صبره وتحمله المشاق
لقد صبر الشيخ ابن باز - رحمه الله - على ما أصابه من أذى ومرضٍ، فكان قضاء مصالح الناس وإنجاز الأعمال الموكلة إليه على أكمل وجهٍ هو شغله الشاغل وهمه الأكبر الذي لا يصرفه عنه شيء - ولو كان المرض - مُضحِّيًا في سبيل ذلك بالراحة الجسدية، ومُستعلِيًا على كافة العوارض المعوِّقة عن أداء المهمة.
وسنتعرف في الأسطر القادمة ملامح ذلك العمل الدؤوب الذي ميَّز حياة الشيخ - رحمه الله - وأبرز ما مرَّ به من محنٍ وابتلاءات:
الصبر على البذل والعطاء:
حرص الشيخ - رحمه الله - منذ صغره على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم والعمل به، وحين تولى أول مسؤولية في حياته - وهي القضاء - جعل همه الأكبر أداء مهمته على الوجه الأكمل، فضحَّى براحة الجسد ولذة العيش في سبيل الله تعالى، فكان كالمنارة السامقة التي تُضيء للناس طريقهم.
وبلغ من الجد والاجتهاد ما يعجز عن مثله الشباب، قال الشيخ عبدالمجيد الزنداني: "لقد صحبته يومًا وأنا في عزِّ شبابي من الصباح إلى المساء، فما جاء المساء إلا وقد تعبتُ وأنا الشاب، ولكن ما رأيتُ عليه آثار التعب الذي كنتُ أحس به". [1]
وهذا رجل من أهل موريتانيا زار الشيخ ونزل ضيفًا عليه، فوجد من نشاطه وعمله مع كبر سِنّه ما جعله يقول: "عجبتُ من دأب الشيخ، وجلده على حوائج الناس، والكتابة لهم، وضيافتهم، والجلوس في حِلَق العلم وتعليم الطلاب ومذاكرة المسائل". قال: "فسألته مرةً وقلت: سألتك بالله يا شيخ، وأنت قرب التسعين، كيف تصبر على ما لا يُطيقه أبناء الثلاثين والأربعين؟! فأعرض عني، ثم سألته ثانية وثالثة حتى شددتُ عليه في السؤال قائلًا: سألتك بالله يا شيخ، كيف تُطيق هذا كله؟! فقال: يا ولدي، إذا كانت الروحُ تعمل فالجوارح لا تكلّ". [2]
هكذا إذن، فالروح هي الباعث والمحرك، والجوارح هي الخادم المطيع.
فما تخلف يومًا عن درس من دروسه إلا أن يمنعه المرض، يقول الشيخ عبدالله العتيبي - أحد تلامذته: "صبر الشيخ على إلقاء الدروس عجيب، فمواظبته على الدروس وعدم تخلفه عنها مع كثرة الأشغال لديه يدل على جلد عظيم، ومحبة للعلم، ولي مع الشيخ أكثر من عقد من السنين لم يتخلف إلا مرةً واحدةً أيام إصابته في رجله اليمنى، والحمد لله الذي شفاه، وقال مرةً في درس فجر الخميس بعدما استغرق الدرسُ نحو ساعتين ونصف، قال: لولا الأشغالُ الأخرى لجلسنا مع الإخوان حتى الظهر". [3]
ويقول تلميذ آخر عما شاهده من حرص الشيخ على الحضور المبكر لدروس العلم مع الاعتدال في الجلسة وإن طال الدرس: "لقد أُوتي الشيخ في هذا حظًّا عظيمًا، وقسم له فيه خير كثير، فرجل بلغ السابعة والثمانين يكون من أول الحاضرين لمكان الدرس، مع كثرة دروسه، ثم هو لا يتململ في أثناء الدرس مع ظهور التعب والملل على عددٍ غير قليل من الحاضرين". [4]
ولقد كان عمل الشيخ يبدأ قبل صلاة الفجر بنحو الساعة، ويستمر إلى منتصف الليل أحيانًا، دون كلل أو ملل منه - رحمه الله - فهو قبل الفجر بساعة تقريبًا يقوم لأداء صلاة التهجد، ثم يتوجه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وبعد الصلاة يحرص على الإتيان بالأذكار والأوراد الصباحية، ثم يبدأ في إلقاء درسٍ من دروس العلم -وذلك في أيام الدروس المعتادة- أو يرجع إلى بيته فيقرأ عليه بعضُ كُتَّابه ما معهم من معاملات ورسائل وفتاوى، ثم يستريح نحو الساعة قبل أن يتوجه في التاسعة صباحًا إلى مكتبه ويبدأ دوامه الرسمي؛ فيستقبل الوفود، وتُعرض عليه القضايا، ويحضر الاجتماعات والمناقشات إن كان ثمة اجتماع أو مناقشة، ويُجيب على أسئلة السائلين عبر الهاتف والرسائل وغيرها، إلى غير ذلك من أعمال.
وفي طريقه إلى عمله ذهابًا وإيابًا تُقرأ عليه في السيارة بعضُ المعاملات أو الكتب، فلم يكن شيخنا - رحمه الله - يضيع لحظةً بلا عمل.
