سلامة صدره وحسن ظنه

  • أولا: سلامة صدره:
إن سلامة الصدر من أعظم الأخلاق التي ترقى بصاحبها فتجعله من خير الناس وأفضلهم عند الله ففي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد[1]
ولقد ضرب لنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - مثالًا ساميًا في سلامة الصدر ونقاء السريرة، فكل من عايشه أو تعامل معه ليشهد له بهذا الخلق الرفيع.
يقول ناصر الزهراني في سياق حديثه عن سلامة صدر سماحة الشيخ: "هذه سمة من سمات شيخنا، رحمه الله رحمة واسعة، فلا غش، ولا غل، ولا حقد، ولا حسد، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لذاته، ولا يحمل في نفسه.
لم ينتقص أحدًا لم يمتلئ حسدًا لم يفتتن أبدًا بالمنصب العالي
لقد كانت تشوه صورة كثير من الناس عند سماحته سواء بعض العلماء أو طلبة العلم أو المسئولين، فلا يجعله ذلك ينتقص قدر أحد منهم، أو يثور في وجهه، أو يتخذه عدوًّا، أو يمتلئ عليه حقدًا، بل يكون أكثر شفقة، وأكثر رحمة، وأشد عطفًا، ولطفًا، ورفقًا، وكسبًا لقلبه، إلى جانب الحق والصواب بالتعامل السمح، والكلام اللين، والنصيحة الهادئة". [2]
ويقول عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "يمتاز سماحته - رحمه الله - بهذه الصفة الفريدة النفيسة، وهي سلامة صدره من الغلِّ والحقد والحسد والغش، وحبه الخير للمسلمين من إخوانه حتى من بلغه عنه شيئًا من الأخطاء والزلات دعا له بالهداية والصلاح؛ لذا لم ينتقص فلان من الناس ولا علان من الناس من أجل مقالة أو هفوة أو زلة، بل يكون صدره عليه سليمًا، فإذا ما وافاه وقابله نصحه النصح الصادق المبني على الموعظة الحسنة". [3]

بعض المواقف التي تصوّر سلامة صدر الشيخ:
إن حياة الشيخ - رحمه الله - مليئة بالمواقف الرائعة التي تصور مدى سلامة صدر سماحته ونقاء سريرته، وفيما يلي نذكر بعض هذه المواقف، وإلا فالمقام لا يتسع لذكر جميع مواقف سماحته:
فمن هذه المواقف ما ذكره عبدالرحمن بن يوسف الرحمة، فقال: "أخبرته برجل اغتابه سنين عديدة متهمًا إياه بصفات بذيئة، ونعوت مرذولة، وصلت إلى تبديعه والكلام عليه بأقسى الألفاظ، وأعتى العبارات، وأنه جاء يرجو منه السماح ويطلب منه النصيحة له، فقال: أما حقي فقد تنازلت عنه، والله يعفو عنا وعنه، وأما النصيحة فهي الثبات على هذا الدين، والإقبال عليه، والحرص على لزوم حلق العلم والعلماء والاستفادة منهم". [4]
ويحكي الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري موقفًا حدث له مع الشيخ ابن باز يظهر فيه مدى سلامة صدر سماحته، فيقول: "ولما التحقت بالمعهد العالي للقضاء كنت ذا هيئة غير هيئة الطلبة، ألبس العقال، وأتحيف اللحية، وألبس الكبك والسختيان، واللباس الأنيق، وأعبث بالسبحة.. وكان أهل الخير يوصلون كل ذلك لسماحته، فلا يرد عليهم بغير الدعاء لي بالهداية، وفي الأسئلة التحريرية النهائية كانت أجوبتي مخزية في مادة الحديث التي يدرسها، وكنت أغطي جهلي بالتقعر والتفلسف، ونجحت في المادة نجاحًا على غير ما ينبغي.. وعلم من أهل الخير أن تلك أجوبتي، فاشتد حزنه وتقريعه، ولم يرتح إليَّ إلا منذ عام 1406هـ تقريبًا عندما أقلعت عن خزعبلات الفن، وأذن لي بخطاب رسمي بتدريس صحيح البخاري في مسجد سلطانة، وإنما أراد - رحمه الله - جري إلى الحديث وعلومه، واشترط البعد عن الظاهرية، وقال لي: إنه قرأ في المحلى أول ما نشر، ثم هجره لما فيه من حدة وعنف، ومن الشباب أهل الخير - وأعرفه باسمه ورسمه- من بلغه أنني كتبت على باب منزلي (دارة ابن حزم)، وعلى الآخر (دارة داود)، فقال: يقال أنك كتبت كذا وكذا! فقلت: نعم، أنا ظاهري بأصول فكرية ولغوية، وهذان من أئمة المسلمين، ولا يعني ذلك أنني تابع لابن حزم في أغلاطه الفقهية والعقدية، فسر - رحمه الله - بذلك وحذرني من مزالق ابن حزم وعلماء الكلام، وأوصاني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية". [5]
ويحكي الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة قصةً أخرى لأبي عبدالرحمن مع الشيخ ابن باز تؤكد أيضًا على سعة صدر الشيخ ونقاء سريرته، فيقول: "كان أبو عبدالرحمن يهاب الشيخ، ويظن أن له منه موقفًا، وأنه لا يحبه؛ نظرًا لبعض كتابات ومواقف له قديمة - عفا الله عنه - فأقيم للشيخ في يوم من الأيام محاضرة بالمسجد الذي يصلي فيه أبو عبدالرحمن، فقال أبو عبدالرحمن لأحد أصدقائه: أرجوك أن تذهب إلى سماحة الشيخ، وتطلب منه أن يتعشى عندي بعد المحاضرة، ولم يكن يخطر على باله أن الشيخ سيلبي دعوته، فذهب الرجل وقال للشيخ: إن أبا عبدالرحمن يدعوك لتناول طعام العشاء عنده بعد المحاضرة، فلم يتردد الشيخ في الموافقة، وقال: لا بأس، جزاه الله خيرا، فلما عاد الرجل لأبي عبدالرحمن بالخبر لم يكد يصدق، وسر بذلك سرورًا عظيمًا، وارتاحت نفسه، واطمأن فؤاده حينما علم أن الشيخ يقدره، وليس في نفسه عليه شيء". [6]
 
