علو همته
الهمة العالية تأخذ صاحبها إلى المعالي، وتسمو به إلى مصافِّ العظماء، فكلَّما سَمَتْ همَّة الإنسان عَلا شأنه وارتفع قدره، وإن الشيخ - رحمه الله - كان واحدًا من أولئك الذين لم يعرفوا الكسل والخمول، أو يركنوا إلى الراحة والدعة، بل كان كالقطار المنطلق الذي لا يُوقفه شيء، فكلَّما وصل إلى هدفٍ سعى إلى آخر، وإذا أنجز مهمةً بدأ أخرى.
ولم يكن ذلك في فترةٍ من فترات حياته دون غيرها، بل كان هذا دأبه وديدنه طيلة حياته، حتى مع تقدُّمه في العمر لم يتوقف عن العمل والجد والسعي في مصالح أمته.
كما أن همته لم تقتصر على مجالٍ دون آخر، أو تُوجَّه إلى أمرٍ دون ما سواه.
يقول الشيخ محمد الموسى: "إذا أردتَ الحديثَ عن همته فإنَّك تحار؛ فبأي شيءٍ تبدأ؟ وعن أي مجالٍ تتحدث؟
ذلك أن همته العالية لا تقتصر على مجالٍ معينٍ، أو عملٍ محددٍ، بل هي شاملة لشتى الأعمال التي يقوم بها، فهمته العالية تتجلى في قراءة الكتب، فهو لا يملّ قراءتها، بل كثيرًا ما يشرع في قراءة كتب مطولة لا يخطر بالبال أن يتمّها؛ لما يرى من كثرة أعماله، وما هي إلا مدة ثم يتم قراءتها.
وتتجلى همته في الاطلاع على المعاملات، والتوجيه بما يلزم، فلا يملّ ولا يكلّ من كثرة ما يُعرض عليه.
وتتجلى في العبادة، وتطبيق السنة في شتى شئونه.
وتتجلى في زكاء نفسه، وطهارتها، وترفعها عن السفاسف والمحقرات ...
وتتجلى في سخائه، وجوده، وكرمه، في شتى صور السخاء، والجود، والكرم.
وتتجلى في اغتنام الأوقات، والقيام بالمشروعات والأعمال العظيمة التي تقف دونها عقبات.
إلى غير ذلك من مجالات همته". [1]
وليتضح الأمر أكثر هيا بنا نأخذ من سيرته العطرة شذرات من دلائل هذه الهمَّة العالية، وتلك النفس الوثَّابة:
همة يعجز عن مثلها الشباب:
بلغت همة الشيخ - رحمه الله - حدًّا عجز مَن حوله من الشباب عن إدراكه، فكان الشيخ شعلةً من النشاط في كل ما يعود على الإسلام وأهله بالخير، حتى إن العاملين معه ليعجبون من هذا، يقول الشيخ محمد الموسى - أحد كُتَّابه: "إن الذي يعمل معه ويُرافقه ليعجب أشد العجب مما يراه من همته - رحمه الله.
وإنك لترى الإعياء يبلغ مبلغه بمن يرافقون سماحته، ويعملون معه، مع أنهم في قوتهم ونشاطهم، ومع أنهم مجموعة يتعاقبون العمل، ويتناوبون على القراءة عليه، ومرافقته، ومع أنهم يجدون متعةً ولذةً في العمل معه، ومع أنهم متفرِّغون له، ومع أن سماحته كبير في السن، ويقوم بأعمال متنوعة كثيرة.
ومع ذلك كله تجد أن سماحة الشيخ يقوم بالأعمال العظيمة بمنتهى اليسر والسهولة والسرور والسكينة، يستوي بذلك حاله في السفر أو الحضر أو الصحة أو المرض". [2]
ويقول الشيخ خالد الشايع: "ومن جدية الشيخ ذلك الترتيب والجدولة الدقيقة للأعمال، بحيث لا تتداخل أو يُهمل شيء منها، ومن العجيب حقًّا أن الالتزام بهذا البرنامج يشقّ على الشاب أن يسير عليه برغم همَّة الشباب وعنفوانه، لكن الشيخ برغم تقدمه في العمر وضعفه البدني فقد كان يحمل همةً لا تعرف كللًا ولا مللًا". [3]
والدلائل على علو همة الشيخ كثيرة جدًّا، فالمتأمل لحياته يدرك ذلك لا محالة، فمن ذلك: أنه في عام 1413هـ دُعي إلى حضور افتتاح مركز من المراكز الدعوية في جدة، وكان الشيخ في هذا الوقت في مكة المكرمة، وطلب الدَّاعون من سماحته أن يحضر بعد صلاة المغرب مباشرةً؛ رغبةً منهم في عدم إطالة زمن الحفل إلى ساعاتٍ متأخرةٍ، فقال سماحته: ما يكون إلا الخير، فلما صلَّى الشيخ المغرب سأله مرافقوه: نذهب الآن إلى جدَّة؟ فقال: بل نذهب إلى مجلسنا المعتاد، وننظر في حاجات الناس؛ وذلك لحرصه على قضاء مصالح المسلمين، فقالوا له: إذن نتأخَّر في الحضور، ونتأخر في الرجوع! فقال الشيخ: ولو، يُعين الله.
فلما أنهى سماحته مجلسه المعتاد كان وقت صلاة العشاء قد حان، فصلاها، ثم انطلق مع مرافقيه إلى جدة.
وفي الطريق حرص سماحته على استغلال الوقت فيما يعود بالنفع على المسلمين، فكان المرافقون له - وهم الدكتور محمد بن سعد الشويعر والشيخ محمد الموسى والشيخ صلاح الدين عثمان - يتناوبون قراءة المعاملات والرسائل عليه حتى وصلوا إلى مكان الحفل.
استمع سماحته في هذا الحفل لكل فقراته وما أُلقي فيه من كلمات وقصائد، ثم ألقى كلمته على مسامع الحضور، وبعد ذلك تناول معهم طعام العشاء، ثم ودَّعهم وعاد أدراجه إلى مكة.
وما فعله الشيخ وهو في طريقه من مكة إلى جدة فعله أيضًا وهو عائد من جدة إلى مكة، فكان مرافقوه يتناوبون القراءة عليه حتى وصل إلى بيته.
