فقد العلماء

أ.د. صالح بن حسين العايد
 
الحمد لله الذي يبلو عباده بالمصائب، فمن صبر واحتسب أعظم له المولى المثوبة والأجر، ومن سخط فله من الجبار السخط والرزء، والصلاة والسلام على خير من ابتلي فصبر، رسولنا محمد بن عبد الله، رزئ بفقد فلذة كبده ابراهيم، فكان قدوة للصابرين وأسوة للمحتسبين: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون.
قبل مدة يسيرة إستودعنا من لا تضيع ودائعه شيخًا فاضلًا وعالمًا جليلًا مثله يفدى بالغالي والنفيس لو نفع الفداء:
ولكن إذا حمَّ القضاء على امرئ فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
لقد سبقنا إلى القضاء المحتوم وإلى دار القرار فضيلة الشيخ الوالد الجليل صالح بن علي الغصون - رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة - وللشيخ في سويداء القلب منزلة لا تدانى، إذ له من الأفضال ما لا يحصى، وله من المآثر ما يند عن الحصرُ ويكفيه علمه الشرعي وإن فقد العالم لخسارة عظمى:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد نفس يموت بموتها بشر كثير
ولم تندمل جراح فقد هذا الشيخ الفاضل حتى رزئنا بشيخه وشيخ العلماء بل شيخ الأمة جمعاء العابد العلامة بقية السلف الصالح عبد العزيز بن باز رحمه الله، الذي كان إذا رئي أو سمع ذكر الله، رجل من أهل الآخرة يمشي بين أهل الدنيا، مبارك أينما كان، حمل هم الأمة كلها حتى ظن من لقيه في شأن إنه لا شأن للشيخ سوى شأنه، وبارك الله في وقته وعمله حتى غدا كأنه رجل بألف رجل بل بأكثر، لا يأتيه ذو حاجة إلا وجدته كحامل المسك لا يخرج من عنده إلا بقضائها أو الشفاعة فيها.
وإذا امرؤ أهدى اليك صنيعة من جاهه فكأنها من ماله
لقد جمع الشيخ الفقيد من الصفات محامدها، ومن الخلال أوفاها، لقد كان -بوأه الله الفردوس الأعلى من الجنة - كما قال الشاعر:
مطهر الأخلاق محمودها سيان ما يخفي وما يبدي
ما إن رآه أحد ناطقًا بالفحش في هزل ولا جد
ولا رآه أحد مائلًا به الهوى عن سنن الرشد
سهل قريب هين لين يعرف بالعفة والقصد
فعليه وعلى أخيه الشيخ ابن غصون وسائر علمائنا رحمة الله ورضوانه.
لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحدًا بعد واحد دليل على أن لا يدوم خليل
لقد اجتمع في الشيخين الفاضلين - رفع الله منزلتهما في عليين ورزقنا وإياهما مجاورة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة من الخلال والصفات الحميدة ما يندر أن تجتمع في رجل واحد إذ كانا من أهل القرآن، يعرفان بليلهما إذا الناس نائمون، وبنهارهما إذ الناس مفطرون، وبحزنهما إذا الناس يفرحون، وببكائهما إذا الناس يضحكون، وبورعهما إذا الناس يخلطون، وبخشوعهما إذا الناس يختالون، وبصمتهما إذا الناس يخوضون.
لقد كانا - رحمهما الله - من أهل الدين والعلم والمروءة، وكانت مجالستهما تجلو عن القلوب صداها وتدل على مكارم الأخلاق وتزكي النفوس.
إن فقد العلماء خسارة عظيمة للأمة تعزى كلها بفقدهم، فهم مصابيحها التي يهتدي بها في الشدائد والملمات، ورحم الله أبا مسلم الخولاني حيث يقول: "انما الناس مع العلماء مثل النجوم في السماء إذا ظهرت لهم اهتدوا وإذا خفيت تحيروا".
إن المحب للشيخين الراحلين - يرحمهما الله - لا يقول إلا ما يرضي الله: (انا لله وانا اليه راجعون)، ولا يملك إلا ما ينفعهما اليوم بعد رحيلهما إلا وهو الدعاء لهما، فنسأل المولى عز وجل لهما وقد وسدناهما الثرى أن يغفر لهما ويرحمهما، وأن يجعل هذه الأيام أسعد أيامهما قد أمنا العقاب، وفرحًا بالثواب، ورأيا منزلهما من الجنة، اللهم ارحم غربتهما، وآنس وحشتهما، واستر عورتهما يوم تكشف الهنات والسوءات، واجعل قبريهما روضة من رياض الجنة، وأبدلهما دارًا خير من داريهما، وأهلًا خيرًا من أهليهما، واحشرنا وأياهما مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات!
أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو يمضي على الثرى يعد من الأحياء وهو عدي[1]
 
  1. جريدة الجزيرة، الإثنين 2 صفر 1420هـ.