وبعد انتهاء الدوام في الساعة الثانية والنصف تقريبًا يذهب إلى بيته لا ليستريح، بل ليستقبل زواره وضيوفه من المسؤولين والمُسَلِّمِين وأصحاب الحاجات ومريدي الفتوى في أمور وقعت لهم من طلاقٍ وغيره، ويتناول معهم الغداء، فإذا أُذِّن لصلاة العصر قام إلى المسجد، وبعد الصلاة يُلقي درسًا في شرح جزءٍ من كتابٍ من كُتب أهل العلم، ويُجيب عن أسئلة الحاضرين، ثم يعود إلى بيته ليرتاح قليلًا إلى قريب من أذان المغرب، وبعد أداء صلاة المغرب يُكمل ما بدأه من استقبالٍ لمن يقدم عليه، وإجابة لفتاوى السائلين، فإذا حان وقت صلاة العشاء توجَّه إلى المسجد وألقى درسًا بين الأذان والإقامة، وأجاب عن أسئلة المستفتين، وبعد الصلاة يعود إلى بيته، ويستكمل كُتَّابُه قراءة بعض المعاملات أو الكتب عليه، وربما جلس مع ضيوفه -إن كان ثمة ضيوف- وإن كان لديه اجتماع أو محاضرة أو دعوة توجَّه إليها، ويستمر على هذا الحال إلى الساعة الحادية عشر أو الثانية عشر ليلًا، وبعد ذلك يدخل منزله ويأوي إلى فراشه. [5]
هكذا كان عمل الشيخ - رحمه الله - فيقضي أغلب يومه في قضاء مصالح الناس، دون أن يتقيَّد بمواعيد العمل الرسمية، فيومه كله مشحون بالعطاء.
الصبر على المرض:
صبر الشيخ ابن باز - رحمه الله - على ما ابتلاه الله به من أمراضٍ، مُحتسبًا أجر ذلك عند ربه، مُداومًا على شكره وذكره سبحانه، فلم يكن يشكو لمخلوقٍ، بل لم يكن يظهر عليه أثر المرض، فكان يُخفي على جلسائه ما يُعانيه من آلام؛ رغبةً في عدم إحراجهم وانصرافهم دون قضاء مصالحهم، فلا يعلم أحدٌ بمرضه إلا إذا اشتدَّ عليه جدًّا ولم يعد يحتمل الألم، هنا يطلب من أحد مرافقيه استدعاء الطبيب، فهو كما قال مستشاره الدكتور الشويعر: "صبور جدًّا، لا يشكو إلا من شيءٍ بلغ غايته".[6]
وكان - رحمه الله - يأخذ بالأسباب؛ فيتعاطى الأدوية التي يُرشده إليها الأطباء، إلى جانب الرُّقى والأدعية التي جاءت في السنة النبوية في حالة المرض. [7]
فكان في مرضه الأخير الذي تلته الوفاة يتألم كثيرًا من معدته، فيضع يده على موضع الألم ويرقي نفسه ويقول الأدعية الواردة في ذلك، يقول الشيخ سعد الداود: "أذكر من المواقف التي لا تُنسى: حينما كنت مرافقًا لسماحة الشيخ، حينما دخل المستشفى بالرياض - مستشفى الملك فيصل التخصصي - حينما شعر بألمٍ في معدته، واضطر إلى أن يتلقَّى العلاج والفحوصات الطبية إلى اليوم الثاني، فحينما كان نائمًا كنتُ أُراقبه طوال الليل وهو نائم، فقام مرةً منتبهًا وبسرعةٍ وهو يُسبح ويُهلل، ثم وضع يده وأخذ يرقي نفسه، وكان ذلك ليلة السبت من يوم 1419/10/13هـ، وكان في تمام الساعة الثانية إلا ثلث، واستيقظ الساعة الثالثة والثلث بسرعةٍ وأخذ يقول: "لا إله إلا الله"، ويُرددها، ثم سبَّح وهلل، وأكثر من الاستغفار، وأطال قرابة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيمن، فغطيته بلحافه، ثم نام، وفي الساعة الرابعة انقلب على ظهره وهو يقول: "لا إله إلا الله"، ثم جلس وأخذ يلهج لسانه بالذكر، ثم وضع يده على بطنه وأخذ يرقي نفسه، ثم أخذ يذكر الله ولمدة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيسر". [8]
لقد كان الهم الأكبر والشُّغل الشاغل لسماحة الشيخ - رحمه الله - قضاء مصالح الناس على اختلاف أشكالها، ولم يكن يسمح لعائقٍ -أيًّا كان نوعه- أن يُعيقه عن أداء هذا الأمر، حتى في حالة المرض لم يكن يتوقف عن أداء مهمته والقيام بواجباته، من ذلك أنه في عام 1410هـ شعر بألمٍ شديدٍ في رجله اليمنى، كان سببه وجود ماء في الساق، مما أدى إلى عدم مقدرته على المشي، واضطر لأخذ إجازة لأيام وملازمة البيت، ولكنه في تلك الأيام أبى أن يركن إلى الراحة، وواصل العمل مع كُتَّابه، حتى إن الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله - حين جاء لزيارته وجد حوله ثلاثة موظفين، مع كل واحد منهم مجموعة من المعاملات يقرأ منها، فقال الشيخ صالح: ما شاء الله يا سماحة الشيخ! ما هذه الإجازة؟! هل هي للراحة أم التعب؟! كل هؤلاء يعرضون عليك! فقال: "أنا لا أرتاح إلا بالعمل؛ لأن راحتي فيه". [9]