وقد وصل إلى بيته الساعة الثانية ليلًا، ومع ما كان يُعانيه هو ومرافقوه من التعب والإرهاق بعد هذه الرحلة الشَّاقة وذلك اليوم المشحون بالأعمال، إلا أنه قام كعادته قبل الفجر بساعة لصلاة التهجد، وظلَّ يذكر الله تعالى إلى أذان الفجر، ثم ذهب إلى المسجد وأدى الصلاة وألقى كلمةً في الناس.
فلما عاد إلى منزله ظن كُتَّابُه أنه سينام لوقتٍ طويلٍ بعد ما عاناه من مشقةٍ وتعبٍ، ولكنَّه ما إن دخل إلى مجلسه إلا وألقى غُترته جانبًا وقال: بسم الله، ماذا عندكم؟ يقول الشيخ محمد الموسى: "فأخذتُ أقرأ عليه المعاملات، وأنا أرى عليه من السرور والانشراح ما يُبهر اللُّب، فبقيتُ أقرأ عليه حتى السابعة والثلث تقريبًا، فظننتُ بعدها أنه سينام نومةً طويلةً، فإذا به يقول: ضعْ منبه الساعة على الثامنة والثلث، فلما جاء ذلك الوقت نهض إلى رابطة العالم الإسلامي لحضور الندوات والاجتماعات المطولة التي كانت تُعقد آنذاك، ولم يرجع إلى منزله إلا الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، ثم أكمل الجلوس مع الحاضرين في المجلس، وتناول معهم الغداء، وصلَّى العصر وهو في تمام النشاط والانشراح، ونحن نكاد نسقط على وجوهنا من جراء الإرهاق وقلَّة النوم". [4]
ويقول الشيخ عبدالمجيد الزنداني: "لقد صحبتُه يومًا وأنا في عزِّ شبابي من الصباح إلى المساء، فما جاء المساء إلا وقد تعبتُ وأنا الشاب، ولكن ما رأيتُ عليه آثار التعب الذي كنتُ أحس به". [5]
هكذا كان - رحمه الله - فلم يعرف في حياته كلها الكسل والخمول، ولكنه كان دائم النشاط والعمل، تدفعه همته العالية إلى المعالي، وتقوده إلى مزيد من الجهد والعطاء.
عمل دائم إلى آخر حياته:
ظل الشيخ إلى آخر يوم في حياته يعمل، فلم يتوقف عن العمل يومًا من الأيام، حتى في أصعب الظروف وأشد الأزمات لا يترك العمل، فقد دخل المستشفى أكثر من مرة، وأحيانًا كان يُقيم فيها بضعة أيام، ومع ذلك لا يترك العمل، بل يجعل مكان إقامته في المستشفى مكتبًا يجلب إليه الموظفين والمعاملات والرسائل والكتب وغيرها مما يحتاجه لممارسة مهامه.
يقول الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن المسند: "من المواقف المؤثرة أنه عندما مرض وأدخل المستشفى طلب منه الطبيب أن يهدأ، وألا يُكثر التفكير، فلم يقبل، وأذن للكُتَّاب بالدخول عليه في غرفة المستشفى وعرض الأعمال وسماع الفتاوى والإجابة عليها". [6]
ويقول الشيخ محمد صالح المنجد: "ولما مرض وكان يشتد عليه الألم، إذا أفاق يقول لمن حوله من الكُتَّاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم، اقرأوا عليَّ، فيقرأون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق والمنكرات والشفاعات وغيرها مما ينفع البلاد والعباد". [7]
ويقول الشيخ أحمد القطان: "زرتُه يومًا وهو مريض في رجله، والطبيب واقفٌ على رأسه ساعة، يستأذنه كل حين في علاجه، لكن حاجات الناس وأسئلتهم جعلت الطبيب ينتظر طويلًا إلى أن ودَّعناه والطبيب لم يُعالجه". [8]
ويروي الشيخ محمد الموسى قصة أزمةٍ من الأزمات الصحية التي تعرَّض لها الشيخ قبل وفاته بأشهر ونُقِلَ على إثرها إلى المستشفى، مبينًا كيف تغلب على ذلك ومارس عمله وكأن لم يكن به بأس، يقول: "في يوم من الأيام اشتدَّ المرض بالشيخ، وتعب تعبًا شديدًا، وكان طوال يومه يعاني ويتقيَّأ، فلم يستطع أن يُصلي مع الناس لا الجمعة ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء، فقرروا نقله إلى المستشفى، ... فذهبوا به وهو في حالةٍ من التعب والمرض والإرهاق، فعملوا له منظارًا وأعطوه بعض المغذيات والمهدئات فاستقرت حالته نوعًا ما.
فاتصلت على الإخوان الذين كانوا مع الشيخ، وقلت لهم: بشِّروا كيف حال الشيخ الآن؟ فقالوا: بخير والحمد لله، ولكنه يُحب أن يقرأ عليه أحدٌ، فقام أحد المرافقين وقرأ عليه قدرًا لا بأس به، ثم ناموا، فإذا بالشيخ يقوم في وقته المعلوم لصلاة التهجد، فيُصلي ما شاء الله له، ثم يقرأ القرآن، ثم يُصلي بمن معه من المرافقين والأقارب والعساكر صلاة الفجر، ثم استقبلهم بوجهه وألقى فيهم موعظةً مؤثرةً، ثم قرأ الأذكار والأوراد كاملةً، وسأل الأخ صلاح عثمان: ماذا معك يا صلاح؟ قال: معي (فتح الباري)، و(فتح المجيد)، قال: بسم الله، اقرأ، فقرأ عليه إلى حوالي الساعة السابعة.
