وإنا على فراقك يا ابن باز لمحزونون

رضوان بن عبدالكريم المشيقح
رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببريدة
 
الحمد لله الذي رفع شأن العلم وحملته؛ فجعلهم مصابيح هداية، وقادة رشد وسعادة، بهم يقام الحق والعدل، وعليهما يستقيمون، جعل الله في قلوبهم من نوره فكانوا أعرف الخلق بالخالق لما وهبهم المولى جل جلاله من علم راسخ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء ومورث العلماء عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وبعد أيها الإخوة .. فإن الله تعالى اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الحكمة والكتاب، ووفقهم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان ومكان، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، هم ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء؛ فالحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، فهم أفضل من العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، فهم سراج العباد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، وغيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ والضلال، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
وعن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر ولهذا الشرف العظيم رفع الله قدر المؤمنين والعلماء في درجات الدنيا والآخرة فقال عز من قائل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11] ولقد كانت خلافة آدم على الأرض، وفضله على الملائكة بسبب العلم الذي منّ الله تعالى عليه وحباه به دون الملائكة وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وليس أعظم منصبا أيها المسلمون من إنسان أراد الله به الخير، ومن أراد الله به الخير فقد سعد في الدنيا والآخرة؛ لأن العلم هو العمل الباقي بعد أن تنقطع الأعمال بالموت، ولصاحبه من الثواب ما يدوم حتى تقوم الساعة، فإن العلماء لهم المنازل السامية في قلوب الأمة المحمدية وذلك نظرا لسعة علومهم وعظم إخلاصهم في سبيل خدمة دين الله وسنة نبيه ﷺ ولأنهم بذلوا غاية وسعهم في سبيل إسعاد أمتهم مما خلفوه من ثروة دينية ومجموعة فقهية لو تمسك المسلمون اليوم بها اهتدوا بهديها واقتبسوا من نورها وتركوا المذاهب المرتجلة وطرحوا القوانين الوضعية العليلة لعمتهم - بإذن الله - الرحمة والسعادة، ولحالفتهم المعرفة والهداية، ولفارقتهم الحيرة والعماية، ومع هذا كله فلا ينبغي لأحد أن يقول: ذهب العلماء وذهب الصالحون ولم يبق في الناس بركة؛ بل نقول: بقي فيهم علماء خير وصلاح - إن شاء الله - فقد صح عنه ﷺ عند الإمام أحمد وغيره من حديث أنس أنه قال: مثل أمتي مثل المطر لا يدرى في أوله الخير أو في آخره فلازال في هذه الأمة - ولله الحمد - علماء خير وصلاح وعقيدة، فهي أمة مباركة أينما كانت، وفي أي زمن كانت، فهي تعطي الخير وتنشر الصلاح في أرجاء البلاد، والدين دين الإسلام رسمه الشارع الحكيم، وهو لا يقوم على الأشخاص وإنما تكفل الله به إلى يوم الدين ولقد مات محمد بن عبدالله ﷺ ومع ذلك قال أبوبكر مقالته المشهورة: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت، وكذلك من بعده مات الخلفاء الراشدون، وهذه سنة الله في خلقه، والحمد لله على كل حال.
فأحسن الله عزاءنا وعزاءكم في هذا المصاب الجلل، فلله ما أخذ وله ما أعطى، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا ابن باز لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم يا حي يا قيوم نسألك أن تفسح له في قبره وتحشره في زمرة الأنبياء والصالحين، إنك سميع مجيب. [1]
 
  1. جريدة الجزيرة، الإثنين 2 صفر 1420هـ.