واستمر في استقبال المستفتين وأصحاب الحاجات والضيوف، مع تحمّله للآلام والأوجاع، ووضوح مظاهر الإرهاق عليه، حتى قال أحد ضيوفه -وهو الدكتور مساعد بن عبدالله المحيا: "ما زلتُ أذكر في مجلسه بمنزله - يرحمه الله - في الرياض عندما أُصيبت قدمه كيف يتكالب الناس عليه فيصبر ويتحمل ويُشفق عليهم، وهم لا يُشفقون عليه، فهذا سائلٌ يسأل، وذاك صاحب حاجةٍ يرغب أن تُقضى له، وآخر يطلب شفاعته، والهاتف لا ينقطع ولا يهدأ، والطبيب قبل ذلك في المستشفى يرغب منه أن يستريح لعدة أيام، فمظاهر الإرهاق تبدو عليه، ويخشى أن يترتب على ذلك ما لا تُحمد عُقباه، إلا أنه - يرحمه الله - رغبةً في استثمار الوقت فيما يعود على الأمة بالخير يُلح على مَن حوله أن يعرضوا عليه ما لديهم من معاملات، وأن يُحيلوا إليه الاتِّصالات، وفرق كبير جدًّا بين مَن يبحث عن الإجازة المرضية ومَن يرغب عنها عندما يُؤمر بها". [10]
وفي عام 1417هـ شعر ذات يومٍ بألم شديدٍ في معدته، فصبر عليه، وواصل عمله المعتاد دون أن يُشْعِر مَن حوله بألمه، فكان يُجيب أسئلة السائلين الحاضرين عنده أو المتصلين بالهاتف، ويقضي مصالح المسلمين، وألقى درسه المعتاد بعد أذان العشاء، واجتمع مع عددٍ من المشايخ المسؤولين عن دار الحديث الخيرية، وفي صباح اليوم التالي جلس بعد صلاة الفجر كعادته مع كُتَّابه لإنهاء بعض المعاملات.
كل ذلك دون أن يتناول شيئًا من الطعام؛ حيث إنه لم يتغدَّ ولم يتعشَّ ولم يُفطر، وظلَّ متحاملًا على نفسه يومًا كاملًا، إلا أن الألم زاد لدرجةٍ صَعُبَ معها الاحتمال، فطلب من الدكتور الشويعر الاتصال بالمستشفى واستدعاء الطبيب، فجاء فريق من الأطباء، وكشفوا على سماحته، فوجدوا حصاةً في المرارة تستوجب إجراء عملية جراحية، وتم نقل الشيخ إلى المستشفى، وفي اليوم التالي أعاد الأطباء الكشف فلم يجدوا الحصاة، وأخبرهم الشيخ أنه لم يعد يشعر بألمٍ ولله الحمد، فطلبوا من سماحته البقاء في المستشفى عدة أيام لاستكمال الفحوصات الطبية، لكنه أبى أن يبقى إلا يومًا واحدًا فقط، وأصَرَّ بعده على الخروج من المستشفى لمواصلة عمله في قضاء مصالح المسلمين. [11]
وفي عام 1419هـ لم يستطع الشيخ - رحمه الله - الحجَّ بسبب المرض، ومع ذلك لم يتوقف عن العمل، فكان يتصل على الدكتور الشويعر - وقد كلَّفه الشيخ بالذهاب إلى مكة لمتابعة الخدمات المقدمة للحجاج - ويطلب منه أن يقرأ عليه ما معه من معاملات.
وفي آخر ليلة من حياته المباركة أبى أن يستجيب لنصائح الأطباء بالركون إلى الراحة وترك العمل، وظل يمارس عمله على قدر استطاعته، مؤثرًا مصالح الناس على مصلحته. [12]
يقول ابنه عبدالله: "حتى اللحظات الأخيرة كان سماحته - رحمه الله - مجاهدًا حتى لفظ أنفاسه، وقبل الليلة التي توفي فيها كان سماحته متعبًا نوعًا ما، وبرغم ذلك ظل جالسًا بمنزله مع المواطنين عمومًا يستقبلهم وهو متعب، ولم يُوحِ للحاضرين أنه متعب حتى يواصل المسلمون الحديثَ معه، ... وعندما أشرتُ إليه بطريقة غير مباشرة بأن حالته الصحية تحتاج إلى قليل من الراحة رفض ذلك الطلب، وقال لي: لقد خرجتُ من المستشفى لخدمة المسلمين، ويسعدني أن أخدم المسلمين حتى لو كنتُ مريضًا، وراحتي هي خدمتهم". [13]
فراحته - رحمه الله - لم تكن في النوم أو الاستلقاء على الفُرُش، بل كانت في خدمة الإسلام والمسلمين.
يتحامل على نفسه لإجابة الدعوة:
كان من عادة سماحة الشيخ - رحمه الله - إجابة الدعوة؛ اقتداءً بالنبي ﷺ وامتثالًا لأمره: ائتُوا الدَّعوة إذا دُعِيتُم[14]، وذات يوم كان الشيخ مدعوًّا عند أحد المشايخ المحبين لسماحته، فخرج من بيته وركب سيارته متوجِّهًا لإجابة الدعوة، وأثناء الطريق شعر بألمٍ شديدٍ في رجله اليمنى وصعوبةٍ في تحريكها، فلم يأمر سائقَه بالعودة إلى المنزل، بل أكمل الطريق حتى وصل إلى الدَّاعي، وتحامل على نفسه فنزل من السيارة واستند على مُرافقه، وجعل يجرّ رجلَه جرًّا حتى وصل إلى مكان جلوسه، وتحدَّث إلى جلسائه، وأجاب عن أسئلتهم، وعلَّق على بعض آيات من القرآن الكريم كعادته، واستمر على هذا المنوال إلى نهاية الجلسة، فصبر على الألم وتحمّل الوجع الشديد الذي عانى منه؛ حتى لا يُكدِّر على الداعي والمدعوين صفو الجلسة.