فذهبتُ إلى المستشفى لأطمئن على الشيخ، وكانت الساعة السابعة والنصف، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف دخلتُ على الشيخ، وكنتُ أظنه نائمًا، فإذا به جالس على كرسيه يقرأ القرآن الكريم، فسلمتُ عليه، فبادرني بقوله: هاتِ، أيش معك؟ فقلت: يا شيخ، معي معاملات كثيرة، ومعي فتاوى اللجنة الدائمة الجزء الثاني عشر، صدر من المطابع، ولكني تركتها بالسيارة وأتيت أطمئن عليك. قال: اذهب وأتِ بها، فذهبت، وأتيت بالمعاملات، فقرأت عليه معاملةً طويلةً تتكون من اثنتي عشرة صفحة، ثم بدأتُ بكتاب الفتاوى، فقرأت عليه أربعين صفحةً، فجاء ابنه عبدالله، فبدأ يُكمل القراءة عليه إلى الصفحة الخمسين، ثم جاء الممرضون والأطباء ليطمئنوا على الشيخ وينظروا إلى نتائج الفحوصات، فقالوا للشيخ: تحسنتْ حالتُك والحمد لله، فقال لهم: ما بقي لكم عندنا شيء، ولم يبقَ لكم فيَّ حاجة، فهل تأذنون لي بالذهاب؟ فقالوا له: لا بأس. فخرجنا من المستشفى ونحن نظنه يريد الذهاب إلى البيت، فقال له ابنه أحمد: سنتجه إلى البيت إن شاء الله. فقال: لا، اتَّجهوا إلى المكتب، فقال ابنه أحمد: إذن ننتظرك في البيت بعد صلاة الظهر مباشرةً إن شاء الله. فقال: لا، سآتيكم في الموعد المعروف - الثانية والنصف - إن شاء الله". [9]
أرأيتَ كيف كان الشيخ حريصًا على مصالح المسلمين، ويتحامل على نفسه من أجلهم، ولا يشعر بالراحة إلا حين يكون بينهم أو يعمل على قضاء حاجاتهم.
ويُحدثنا الدكتور ناصر الزهراني - أحد تلاميذه المقربين - عن نشاط الشيخ ومواصلته العمل في الأيام الأخيرة من حياته رغم مرضه في تلك الفترة ونصيحة الأطباء له بالراحة فيقول: "لقد رأيته - رحمه الله - في الأيام الأخيرة من حياته، وهو على عمله الدؤوب، وصبره العظيم، بل يزيد ولا ينقص، في ليلةٍ من الليالي صلى المغرب ثم ألقى درسًا، ثم صلى العشاء، ثم عاد إلى البيت ليستقبل عددًا من حالات الطلاق استنفذت من وقته أكثر من ساعة، ثم قام لموعدٍ مع عدد من الأطباء بالجامعة لديهم أسئلة واستفسارات، ثم انتهى منهم، وألقى محاضرةً في مدينةٍ أخرى عن طريق الهاتف.
كل هذا الجهد والعمل فقط من المغرب إلى ما قبل النوم، دعك من بقية النهار، وهو مريض منهك، المرض يفتك بجسمه، والوباء يلتهم أحشاءه، ولم يبقَ منه إلا جِلد على عظم.
وفي الليلة التي توفي بها - رحمه الله - كان جالسًا للناس من المغرب للعشاء، وأفتى في بعض المسائل بعد العشاء، وجلس إلى أهله وأبنائه.
يقول الدكتور عبدالله الحكمي: لقد كان من نشاط الشيخ واجتهاده في الأشهر الأخيرة من حياته ما يبعث على العجب، فقد كان يُضاعف جهده، ويُرهق نفسه، ويُريد أن يُنهي أكبر قدرٍ من المعاملات والأوراق والبحوث، وكأنه يعلم أنه مودِّع، أحب أن يُنجز أكبر قدرٍ ممكنٍ من مصالح المسلمين وحوائجهم". [10]
حتى إن بعض المعاملات والرسائل التي أنهاها وصلت إلى أصحابها بعد وفاته - رحمه الله - يقول الدكتور ناصر: "بعد وفاته أتتني بعض المعاملات التي بعثتُ بها إليه قبل وفاته - رحمه الله - بأيام، من ضمنها ثلاثة طرود من الكتب النافعة لكي أرسلها إلى الهند لجمعية إسلامية هناك كتبوا لسماحته يطلبون كتبًا في العقيدة والتفسير، وجاءني شيك بمبلغ من المال مساعدةً لرجل تحمل حمالةً، فكنت أقرأ خطابات سماحته - رحمه الله - التي وصلتني بعد موته وأنثر دموعي عليها، وأقول: رحمك الله، ولقد جاءني خطاب موقَّعٌ من سماحته في آخر يوم من أيام حياته يوم الأربعاء 1420/1/26هـ". [11]
ولا يتوقف عن العمل في الإجازات والأعياد:
لم يكن الشيخ - رحمه الله - يتوقف عن العمل في الإجازات والأعياد، فهو -كما تقدم- في عمل دائم طيلة حياته، لا ينقطع عنه أبدًا لأي سببٍ، ويتحامل على نفسه من أجل قضاء مصالح المسلمين، يقول الشيخ محمد الموسى: "سماحته - رحمه الله - لم يأخذ إجازةً طيلة فترة عمله التي تزيد على ستين عامًا! بل إنَّ عمله في يوم الخميس والجمعة والإجازات الرسمية ربما زاد على عمله في الدوام الرسمي". [12]
فكان العيد بالنسبة للشيخ يوم عمل شاقٍّ؛ حيث تزيد فيه المهام والأعباء، فيستقبل الشيخ المهنئين بالعيد وأصحاب المصالح الخاصَّة والعامة، ويُجيب على المراسلات والهاتف.
ودونك هذين النموذجين اللَّذين يُوضِّحان ما كان الشيخ يفعله في العيد:
يقول الشيخ محمد الموسى: "في عيد الفطر عام 1404هـ حيث لم ينم سماحته ليلة العيد، فقد كان يُصلي القيام، إذ لم يأتِ خبر العيد إلا متأخرًا، ثم استقبل الناسَ بعد الصلاة، فلما أُذِّن بالفجر قام للصلاة، ثم رجع إلى منزله، واستعدَّ للعيد، ثم ذهب لصلاة العيد، وبعد الصلاة واصل نهار العيد كله حتى بعد العشاء لا يفتر، ولا ينقطع، فتارةً مع الهاتف على اختلاف المتصلين وحاجاتهم، وتارةً مع سائل أو مُستفتٍ، وتارةً مع المهنئين بالعيد، وتارةً مع شكاوى الناس ومشكلاتهم وطلباتهم وشفاعاتهم، وهكذا.
ومع ذلك لا نراه يضجر أو يملّ أو يَكْهَر أو ينهر، بل يُقابل الناس كلهم بالبشاشة والتِّرحاب، ولا فرق في ذلك عنده بين أميرٍ أو وزيرٍ، أو قريبٍ أو بعيدٍ، أو مَن يعرفه أو لا يعرفه ...
كل ذلك مع كبر سنِّه، وقلَّة نومه في ذلك اليوم، فهذا هو منهجه وديدنه وخلقه، فهو منهج رائع فريد لمن أراد التأسي بالعلماء العاملين الصالحين، المؤثرين أخراهم على دنياهم.
