وتجمع الشمل بعد الشتات

محمد الحماد
رئيس مجموعة البيان القابضة
 
تربينا على علمه، ونشأنا على فتواه، ودرجنا على سماع صوته من خلال وسائل الإعلام خطيبًا أو واعظًا أو مفتيًا أو حاسمًا لأمر من الأمور استشكل على الناس وتعددت فيه الآراء وتباينت حوله وجهات النظر، فإذا هو بثقة العالم الواثق والباحث المطلع والمستوعب لأحكام الشريعة يتقدم ليحسم الجدل وينهي النقاش فتهدأ النفوس من جديد.
بالأمس القريب فقط فقدناه، نزل علينا الخبر كالصاعقة خاصة أن فترة مرضه - رحمه الله - لم تكن بالفترة الطويلة التي تتهيأ فيها النفوس لاستقبال مثل هذا الخطب الجلل، حقيقة أن الموت والحياة بيد الله وأنه لكل أجل كتاب، ولكن حبنا الشديد وارتباطنا الوثيق ببعض الأشخاص الذين يشكلون قيمة كبيرة في حياتنا يجعلنا - وبصورة عفوية - نستبعد عنهم فكرة الموت أو بالأحرى لا نتمنى أن نسمع عنهم أي مكروه.
ولكن قضاء الله وقدره فوق كل العباد، ومشيئته لا مشيئة فوقها، وقد اختارت تلك المشيئة أن ينتقل الشيخ الجليل إلى جوار ربه في تلك اللحظات وفي ذلك الموعد الذي لم يتقدم أو يتأخر ساعة واحدة.
الفراغ الذي تركه الشيخ الجليل في حياة عشيرته الأقربين وفي حياة تلاميذه ومحبيه الذين نهلوا من ثقافته الدينية وأثروا عقولهم من علومه الشرعية كان فراغًا كبيرًا، وهذا شيء طبيعي؛ ولكن هناك طائفة من الناس ربما كان وقع النبأ عليهم أشد، ووقوع الخطب بهم أكثر مرارة من العلقم، تلك الطائفة التي كان لفضيلة الشيخ ابن باز أثر مباشر في سلوكهم وسببت تعاليمه لهم تحولات إيجابية وتوجهات جذرية في حياتهم الخاصة، ومن هؤلاء أعرف صديقًا كان غير موفق في حياته الزوجية وعلى الأخص في بدايتها، ودائم الشجار مع أهله لأتفه الأسباب، ولعب الشيطان برأسه حتى كاد أن يوصله إلى أبغض الحلال لأكثر من مرة، وحينما هم الرجل بالتنفيذ وأخذ يعد للأمر عدته، تناهى إلى سمعه صوت الرجل يأتي من المذياع، في البداية لم يركز فلم يعرف عن ماذا يتحدث الشيخ ابن باز ولكن حتى تنفذ المقادير بدأ يركز رويدًا رويدًا فإذا بالحديث عن موضوع الطلاق، لماذا أنه أبغض الحلال؟ وكيف أنه يعد انتصارا للشيطان على بني الإنسان واستغلالًا لغضبه واندفاعه وتعجله؟ وكيف أن فرح الشيطان بطلاق المرء زوجته لا يعادله فرح آخر حتى ولو حمل المسلم على السكر أو الزنا أو القتل.
وبدأ حديث الشيخ الجليل يتسلل كشعاع من النور يزيل الغشاوة ويكشف الغمة عن قلب الصديق، فبدأ يستعيد دوافع الشجار والخلاف مع زوجته، ووجد أن كلها تنتج عن العناد، والمكابرة، ومحاولة كل طرف أن يفرض رأيه على الطرف الآخر، وأن كل هذه الأمور يمكن أن تعالج بالتفاهم والود والتراحم واحترام كل طرف للآخر.
يتذكر صديقي هذا الحدث بعد سنوات وسنوات، بعد أن صار له أربعة أبناء، وبعد أن اكتشف في زوجته الزوجة الطيبة الحنون والنموذج الصالح للمرأة التي يتمناها أي إنسان في حياته.
كان الصديق يردد على مسامعي هذه القصة بصوت متقطع وهو يجهش بالبكاء والدموع تملأ مآقيه، يقول: عندما سمعت بهذه الفجيعة توجهت فورًا إلى أولادي واحتضنتهم بين ذراعي وأنا ادعو من كل قلبي، رحمك الله أيها الشيخ الجليل، لقد جمعت شمل هذه الأسرة بعد أن اقترب من الشتات. [1]
 
  1. جريدة الجزيرة، الأربعاء 4 صفر 1420هـ.