وعاد الشيخ إلى منزله متعبًا، حتى إنه لم يستطع أن يصلي اليوم التالي في المسجد، وصلى في بيته جالسًا من شدة الألم.
وما أن علم الأطباء المحبون لسماحته بعدم مقدرته على المشي إلا وتوافدوا عليه، راجين الله أن يُوفِّقهم للمُساهمة في علاجه. [15]
الصبر على الأذى:
رغم المكانة الكبيرة التي تبوَّأها الشيخ ابن باز - رحمه الله - في قلوب المسلمين، إلا أنه لم يسلم من حقد الحاقدين، وكيد الكائدين من المبتدعة والمارقين وأهل الأهواء، ولكنه كان يُقابل ذلك بالصبر، ممتثلًا قول الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43].
فقد وصل الأمر إلى تكفير سماحته من أحد أهل الأهواء، فقيل له ذات يوم: إن (فلانًا) يُكَفِّرك! فقال: "الله يهديه، الله يهديه". فقيل: هو يلعنك لعنًا! فأعاد قوله السابق ولم يزد عليه. [16]
وقام جيرانه في الأرض الزراعية التي كان يملكها بالاعتداء على أرضه وأخذ جزءٍ منها، فما غضب عليهم، ولا أساء إليهم، وإنما قال لوكيله حين أبلغه هذا الأمر: "الحمد لله، عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء؟" فقال الوكيل: أقول: أخذوا من أرضك! فقال: "نحن والحال سواء، الباقي سيبارك الله لنا فيه". [17]
وفي إحدى اجتماعات مجمع الفقه بمكة احتدَّ عليه أحدُ المشايخ من خارج المملكة حين تحدَّث شيخنا عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه، فقام هذا الشيخ وقال: وأنتم الوهابية تقولون كذا وتقولون كذا حول استواء الله على عرشه! فما كان من الشيخ إلا أن صبر عليه وحاول تهدئته قائلًا له: "هداك الله يا شيخ فلان، سبِّح، سبِّح". [18]
يصبر على مزاحمة الناس له في الحج:
اعتاد الشيخ - رحمه الله - مواصلة الحج بصفةٍ مستمرةٍ طيلة 47 عامًا منذ عام 1372هـ إلى عام 1418هـ، فلم ينقطع عن الحج طيلة هذه الأعوام، هذا غير حجاته التي سبقت هذا التاريخ والتي كانت متقطعةً.
وكان من عادته اصطحاب عدد من الفقراء والمساكين والأقارب والمحبين الراغبين في الحج، فيتولى نفقاتهم كاملةً طيلة فترة الحج، وذلك بخلاف من يأتيه من المحبين طالبًا مرافقته في الحج، فلم يكن الشيخ يرد أحدًا، بل يُرحِّب بالجميع، حتى إن عدد الحجاج المصاحبين لسماحته يصل أحيانًا إلى 800 شخصٍ.
وكان الكثير من هؤلاء الحجاج يتزاحمون على سيارة الشيخ يريدون الركوب معه؛ محبةً له، على الرغم من وجود عدد من السيارات المخصصة لنقل الحجيج، فكان الشيخ يجد معاناةً شديدةً في هذا الزحام، ولكنه يصبر ويأمر العاملين معه بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى، خاصةً إذا اشتكى له بعضُ العاملين من الزحام وشعورهم بالتَّعب والضيق، فيقول لهم: "الله المستعان، ما هي إلا ساعات وينتهي كل شيء، اصبروا، واحتسبوا، وأبشروا بالأجر الجزيل، وما يُدريكم لعلنا لا نحج بعد عامنا هذا، ستتيسر الأمور، وينتهي كل شيء على ما يرام". [19]
ولم يكن الأمر ينتهي بمجرد الوصول إلى المشاعر والشروع في أداء المناسك، بل إن التزاحم على الشيخ يستمر، لا سيما في خيمته بمنى، يقول الدكتور محمد المجذوب: "لقد دخلتُ سرادقه في منى ذات يوم فإذا هو محاصر بهجمةٍ من الناس، قد أحاطت به من كلِّ صوبٍ، بعضها مُكِبٌّ عليه، وبعضها قائم ينتظر دوره، وهو راضٍ، يسمع ويُجيب، دون أن يبدو عليه أي تذمُّرٍ". [20]
على هذا المنوال استمرت حياة الشيخ - رحمه الله - يصبر ويتحمّل المشاقّ في سبيل الله تعالى، مستشعرًا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ساعيًا إلى نفع أمته بكل ما أُوتي من علمٍ، محتسبًا الأجر عند ربه سبحانه، فرحمه الله وغفر له.