وإليك أيضًا هذا المثال الثاني: ففي عيد الفطر من عام 1405هـ واصل جلوسه قبل صلاة الفجر بنصف ساعة، وكان مجلسه مكتظًّا بالناس، واستمر على استقباله للناس، ورده على الهاتف على نحو ما هو معلوم إلى الليل.
ولما جاء قبل صلاة العشاء كان عنده الشيخ عبدالله بن علي المطوع -من مشايخ الكويت- فقال: يا سماحة الشيخ، هل آتيكم بعد صلاة العشاء؟ فقال له سماحة الشيخ: "نعم، نعم"، فقال الشيخ عبدالله: لعلكم تحبون أن تستريحوا. فقال سماحته: الراحة في الجلوس معكم، فجلسا بعد صلاة العشاء إلى قريب من الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا، أي إلى منتصف الليل تقريبًا". [13]
لا يملّ التعلم والتعليم:
للشيخ علاقة قوية بالكتاب، فلم يكن يمر عليه يوم إلا ويطلب من أحد كُتَّابه أن يقرأ عليه من كتابٍ أو أكثر، ولم تنفك هذه العلاقة إلى آخر حياته، حتى إنه كان يقضي ساعات في مكتبته دون مللٍ أو ضجرٍ.
يقول الدكتور عبدالله المجلي مُعدِّدًا بعض الجوانب المهمة في حياة الشيخ: "عدم الملل من القراءة والبحث والمطالعة، فيمكن أن يجلس ساعات دون مللٍ وضجرٍ، في حين أن مَن حوله يملون ويضجرون، ولقد استمر الشيخ في البحث والقراءة ومطالعة الكتب من سنوات عمره الأولى حتى ساعاته الأخيرة رحمه الله". [14]
وصوَّر الأستاذُ عبدالعزيز السالم علاقةَ الشيخ بالكتاب تصويرًا دقيقًا فقال: "لقد كان الكتابُ رفيق دربه، وملازم مجلسه، فكل أوقاته مراجعة لكتب العلم، وتحصيل دائب، واستيعاب دائم، حتى نهل من معين العلم الكثير، وحقق بالمراجعة المفيد، وجلس مجلس الأستاذ من التلاميذ، وحلّ مكانة الشيخ من الطلاب، فكان المدرس والمرشد والموجِّه". [15]
ووصل حبه للكتاب إلى أن جعله مصدر استعادة نشاطه، فإذا شعر بالتعب والإعياء والفتور طلب كتابًا من الكتب ليُقرأ عليه، فما أن يبدأ القارئ في القراءة إلا ويبدأ الشيخ في استعادة نشاطه حتى يذهب عنه ما كان يشعر به من تعبٍ وإعياءٍ وفتورٍ.
يقول الشيخ محمد الموسى: "كان - رحمه الله - لا يملّ الجلوس بين الكتب، والتنقل في رياضها، ففي بعض الأحيان نأتي بالمعاملات من طلاقٍ ونحوه، فإذا بدأنا عرضها عليه بعد العشاء ربما ظهر عليه بعضُ الإعياء والتعب والنعاس، فيقول: ما عندي نشاط، ثم يطلب بعض الكتب، فإذا بدأت القراءةُ عليه في الكتب نشط، وتأهَّب، وذهب عنه النعاس، وتفاعل مع الكتاب أو الكتب...
وأحيانًا يمضي في المكتبة الساعتين والثلاث دون أن يشعر، فإذا سأل عن الساعة وقلنا: الساعة الحادية عشر، قال: إلى الله المشتكى، الوقت يمضي، والجلوس بين الكتب لا يُمَل، نتمنى أن نقرأ كل ما في هذه المكتبة، ولكن المشاغل لا تتركنا". [16]
ليس هذا فحسب، بل يُضاف إلى ذلك أيضًا: حبه لدروس العلم، وصبره على حلقات الدرس والتعليم، والتي قد تمتد لساعات، يقول الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل: "لقد كان يجلس لبعض دروسه ما يقرب من ثلاث ساعات جلسةً واحدةً، ويُقرأ عليه فيها أكثر من عشرة كتب، رغم تقدم سِنِّه، وتردِّي صحته رحمه الله". [17]
ويقول الشيخ عبدالمحسن بن محمد العجيمي: "في إحدى المحاضرات التي ألقاها الشيخ وتشرفت بالتقديم لها: مكث الشيخ قرابة الساعة والنصف وهو يتكلم - وكانت محاضرةً عن الدعوة إلى الله- ثم بدأ يجيب على الأسئلة قرابة أربعين دقيقة حتى شعرت بالتعب والإجهاد من إلقاء الأسئلة، وكنتُ أطلب منه الاكتفاء ويطلب المزيد من إلقاء الأسئلة حتى أخذتني الشفقة على الشيخ". [18]
ويروي الشيخ العلامة صالح السّدلان موقفًا يُبين مدى حب الشيخ لمجالس العلم وعدم شعوره بمرور الوقت أو برودة الطقس أثناء حلقات العلم، فيقول: "أذكر أنه أتاني مرةً في البيت ومعنا المشايخ، وبعدما جلسنا بعد صلاة العشاء ودار الحديث نُوقشت مسائل وعُرضت فتاوى، ثم بعد ذلك تناولنا طعام العشاء، وعدنا وجلسنا، فسأل أحدهم عن مسألةٍ، فقال: أعطونا الكتاب الفلاني، وكان الذي يقرأ علينا فهد الزيد، ثم طلب كتابًا آخر، ثم تفرَّعت المسألة واستمر الكلام إلى الساعة الواحدة والنصف، وكان الليل شتاء، وبعض الناس تضايق من النّعاس، والشيخ - رحمه الله - من كتابٍ إلى كتابٍ، ويناقش ويُقرر، وهذه سجيته دائمًا". [19]
فلم يرضَ - رحمه الله - في يومٍ من الأيام بالدَّنايا، أو يقنع بالقليل من العمل، فهمَّته سَمَتْ به إلى مصافِّ القادة العاملين، والأئمة المرشدين، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
ولم يكن ذلك في فترةٍ من فترات حياته دون غيرها، بل كان هذا دأبه وديدنه طيلة حياته، حتى مع تقدُّمه في العمر لم يتوقف عن العمل والجد والسعي في مصالح أمته.
