا ولم تسمع سوى همسات
وكلامه الفصل الذي نرضى به في المعضلات وحالك الأزمات
كم معضل حارت له ألبابُنا فأماطه بثواقب النَّظرات؟
ضاقت جميع المعضلات بصبره ذرعًا وولَّت عنه منهزمات
واليأس لم يغمز قناة يقينه ووقاره أرسى من الصَّخرات
طود تحطمت الخطوبُ بسفحه وبه احتمى السَّاعون للخيرات
هو أمةٌ في واحدٍ وحياته مثلٌ ومنهاجٌ وكنزُ عظات
هو عالمي أين يوجد مسلمٌ واساه رغم تباعُدٍ وشتات
المسلمون جميعهم أبناؤه يدعو لهم بعشيةٍ وغداة
ما ملَّ يومًا سائلًا أبدًا ولم يسأم مقالة: أعطني، أو: هاتِ
بل كان للقُصَّاد أكرم موئلٍ وملاذ ملهوفٍ وركن عفاة
جاءته دنيانا فلم يحفل بها بل باعها طلبًا لخير حياة
أزرى بأهل الجود في أزماننا بل دونه الطائي ذو الجفنات
ثبتٌ إمامٌ حافظٌ مُتنسِّكٌ متزملٌ بالزهد والإخبات
ملك اللسان فلم يقُلْ لغوًا ولم يشغله بالتَّجريح للهيئات
تجلو مواعظه قلوبَ ذوي الهوى فتؤوب طامحةً إلى الحسنات
قد كان حادينا إلى سُبل الهدى واليوم نُسقى أكؤس الحسرات
أتيتمتْ تلك الفضائل بعده؟ آهٍ ويا لتردد الآهات
عصفت بنا ريحُ الخطوب بموته واجتاحنا سيلٌ من الغمرات
برحيله أفلت شموسُ هدايةٍ وارتاح أهلُ الزيغ والنزغات
أسد العرين قضى فرامَ رحابه زمرٌ من الأوباش والنَّكرات
مات ابن باز فانطوى بمماته مجدٌ ولان الحقُّ للغمزات
سقط اللواء فمَن يقوم بحمله في غمرة الأهوال والنَّكبات؟
مَن للعقيدة إن تطاول زائغٌ وأفاض في الترديد للشّبهات؟
مَن للشريعة والفتاوى نابذًا شطط التَّعصب أو أذى النَّعرات؟
فقدت سفينةُ رشدنا ربَّانها والموج طام والرياح عواتي
هبطت جميعُ المكرمات ببيته واليوم أضحى مقفر العرصات
موت ابن باز ثلمةٌ في ديننا يبكي لها النُّسَّاك في الخلوات
دفنت بمدفنه شمائلُ جمة كانت منار هدايةٍ وهداة
لو تعلم البيداء أي مُبجَّلٍ حضنت لما وارته في الطبقات
أعماله لا يستطيع أداءها جيلٌ ولو كانوا أجلَّ بناة
قد سخَّر الأوقات في نشر الهدى لم يستطب يومًا لذيذ سبات
قد كان ملء مسامع ونواظر ولسوف يبقى باهر اللمعات
صبرًا بنيه فرزؤكم هو رزؤنا ما أكثر الباكين والزفرات
رباه أكرم نزله واجعله في دار النعيم بأرفع الدرجات
ولتجزه خير الجزاء فإنه قد كان سبَّاقًا إلى الطاعات
وامدد بعونك مَن تصدَّر بعده حتى يكون مسدَّد الرَّميات
وابعث لهذا الدين جيلًا صالحًا واحرسه يا ربي بخير رعاة
هيئ له لجبًا يصون حياضه يُحي الجهاد ويرفع الرايات
يا أيها المغرور بالدنيا أفق من سكرة التَّسويف والغفلات
واعلم بأنَّ الموت بابٌ مُشْرَعٌ فيه نودع سائر اللَّذات[1]
  1. مجلة الشقائق، عدد (23)، بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (4/ 1712- 1720).