وسنتعرف في الأسطر القادمة ملامح ذلك العمل الدؤوب الذي ميَّز حياة الشيخ - رحمه الله - وأبرز ما مرَّ به من محنٍ وابتلاءات:
الصبر على البذل والعطاء:
حرص الشيخ - رحمه الله - منذ صغره على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم والعمل به، وحين تولى أول مسؤولية في حياته - وهي القضاء - جعل همه الأكبر أداء مهمته على الوجه الأكمل، فضحَّى براحة الجسد ولذة العيش في سبيل الله تعالى، فكان كالمنارة السامقة التي تُضيء للناس طريقهم.
وبلغ من الجد والاجتهاد ما يعجز عن مثله الشباب، قال الشيخ عبدالمجيد الزنداني: "لقد صحبته يومًا وأنا في عزِّ شبابي من الصباح إلى المساء، فما جاء المساء إلا وقد تعبتُ وأنا الشاب، ولكن ما رأيتُ عليه آثار التعب الذي كنتُ أحس به". [1]
وهذا رجل من أهل موريتانيا زار الشيخ ونزل ضيفًا عليه، فوجد من نشاطه وعمله مع كبر سِنّه ما جعله يقول: "عجبتُ من دأب الشيخ، وجلده على حوائج الناس، والكتابة لهم، وضيافتهم، والجلوس في حِلَق العلم وتعليم الطلاب ومذاكرة المسائل". قال: "فسألته مرةً وقلت: سألتك بالله يا شيخ، وأنت قرب التسعين، كيف تصبر على ما لا يُطيقه أبناء الثلاثين والأربعين؟! فأعرض عني، ثم سألته ثانية وثالثة حتى شددتُ عليه في السؤال قائلًا: سألتك بالله يا شيخ، كيف تُطيق هذا كله؟! فقال: يا ولدي، إذا كانت الروحُ تعمل فالجوارح لا تكلّ". [2]
هكذا إذن، فالروح هي الباعث والمحرك، والجوارح هي الخادم المطيع.
فما تخلف يومًا عن درس من دروسه إلا أن يمنعه المرض، يقول الشيخ عبدالله العتيبي - أحد تلامذته: "صبر الشيخ على إلقاء الدروس عجيب، فمواظبته على الدروس وعدم تخلفه عنها مع كثرة الأشغال لديه يدل على جلد عظيم، ومحبة للعلم، ولي مع الشيخ أكثر من عقد من السنين لم يتخلف إلا مرةً واحدةً أيام إصابته في رجله اليمنى، والحمد لله الذي شفاه، وقال مرةً في درس فجر الخميس بعدما استغرق الدرسُ نحو ساعتين ونصف، قال: لولا الأشغالُ الأخرى لجلسنا مع الإخوان حتى الظهر". [3]
ويقول تلميذ آخر عما شاهده من حرص الشيخ على الحضور المبكر لدروس العلم مع الاعتدال في الجلسة وإن طال الدرس: "لقد أُوتي الشيخ في هذا حظًّا عظيمًا، وقسم له فيه خير كثير، فرجل بلغ السابعة والثمانين يكون من أول الحاضرين لمكان الدرس، مع كثرة دروسه، ثم هو لا يتململ في أثناء الدرس مع ظهور التعب والملل على عددٍ غير قليل من الحاضرين". [4]
ولقد كان عمل الشيخ يبدأ قبل صلاة الفجر بنحو الساعة، ويستمر إلى منتصف الليل أحيانًا، دون كلل أو ملل منه - رحمه الله - فهو قبل الفجر بساعة تقريبًا يقوم لأداء صلاة التهجد، ثم يتوجه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وبعد الصلاة يحرص على الإتيان بالأذكار والأوراد الصباحية، ثم يبدأ في إلقاء درسٍ من دروس العلم -وذلك في أيام الدروس المعتادة- أو يرجع إلى بيته فيقرأ عليه بعضُ كُتَّابه ما معهم من معاملات ورسائل وفتاوى، ثم يستريح نحو الساعة قبل أن يتوجه في التاسعة صباحًا إلى مكتبه ويبدأ دوامه الرسمي؛ فيستقبل الوفود، وتُعرض عليه القضايا، ويحضر الاجتماعات والمناقشات إن كان ثمة اجتماع أو مناقشة، ويُجيب على أسئلة السائلين عبر الهاتف والرسائل وغيرها، إلى غير ذلك من أعمال.
وفي طريقه إلى عمله ذهابًا وإيابًا تُقرأ عليه في السيارة بعضُ المعاملات أو الكتب، فلم يكن شيخنا - رحمه الله - يضيع لحظةً بلا عمل.