كما أن همته لم تقتصر على مجالٍ دون آخر، أو تُوجَّه إلى أمرٍ دون ما سواه.
يقول الشيخ محمد الموسى: "إذا أردتَ الحديثَ عن همته فإنَّك تحار؛ فبأي شيءٍ تبدأ؟ وعن أي مجالٍ تتحدث؟
ذلك أن همته العالية لا تقتصر على مجالٍ معينٍ، أو عملٍ محددٍ، بل هي شاملة لشتى الأعمال التي يقوم بها، فهمته العالية تتجلى في قراءة الكتب، فهو لا يملّ قراءتها، بل كثيرًا ما يشرع في قراءة كتب مطولة لا يخطر بالبال أن يتمّها؛ لما يرى من كثرة أعماله، وما هي إلا مدة ثم يتم قراءتها.
وتتجلى همته في الاطلاع على المعاملات، والتوجيه بما يلزم، فلا يملّ ولا يكلّ من كثرة ما يُعرض عليه.
وتتجلى في العبادة، وتطبيق السنة في شتى شئونه.
وتتجلى في زكاء نفسه، وطهارتها، وترفعها عن السفاسف والمحقرات ...
وتتجلى في سخائه، وجوده، وكرمه، في شتى صور السخاء، والجود، والكرم.
وتتجلى في اغتنام الأوقات، والقيام بالمشروعات والأعمال العظيمة التي تقف دونها عقبات.
إلى غير ذلك من مجالات همته". [1]
وليتضح الأمر أكثر هيا بنا نأخذ من سيرته العطرة شذرات من دلائل هذه الهمَّة العالية، وتلك النفس الوثَّابة:
همة يعجز عن مثلها الشباب:
بلغت همة الشيخ - رحمه الله - حدًّا عجز مَن حوله من الشباب عن إدراكه، فكان الشيخ شعلةً من النشاط في كل ما يعود على الإسلام وأهله بالخير، حتى إن العاملين معه ليعجبون من هذا، يقول الشيخ محمد الموسى - أحد كُتَّابه: "إن الذي يعمل معه ويُرافقه ليعجب أشد العجب مما يراه من همته - رحمه الله.
وإنك لترى الإعياء يبلغ مبلغه بمن يرافقون سماحته، ويعملون معه، مع أنهم في قوتهم ونشاطهم، ومع أنهم مجموعة يتعاقبون العمل، ويتناوبون على القراءة عليه، ومرافقته، ومع أنهم يجدون متعةً ولذةً في العمل معه، ومع أنهم متفرِّغون له، ومع أن سماحته كبير في السن، ويقوم بأعمال متنوعة كثيرة.
ومع ذلك كله تجد أن سماحة الشيخ يقوم بالأعمال العظيمة بمنتهى اليسر والسهولة والسرور والسكينة، يستوي بذلك حاله في السفر أو الحضر أو الصحة أو المرض". [2]
ويقول الشيخ خالد الشايع: "ومن جدية الشيخ ذلك الترتيب والجدولة الدقيقة للأعمال، بحيث لا تتداخل أو يُهمل شيء منها، ومن العجيب حقًّا أن الالتزام بهذا البرنامج يشقّ على الشاب أن يسير عليه برغم همَّة الشباب وعنفوانه، لكن الشيخ برغم تقدمه في العمر وضعفه البدني فقد كان يحمل همةً لا تعرف كللًا ولا مللًا". [3]
والدلائل على علو همة الشيخ كثيرة جدًّا، فالمتأمل لحياته يدرك ذلك لا محالة، فمن ذلك: أنه في عام 1413هـ دُعي إلى حضور افتتاح مركز من المراكز الدعوية في جدة، وكان الشيخ في هذا الوقت في مكة المكرمة، وطلب الدَّاعون من سماحته أن يحضر بعد صلاة المغرب مباشرةً؛ رغبةً منهم في عدم إطالة زمن الحفل إلى ساعاتٍ متأخرةٍ، فقال سماحته: ما يكون إلا الخير، فلما صلَّى الشيخ المغرب سأله مرافقوه: نذهب الآن إلى جدَّة؟ فقال: بل نذهب إلى مجلسنا المعتاد، وننظر في حاجات الناس؛ وذلك لحرصه على قضاء مصالح المسلمين، فقالوا له: إذن نتأخَّر في الحضور، ونتأخر في الرجوع! فقال الشيخ: ولو، يُعين الله.
فلما أنهى سماحته مجلسه المعتاد كان وقت صلاة العشاء قد حان، فصلاها، ثم انطلق مع مرافقيه إلى جدة.
وفي الطريق حرص سماحته على استغلال الوقت فيما يعود بالنفع على المسلمين، فكان المرافقون له - وهم الدكتور محمد بن سعد الشويعر والشيخ محمد الموسى والشيخ صلاح الدين عثمان - يتناوبون قراءة المعاملات والرسائل عليه حتى وصلوا إلى مكان الحفل.
استمع سماحته في هذا الحفل لكل فقراته وما أُلقي فيه من كلمات وقصائد، ثم ألقى كلمته على مسامع الحضور، وبعد ذلك تناول معهم طعام العشاء، ثم ودَّعهم وعاد أدراجه إلى مكة.
وما فعله الشيخ وهو في طريقه من مكة إلى جدة فعله أيضًا وهو عائد من جدة إلى مكة، فكان مرافقوه يتناوبون القراءة عليه حتى وصل إلى بيته.
وقد وصل إلى بيته الساعة الثانية ليلًا، ومع ما كان يُعانيه هو ومرافقوه من التعب والإرهاق بعد هذه الرحلة الشَّاقة وذلك اليوم المشحون بالأعمال، إلا أنه قام كعادته قبل الفجر بساعة لصلاة التهجد، وظلَّ يذكر الله تعالى إلى أذان الفجر، ثم ذهب إلى المسجد وأدى الصلاة وألقى كلمةً في الناس.
فلما عاد إلى منزله ظن كُتَّابُه أنه سينام لوقتٍ طويلٍ بعد ما عاناه من مشقةٍ وتعبٍ، ولكنَّه ما إن دخل إلى مجلسه إلا وألقى غُترته جانبًا وقال: بسم الله، ماذا عندكم؟ يقول الشيخ محمد الموسى: "فأخذتُ أقرأ عليه المعاملات، وأنا أرى عليه من السرور والانشراح ما يُبهر اللُّب، فبقيتُ أقرأ عليه حتى السابعة والثلث تقريبًا، فظننتُ بعدها أنه سينام نومةً طويلةً، فإذا به يقول: ضعْ منبه الساعة على الثامنة والثلث، فلما جاء ذلك الوقت نهض إلى رابطة العالم الإسلامي لحضور الندوات والاجتماعات المطولة التي كانت تُعقد آنذاك، ولم يرجع إلى منزله إلا الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، ثم أكمل الجلوس مع الحاضرين في المجلس، وتناول معهم الغداء، وصلَّى العصر وهو في تمام النشاط والانشراح، ونحن نكاد نسقط على وجوهنا من جراء الإرهاق وقلَّة النوم". [4]
ويقول الشيخ عبدالمجيد الزنداني: "لقد صحبتُه يومًا وأنا في عزِّ شبابي من الصباح إلى المساء، فما جاء المساء إلا وقد تعبتُ وأنا الشاب، ولكن ما رأيتُ عليه آثار التعب الذي كنتُ أحس به". [5]
هكذا كان - رحمه الله - فلم يعرف في حياته كلها الكسل والخمول، ولكنه كان دائم النشاط والعمل، تدفعه همته العالية إلى المعالي، وتقوده إلى مزيد من الجهد والعطاء.
عمل دائم إلى آخر حياته:
ظل الشيخ إلى آخر يوم في حياته يعمل، فلم يتوقف عن العمل يومًا من الأيام، حتى في أصعب الظروف وأشد الأزمات لا يترك العمل، فقد دخل المستشفى أكثر من مرة، وأحيانًا كان يُقيم فيها بضعة أيام، ومع ذلك لا يترك العمل، بل يجعل مكان إقامته في المستشفى مكتبًا يجلب إليه الموظفين والمعاملات والرسائل والكتب وغيرها مما يحتاجه لممارسة مهامه.
يقول الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن المسند: "من المواقف المؤثرة أنه عندما مرض وأدخل المستشفى طلب منه الطبيب أن يهدأ، وألا يُكثر التفكير، فلم يقبل، وأذن للكُتَّاب بالدخول عليه في غرفة المستشفى وعرض الأعمال وسماع الفتاوى والإجابة عليها". [6]
ويقول الشيخ محمد صالح المنجد: "ولما مرض وكان يشتد عليه الألم، إذا أفاق يقول لمن حوله من الكُتَّاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم، اقرأوا عليَّ، فيقرأون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق والمنكرات والشفاعات وغيرها مما ينفع البلاد والعباد". [7]
ويقول الشيخ أحمد القطان: "زرتُه يومًا وهو مريض في رجله، والطبيب واقفٌ على رأسه ساعة، يستأذنه كل حين في علاجه، لكن حاجات الناس وأسئلتهم جعلت الطبيب ينتظر طويلًا إلى أن ودَّعناه والطبيب لم يُعالجه". [8]
ويروي الشيخ محمد الموسى قصة أزمةٍ من الأزمات الصحية التي تعرَّض لها الشيخ قبل وفاته بأشهر ونُقِلَ على إثرها إلى المستشفى، مبينًا كيف تغلب على ذلك ومارس عمله وكأن لم يكن به بأس، يقول: "في يوم من الأيام اشتدَّ المرض بالشيخ، وتعب تعبًا شديدًا، وكان طوال يومه يعاني ويتقيَّأ، فلم يستطع أن يُصلي مع الناس لا الجمعة ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء، فقرروا نقله إلى المستشفى، ... فذهبوا به وهو في حالةٍ من التعب والمرض والإرهاق، فعملوا له منظارًا وأعطوه بعض المغذيات والمهدئات فاستقرت حالته نوعًا ما.
فاتصلت على الإخوان الذين كانوا مع الشيخ، وقلت لهم: بشِّروا كيف حال الشيخ الآن؟ فقالوا: بخير والحمد لله، ولكنه يُحب أن يقرأ عليه أحدٌ، فقام أحد المرافقين وقرأ عليه قدرًا لا بأس به، ثم ناموا، فإذا بالشيخ يقوم في وقته المعلوم لصلاة التهجد، فيُصلي ما شاء الله له، ثم يقرأ القرآن، ثم يُصلي بمن معه من المرافقين والأقارب والعساكر صلاة الفجر، ثم استقبلهم بوجهه وألقى فيهم موعظةً مؤثرةً، ثم قرأ الأذكار والأوراد كاملةً، وسأل الأخ صلاح عثمان: ماذا معك يا صلاح؟ قال: معي (فتح الباري)، و(فتح المجيد)، قال: بسم الله، اقرأ، فقرأ عليه إلى حوالي الساعة السابعة.
فذهبتُ إلى المستشفى لأطمئن على الشيخ، وكانت الساعة السابعة والنصف، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف دخلتُ على الشيخ، وكنتُ أظنه نائمًا، فإذا به جالس على كرسيه يقرأ القرآن الكريم، فسلمتُ عليه، فبادرني بقوله: هاتِ، أيش معك؟ فقلت: يا شيخ، معي معاملات كثيرة، ومعي فتاوى اللجنة الدائمة الجزء الثاني عشر، صدر من المطابع، ولكني تركتها بالسيارة وأتيت أطمئن عليك. قال: اذهب وأتِ بها، فذهبت، وأتيت بالمعاملات، فقرأت عليه معاملةً طويلةً تتكون من اثنتي عشرة صفحة، ثم بدأتُ بكتاب الفتاوى، فقرأت عليه أربعين صفحةً، فجاء ابنه عبدالله، فبدأ يُكمل القراءة عليه إلى الصفحة الخمسين، ثم جاء الممرضون والأطباء ليطمئنوا على الشيخ وينظروا إلى نتائج الفحوصات، فقالوا للشيخ: تحسنتْ حالتُك والحمد لله، فقال لهم: ما بقي لكم عندنا شيء، ولم يبقَ لكم فيَّ حاجة، فهل تأذنون لي بالذهاب؟ فقالوا له: لا بأس. فخرجنا من المستشفى ونحن نظنه يريد الذهاب إلى البيت، فقال له ابنه أحمد: سنتجه إلى البيت إن شاء الله. فقال: لا، اتَّجهوا إلى المكتب، فقال ابنه أحمد: إذن ننتظرك في البيت بعد صلاة الظهر مباشرةً إن شاء الله. فقال: لا، سآتيكم في الموعد المعروف - الثانية والنصف - إن شاء الله". [9]
أرأيتَ كيف كان الشيخ حريصًا على مصالح المسلمين، ويتحامل على نفسه من أجلهم، ولا يشعر بالراحة إلا حين يكون بينهم أو يعمل على قضاء حاجاتهم.