وبعد انتهاء الدوام في الساعة الثانية والنصف تقريبًا يذهب إلى بيته لا ليستريح، بل ليستقبل زواره وضيوفه من المسؤولين والمُسَلِّمِين وأصحاب الحاجات ومريدي الفتوى في أمور وقعت لهم من طلاقٍ وغيره، ويتناول معهم الغداء، فإذا أُذِّن لصلاة العصر قام إلى المسجد، وبعد الصلاة يُلقي درسًا في شرح جزءٍ من كتابٍ من كُتب أهل العلم، ويُجيب عن أسئلة الحاضرين، ثم يعود إلى بيته ليرتاح قليلًا إلى قريب من أذان المغرب، وبعد أداء صلاة المغرب يُكمل ما بدأه من استقبالٍ لمن يقدم عليه، وإجابة لفتاوى السائلين، فإذا حان وقت صلاة العشاء توجَّه إلى المسجد وألقى درسًا بين الأذان والإقامة، وأجاب عن أسئلة المستفتين، وبعد الصلاة يعود إلى بيته، ويستكمل كُتَّابُه قراءة بعض المعاملات أو الكتب عليه، وربما جلس مع ضيوفه -إن كان ثمة ضيوف- وإن كان لديه اجتماع أو محاضرة أو دعوة توجَّه إليها، ويستمر على هذا الحال إلى الساعة الحادية عشر أو الثانية عشر ليلًا، وبعد ذلك يدخل منزله ويأوي إلى فراشه. [5]
هكذا كان عمل الشيخ - رحمه الله - فيقضي أغلب يومه في قضاء مصالح الناس، دون أن يتقيَّد بمواعيد العمل الرسمية، فيومه كله مشحون بالعطاء.
الصبر على المرض:
صبر الشيخ ابن باز - رحمه الله - على ما ابتلاه الله به من أمراضٍ، مُحتسبًا أجر ذلك عند ربه، مُداومًا على شكره وذكره سبحانه، فلم يكن يشكو لمخلوقٍ، بل لم يكن يظهر عليه أثر المرض، فكان يُخفي على جلسائه ما يُعانيه من آلام؛ رغبةً في عدم إحراجهم وانصرافهم دون قضاء مصالحهم، فلا يعلم أحدٌ بمرضه إلا إذا اشتدَّ عليه جدًّا ولم يعد يحتمل الألم، هنا يطلب من أحد مرافقيه استدعاء الطبيب، فهو كما قال مستشاره الدكتور الشويعر: "صبور جدًّا، لا يشكو إلا من شيءٍ بلغ غايته".[6]
وكان - رحمه الله - يأخذ بالأسباب؛ فيتعاطى الأدوية التي يُرشده إليها الأطباء، إلى جانب الرُّقى والأدعية التي جاءت في السنة النبوية في حالة المرض. [7]
فكان في مرضه الأخير الذي تلته الوفاة يتألم كثيرًا من معدته، فيضع يده على موضع الألم ويرقي نفسه ويقول الأدعية الواردة في ذلك، يقول الشيخ سعد الداود: "أذكر من المواقف التي لا تُنسى: حينما كنت مرافقًا لسماحة الشيخ، حينما دخل المستشفى بالرياض - مستشفى الملك فيصل التخصصي - حينما شعر بألمٍ في معدته، واضطر إلى أن يتلقَّى العلاج والفحوصات الطبية إلى اليوم الثاني، فحينما كان نائمًا كنتُ أُراقبه طوال الليل وهو نائم، فقام مرةً منتبهًا وبسرعةٍ وهو يُسبح ويُهلل، ثم وضع يده وأخذ يرقي نفسه، وكان ذلك ليلة السبت من يوم 1419/10/13هـ، وكان في تمام الساعة الثانية إلا ثلث، واستيقظ الساعة الثالثة والثلث بسرعةٍ وأخذ يقول: "لا إله إلا الله"، ويُرددها، ثم سبَّح وهلل، وأكثر من الاستغفار، وأطال قرابة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيمن، فغطيته بلحافه، ثم نام، وفي الساعة الرابعة انقلب على ظهره وهو يقول: "لا إله إلا الله"، ثم جلس وأخذ يلهج لسانه بالذكر، ثم وضع يده على بطنه وأخذ يرقي نفسه، ثم أخذ يذكر الله ولمدة عشر دقائق، ثم اضطجع على شقه الأيسر". [8]
لقد كان الهم الأكبر والشُّغل الشاغل لسماحة الشيخ - رحمه الله - قضاء مصالح الناس على اختلاف أشكالها، ولم يكن يسمح لعائقٍ -أيًّا كان نوعه- أن يُعيقه عن أداء هذا الأمر، حتى في حالة المرض لم يكن يتوقف عن أداء مهمته والقيام بواجباته، من ذلك أنه في عام 1410هـ شعر بألمٍ شديدٍ في رجله اليمنى، كان سببه وجود ماء في الساق، مما أدى إلى عدم مقدرته على المشي، واضطر لأخذ إجازة لأيام وملازمة البيت، ولكنه في تلك الأيام أبى أن يركن إلى الراحة، وواصل العمل مع كُتَّابه، حتى إن الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله - حين جاء لزيارته وجد حوله ثلاثة موظفين، مع كل واحد منهم مجموعة من المعاملات يقرأ منها، فقال الشيخ صالح: ما شاء الله يا سماحة الشيخ! ما هذه الإجازة؟! هل هي للراحة أم التعب؟! كل هؤلاء يعرضون عليك! فقال: "أنا لا أرتاح إلا بالعمل؛ لأن راحتي فيه". [9]
واستمر في استقبال المستفتين وأصحاب الحاجات والضيوف، مع تحمّله للآلام والأوجاع، ووضوح مظاهر الإرهاق عليه، حتى قال أحد ضيوفه -وهو الدكتور مساعد بن عبدالله المحيا: "ما زلتُ أذكر في مجلسه بمنزله - يرحمه الله - في الرياض عندما أُصيبت قدمه كيف يتكالب الناس عليه فيصبر ويتحمل ويُشفق عليهم، وهم لا يُشفقون عليه، فهذا سائلٌ يسأل، وذاك صاحب حاجةٍ يرغب أن تُقضى له، وآخر يطلب شفاعته، والهاتف لا ينقطع ولا يهدأ، والطبيب قبل ذلك في المستشفى يرغب منه أن يستريح لعدة أيام، فمظاهر الإرهاق تبدو عليه، ويخشى أن يترتب على ذلك ما لا تُحمد عُقباه، إلا أنه - يرحمه الله - رغبةً في استثمار الوقت فيما يعود على الأمة بالخير يُلح على مَن حوله أن يعرضوا عليه ما لديهم من معاملات، وأن يُحيلوا إليه الاتِّصالات، وفرق كبير جدًّا بين مَن يبحث عن الإجازة المرضية ومَن يرغب عنها عندما يُؤمر بها". [10]
وفي عام 1417هـ شعر ذات يومٍ بألم شديدٍ في معدته، فصبر عليه، وواصل عمله المعتاد دون أن يُشْعِر مَن حوله بألمه، فكان يُجيب أسئلة السائلين الحاضرين عنده أو المتصلين بالهاتف، ويقضي مصالح المسلمين، وألقى درسه المعتاد بعد أذان العشاء، واجتمع مع عددٍ من المشايخ المسؤولين عن دار الحديث الخيرية، وفي صباح اليوم التالي جلس بعد صلاة الفجر كعادته مع كُتَّابه لإنهاء بعض المعاملات.