ويُحدثنا الدكتور ناصر الزهراني - أحد تلاميذه المقربين - عن نشاط الشيخ ومواصلته العمل في الأيام الأخيرة من حياته رغم مرضه في تلك الفترة ونصيحة الأطباء له بالراحة فيقول: "لقد رأيته - رحمه الله - في الأيام الأخيرة من حياته، وهو على عمله الدؤوب، وصبره العظيم، بل يزيد ولا ينقص، في ليلةٍ من الليالي صلى المغرب ثم ألقى درسًا، ثم صلى العشاء، ثم عاد إلى البيت ليستقبل عددًا من حالات الطلاق استنفذت من وقته أكثر من ساعة، ثم قام لموعدٍ مع عدد من الأطباء بالجامعة لديهم أسئلة واستفسارات، ثم انتهى منهم، وألقى محاضرةً في مدينةٍ أخرى عن طريق الهاتف.
كل هذا الجهد والعمل فقط من المغرب إلى ما قبل النوم، دعك من بقية النهار، وهو مريض منهك، المرض يفتك بجسمه، والوباء يلتهم أحشاءه، ولم يبقَ منه إلا جِلد على عظم.
وفي الليلة التي توفي بها - رحمه الله - كان جالسًا للناس من المغرب للعشاء، وأفتى في بعض المسائل بعد العشاء، وجلس إلى أهله وأبنائه.
يقول الدكتور عبدالله الحكمي: لقد كان من نشاط الشيخ واجتهاده في الأشهر الأخيرة من حياته ما يبعث على العجب، فقد كان يُضاعف جهده، ويُرهق نفسه، ويُريد أن يُنهي أكبر قدرٍ من المعاملات والأوراق والبحوث، وكأنه يعلم أنه مودِّع، أحب أن يُنجز أكبر قدرٍ ممكنٍ من مصالح المسلمين وحوائجهم". [10]
حتى إن بعض المعاملات والرسائل التي أنهاها وصلت إلى أصحابها بعد وفاته - رحمه الله - يقول الدكتور ناصر: "بعد وفاته أتتني بعض المعاملات التي بعثتُ بها إليه قبل وفاته - رحمه الله - بأيام، من ضمنها ثلاثة طرود من الكتب النافعة لكي أرسلها إلى الهند لجمعية إسلامية هناك كتبوا لسماحته يطلبون كتبًا في العقيدة والتفسير، وجاءني شيك بمبلغ من المال مساعدةً لرجل تحمل حمالةً، فكنت أقرأ خطابات سماحته - رحمه الله - التي وصلتني بعد موته وأنثر دموعي عليها، وأقول: رحمك الله، ولقد جاءني خطاب موقَّعٌ من سماحته في آخر يوم من أيام حياته يوم الأربعاء 1420/1/26هـ". [11]
ولا يتوقف عن العمل في الإجازات والأعياد:
لم يكن الشيخ - رحمه الله - يتوقف عن العمل في الإجازات والأعياد، فهو -كما تقدم- في عمل دائم طيلة حياته، لا ينقطع عنه أبدًا لأي سببٍ، ويتحامل على نفسه من أجل قضاء مصالح المسلمين، يقول الشيخ محمد الموسى: "سماحته - رحمه الله - لم يأخذ إجازةً طيلة فترة عمله التي تزيد على ستين عامًا! بل إنَّ عمله في يوم الخميس والجمعة والإجازات الرسمية ربما زاد على عمله في الدوام الرسمي". [12]
فكان العيد بالنسبة للشيخ يوم عمل شاقٍّ؛ حيث تزيد فيه المهام والأعباء، فيستقبل الشيخ المهنئين بالعيد وأصحاب المصالح الخاصَّة والعامة، ويُجيب على المراسلات والهاتف.
ودونك هذين النموذجين اللَّذين يُوضِّحان ما كان الشيخ يفعله في العيد:
يقول الشيخ محمد الموسى: "في عيد الفطر عام 1404هـ حيث لم ينم سماحته ليلة العيد، فقد كان يُصلي القيام، إذ لم يأتِ خبر العيد إلا متأخرًا، ثم استقبل الناسَ بعد الصلاة، فلما أُذِّن بالفجر قام للصلاة، ثم رجع إلى منزله، واستعدَّ للعيد، ثم ذهب لصلاة العيد، وبعد الصلاة واصل نهار العيد كله حتى بعد العشاء لا يفتر، ولا ينقطع، فتارةً مع الهاتف على اختلاف المتصلين وحاجاتهم، وتارةً مع سائل أو مُستفتٍ، وتارةً مع المهنئين بالعيد، وتارةً مع شكاوى الناس ومشكلاتهم وطلباتهم وشفاعاتهم، وهكذا.
ومع ذلك لا نراه يضجر أو يملّ أو يَكْهَر أو ينهر، بل يُقابل الناس كلهم بالبشاشة والتِّرحاب، ولا فرق في ذلك عنده بين أميرٍ أو وزيرٍ، أو قريبٍ أو بعيدٍ، أو مَن يعرفه أو لا يعرفه ...
كل ذلك مع كبر سنِّه، وقلَّة نومه في ذلك اليوم، فهذا هو منهجه وديدنه وخلقه، فهو منهج رائع فريد لمن أراد التأسي بالعلماء العاملين الصالحين، المؤثرين أخراهم على دنياهم.
وإليك أيضًا هذا المثال الثاني: ففي عيد الفطر من عام 1405هـ واصل جلوسه قبل صلاة الفجر بنصف ساعة، وكان مجلسه مكتظًّا بالناس، واستمر على استقباله للناس، ورده على الهاتف على نحو ما هو معلوم إلى الليل.
ولما جاء قبل صلاة العشاء كان عنده الشيخ عبدالله بن علي المطوع -من مشايخ الكويت- فقال: يا سماحة الشيخ، هل آتيكم بعد صلاة العشاء؟ فقال له سماحة الشيخ: "نعم، نعم"، فقال الشيخ عبدالله: لعلكم تحبون أن تستريحوا. فقال سماحته: الراحة في الجلوس معكم، فجلسا بعد صلاة العشاء إلى قريب من الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا، أي إلى منتصف الليل تقريبًا". [13]
لا يملّ التعلم والتعليم:
للشيخ علاقة قوية بالكتاب، فلم يكن يمر عليه يوم إلا ويطلب من أحد كُتَّابه أن يقرأ عليه من كتابٍ أو أكثر، ولم تنفك هذه العلاقة إلى آخر حياته، حتى إنه كان يقضي ساعات في مكتبته دون مللٍ أو ضجرٍ.
يقول الدكتور عبدالله المجلي مُعدِّدًا بعض الجوانب المهمة في حياة الشيخ: "عدم الملل من القراءة والبحث والمطالعة، فيمكن أن يجلس ساعات دون مللٍ وضجرٍ، في حين أن مَن حوله يملون ويضجرون، ولقد استمر الشيخ في البحث والقراءة ومطالعة الكتب من سنوات عمره الأولى حتى ساعاته الأخيرة رحمه الله". [14]
وصوَّر الأستاذُ عبدالعزيز السالم علاقةَ الشيخ بالكتاب تصويرًا دقيقًا فقال: "لقد كان الكتابُ رفيق دربه، وملازم مجلسه، فكل أوقاته مراجعة لكتب العلم، وتحصيل دائب، واستيعاب دائم، حتى نهل من معين العلم الكثير، وحقق بالمراجعة المفيد، وجلس مجلس الأستاذ من التلاميذ، وحلّ مكانة الشيخ من الطلاب، فكان المدرس والمرشد والموجِّه". [15]
ووصل حبه للكتاب إلى أن جعله مصدر استعادة نشاطه، فإذا شعر بالتعب والإعياء والفتور طلب كتابًا من الكتب ليُقرأ عليه، فما أن يبدأ القارئ في القراءة إلا ويبدأ الشيخ في استعادة نشاطه حتى يذهب عنه ما كان يشعر به من تعبٍ وإعياءٍ وفتورٍ.
يقول الشيخ محمد الموسى: "كان - رحمه الله - لا يملّ الجلوس بين الكتب، والتنقل في رياضها، ففي بعض الأحيان نأتي بالمعاملات من طلاقٍ ونحوه، فإذا بدأنا عرضها عليه بعد العشاء ربما ظهر عليه بعضُ الإعياء والتعب والنعاس، فيقول: ما عندي نشاط، ثم يطلب بعض الكتب، فإذا بدأت القراءةُ عليه في الكتب نشط، وتأهَّب، وذهب عنه النعاس، وتفاعل مع الكتاب أو الكتب...
وأحيانًا يمضي في المكتبة الساعتين والثلاث دون أن يشعر، فإذا سأل عن الساعة وقلنا: الساعة الحادية عشر، قال: إلى الله المشتكى، الوقت يمضي، والجلوس بين الكتب لا يُمَل، نتمنى أن نقرأ كل ما في هذه المكتبة، ولكن المشاغل لا تتركنا". [16]
ليس هذا فحسب، بل يُضاف إلى ذلك أيضًا: حبه لدروس العلم، وصبره على حلقات الدرس والتعليم، والتي قد تمتد لساعات، يقول الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل: "لقد كان يجلس لبعض دروسه ما يقرب من ثلاث ساعات جلسةً واحدةً، ويُقرأ عليه فيها أكثر من عشرة كتب، رغم تقدم سِنِّه، وتردِّي صحته رحمه الله". [17]
ويقول الشيخ عبدالمحسن بن محمد العجيمي: "في إحدى المحاضرات التي ألقاها الشيخ وتشرفت بالتقديم لها: مكث الشيخ قرابة الساعة والنصف وهو يتكلم - وكانت محاضرةً عن الدعوة إلى الله- ثم بدأ يجيب على الأسئلة قرابة أربعين دقيقة حتى شعرت بالتعب والإجهاد من إلقاء الأسئلة، وكنتُ أطلب منه الاكتفاء ويطلب المزيد من إلقاء الأسئلة حتى أخذتني الشفقة على الشيخ". [18]
ويروي الشيخ العلامة صالح السّدلان موقفًا يُبين مدى حب الشيخ لمجالس العلم وعدم شعوره بمرور الوقت أو برودة الطقس أثناء حلقات العلم، فيقول: "أذكر أنه أتاني مرةً في البيت ومعنا المشايخ، وبعدما جلسنا بعد صلاة العشاء ودار الحديث نُوقشت مسائل وعُرضت فتاوى، ثم بعد ذلك تناولنا طعام العشاء، وعدنا وجلسنا، فسأل أحدهم عن مسألةٍ، فقال: أعطونا الكتاب الفلاني، وكان الذي يقرأ علينا فهد الزيد، ثم طلب كتابًا آخر، ثم تفرَّعت المسألة واستمر الكلام إلى الساعة الواحدة والنصف، وكان الليل شتاء، وبعض الناس تضايق من النّعاس، والشيخ - رحمه الله - من كتابٍ إلى كتابٍ، ويناقش ويُقرر، وهذه سجيته دائمًا". [19]
فلم يرضَ - رحمه الله - في يومٍ من الأيام بالدَّنايا، أو يقنع بالقليل من العمل، فهمَّته سَمَتْ به إلى مصافِّ القادة العاملين، والأئمة المرشدين، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (209-212).
- المصدر السابق (210).
- جريدة الشرق الأوسط، عدد (7479). بواسطة: مواقف مضيئة، لحمود المطر (243،242).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (209-212).
- جريدة عكاظ، عدد (11948). بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (1/ 149)، ومواقف مضيئة، لحمود المطر (176).
- جريدة الرياض، عدد (11282). بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (1/ 155)، ومواقف مضيئة، لحمود المطر (173،172).
- جريدة الندوة، عدد (12334). بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (1/ 154).
- جريدة الشرق الأوسط، عدد (7475). بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (155/1).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (124-126).
- المصدر السابق (174،173).
- المصدر السابق (124،123).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (167).
- المصدر السابق (115،114).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (188).
- مقال: وانطفأ المصباح المضيء (1)، لعبدالعزيز السالم، جريدة الرياض، عدد (11282)، السبت 28 محرم 1420هـ.
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (120-122).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (191).
- سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (157،156/1).
- المصدر السابق (160،159/1).