كل ذلك دون أن يتناول شيئًا من الطعام؛ حيث إنه لم يتغدَّ ولم يتعشَّ ولم يُفطر، وظلَّ متحاملًا على نفسه يومًا كاملًا، إلا أن الألم زاد لدرجةٍ صَعُبَ معها الاحتمال، فطلب من الدكتور الشويعر الاتصال بالمستشفى واستدعاء الطبيب، فجاء فريق من الأطباء، وكشفوا على سماحته، فوجدوا حصاةً في المرارة تستوجب إجراء عملية جراحية، وتم نقل الشيخ إلى المستشفى، وفي اليوم التالي أعاد الأطباء الكشف فلم يجدوا الحصاة، وأخبرهم الشيخ أنه لم يعد يشعر بألمٍ ولله الحمد، فطلبوا من سماحته البقاء في المستشفى عدة أيام لاستكمال الفحوصات الطبية، لكنه أبى أن يبقى إلا يومًا واحدًا فقط، وأصَرَّ بعده على الخروج من المستشفى لمواصلة عمله في قضاء مصالح المسلمين. [11]
وفي عام 1419هـ لم يستطع الشيخ - رحمه الله - الحجَّ بسبب المرض، ومع ذلك لم يتوقف عن العمل، فكان يتصل على الدكتور الشويعر - وقد كلَّفه الشيخ بالذهاب إلى مكة لمتابعة الخدمات المقدمة للحجاج - ويطلب منه أن يقرأ عليه ما معه من معاملات.
وفي آخر ليلة من حياته المباركة أبى أن يستجيب لنصائح الأطباء بالركون إلى الراحة وترك العمل، وظل يمارس عمله على قدر استطاعته، مؤثرًا مصالح الناس على مصلحته. [12]
يقول ابنه عبدالله: "حتى اللحظات الأخيرة كان سماحته - رحمه الله - مجاهدًا حتى لفظ أنفاسه، وقبل الليلة التي توفي فيها كان سماحته متعبًا نوعًا ما، وبرغم ذلك ظل جالسًا بمنزله مع المواطنين عمومًا يستقبلهم وهو متعب، ولم يُوحِ للحاضرين أنه متعب حتى يواصل المسلمون الحديثَ معه، ... وعندما أشرتُ إليه بطريقة غير مباشرة بأن حالته الصحية تحتاج إلى قليل من الراحة رفض ذلك الطلب، وقال لي: لقد خرجتُ من المستشفى لخدمة المسلمين، ويسعدني أن أخدم المسلمين حتى لو كنتُ مريضًا، وراحتي هي خدمتهم". [13]
فراحته - رحمه الله - لم تكن في النوم أو الاستلقاء على الفُرُش، بل كانت في خدمة الإسلام والمسلمين.
يتحامل على نفسه لإجابة الدعوة:
كان من عادة سماحة الشيخ - رحمه الله - إجابة الدعوة؛ اقتداءً بالنبي ﷺ وامتثالًا لأمره: ائتُوا الدَّعوة إذا دُعِيتُم[14]، وذات يوم كان الشيخ مدعوًّا عند أحد المشايخ المحبين لسماحته، فخرج من بيته وركب سيارته متوجِّهًا لإجابة الدعوة، وأثناء الطريق شعر بألمٍ شديدٍ في رجله اليمنى وصعوبةٍ في تحريكها، فلم يأمر سائقَه بالعودة إلى المنزل، بل أكمل الطريق حتى وصل إلى الدَّاعي، وتحامل على نفسه فنزل من السيارة واستند على مُرافقه، وجعل يجرّ رجلَه جرًّا حتى وصل إلى مكان جلوسه، وتحدَّث إلى جلسائه، وأجاب عن أسئلتهم، وعلَّق على بعض آيات من القرآن الكريم كعادته، واستمر على هذا المنوال إلى نهاية الجلسة، فصبر على الألم وتحمّل الوجع الشديد الذي عانى منه؛ حتى لا يُكدِّر على الداعي والمدعوين صفو الجلسة.
وعاد الشيخ إلى منزله متعبًا، حتى إنه لم يستطع أن يصلي اليوم التالي في المسجد، وصلى في بيته جالسًا من شدة الألم.
وما أن علم الأطباء المحبون لسماحته بعدم مقدرته على المشي إلا وتوافدوا عليه، راجين الله أن يُوفِّقهم للمُساهمة في علاجه. [15]
الصبر على الأذى:
رغم المكانة الكبيرة التي تبوَّأها الشيخ ابن باز - رحمه الله - في قلوب المسلمين، إلا أنه لم يسلم من حقد الحاقدين، وكيد الكائدين من المبتدعة والمارقين وأهل الأهواء، ولكنه كان يُقابل ذلك بالصبر، ممتثلًا قول الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43].
فقد وصل الأمر إلى تكفير سماحته من أحد أهل الأهواء، فقيل له ذات يوم: إن (فلانًا) يُكَفِّرك! فقال: "الله يهديه، الله يهديه". فقيل: هو يلعنك لعنًا! فأعاد قوله السابق ولم يزد عليه. [16]
وقام جيرانه في الأرض الزراعية التي كان يملكها بالاعتداء على أرضه وأخذ جزءٍ منها، فما غضب عليهم، ولا أساء إليهم، وإنما قال لوكيله حين أبلغه هذا الأمر: "الحمد لله، عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء؟" فقال الوكيل: أقول: أخذوا من أرضك! فقال: "نحن والحال سواء، الباقي سيبارك الله لنا فيه". [17]
وفي إحدى اجتماعات مجمع الفقه بمكة احتدَّ عليه أحدُ المشايخ من خارج المملكة حين تحدَّث شيخنا عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه، فقام هذا الشيخ وقال: وأنتم الوهابية تقولون كذا وتقولون كذا حول استواء الله على عرشه! فما كان من الشيخ إلا أن صبر عليه وحاول تهدئته قائلًا له: "هداك الله يا شيخ فلان، سبِّح، سبِّح". [18]
يصبر على مزاحمة الناس له في الحج:
اعتاد الشيخ - رحمه الله - مواصلة الحج بصفةٍ مستمرةٍ طيلة 47 عامًا منذ عام 1372هـ إلى عام 1418هـ، فلم ينقطع عن الحج طيلة هذه الأعوام، هذا غير حجاته التي سبقت هذا التاريخ والتي كانت متقطعةً.
وكان من عادته اصطحاب عدد من الفقراء والمساكين والأقارب والمحبين الراغبين في الحج، فيتولى نفقاتهم كاملةً طيلة فترة الحج، وذلك بخلاف من يأتيه من المحبين طالبًا مرافقته في الحج، فلم يكن الشيخ يرد أحدًا، بل يُرحِّب بالجميع، حتى إن عدد الحجاج المصاحبين لسماحته يصل أحيانًا إلى 800 شخصٍ.
وكان الكثير من هؤلاء الحجاج يتزاحمون على سيارة الشيخ يريدون الركوب معه؛ محبةً له، على الرغم من وجود عدد من السيارات المخصصة لنقل الحجيج، فكان الشيخ يجد معاناةً شديدةً في هذا الزحام، ولكنه يصبر ويأمر العاملين معه بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى، خاصةً إذا اشتكى له بعضُ العاملين من الزحام وشعورهم بالتَّعب والضيق، فيقول لهم: "الله المستعان، ما هي إلا ساعات وينتهي كل شيء، اصبروا، واحتسبوا، وأبشروا بالأجر الجزيل، وما يُدريكم لعلنا لا نحج بعد عامنا هذا، ستتيسر الأمور، وينتهي كل شيء على ما يرام". [19]
ولم يكن الأمر ينتهي بمجرد الوصول إلى المشاعر والشروع في أداء المناسك، بل إن التزاحم على الشيخ يستمر، لا سيما في خيمته بمنى، يقول الدكتور محمد المجذوب: "لقد دخلتُ سرادقه في منى ذات يوم فإذا هو محاصر بهجمةٍ من الناس، قد أحاطت به من كلِّ صوبٍ، بعضها مُكِبٌّ عليه، وبعضها قائم ينتظر دوره، وهو راضٍ، يسمع ويُجيب، دون أن يبدو عليه أي تذمُّرٍ". [20]
على هذا المنوال استمرت حياة الشيخ - رحمه الله - يصبر ويتحمّل المشاقّ في سبيل الله تعالى، مستشعرًا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ساعيًا إلى نفع أمته بكل ما أُوتي من علمٍ، محتسبًا الأجر عند ربه سبحانه، فرحمه الله وغفر له.
- سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (149/1).
- المصدر السابق (150،149/1).
- المصدر السابق (157،159/1).
- المصدر السابق (157،158/1).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (61-64)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (221-231).
- عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (593).
- عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (794-799).
- شريط عبرات وعبارات. بواسطة: مواقف مضيئة، لحمود المطر (120،119).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (562-572)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (603-606).
- سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (159،157/1).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (562-572)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (594-597).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (132).
- موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (25،26/1).
- أخرجه مسلم (1429).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (593-599).
- ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، لعبدالعزيز القاسم (178).
- الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (177،176).
- الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (187،186).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (238،102).
- علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب (86،85).