  • ثانيًا: حسن ظنه بالأخرين:
أما عن حسن ظن سماحته بالأخرين فحدث ولا حرج حيث كان الشيخ - رحمه الله - يحسن الظن بجميع الناس؛ المسيئين منهم والمحسنين.
 يقول الشيخ ناصر الزهراني: "من أعظم وأجمل ما ترى في هذا الشيخ: حسن الظن بالمسلمين، فالأصل عنده حسن الظن، ولا يحب التشكيك في أحدٍ من المسلمين أو تخوينه، أو الكلام فيه بما لا يرضى حتى ولو بلغه أنه أخطأ عليه شخصيًا أو نال منه، بل ذلك أدعى لجعله لا يهتم للأمر أصلا، جاءه بعض طلبة العلم فشكوا إليه أحد الناس، وبينوا أخطاءه وبعض المخالفات عنده، فبدأ الشيخ يملي كتابًا لتوبيخه ونصحه وتوجيهه، وفي أثناء الكتابة قال أحدهم: وإنه يا شيخ يتكلم فيك، وينال منك، فقال الشيخ للكاتب: قف، وترك الكتابة خشية أن يقال: إن الشيخ ينتقم لنفسه". [7]
ولقد عُرف عن سماحة الشيخ حسن الظن بأهل العلم، يقول الشيخ محمد بن موسى: "كان يحسن الظن بأهل العلم كثيراً، ويحمل كلامهم على أحسن المحامل، ولا يرضى أن يُنالوا بأي سوء أو مكروه، وكان يدافع عنهم، ويحفظ أعراضهم، ولا يصدق ما يقال فيهم من سوء حتى يقف على حقيقة الأمر، وإذا جاءه أحد من الناس، وقال: إن الشيخ فلان بن فلان قد قال: كذا وكذا مما لا يليق؛ نهره سماحة الشيخ، وقال: هو أوثق عندنا منك، أفنصدقك ونكذب الشيخ فلاناً؟ ونحو ذلك، وإذا تثبَّت من صحة ما يقال عن فلان من أهل العلم من أنه أخطأ في أمر ما، أرسل إليه نصيحة، أو هاتفه، أو طلب حضوره، وبعد ذلك يبدي له وجه الخطأ، ويورد الأدلة على ما قال بأسلوب يفيض بالرحمة، والنصح؛ فما يكون من ذلك الشخص إلا أن يقبل كلام سماحته ويدعو له". [8]
ولم يتوقف حسن ظن الشيخ عند العلماء وطلاب العلم إنما تعدى حسن ظنه ليشمل عوام الناس، ومن القصص التي تصور لنا ذلك ما ذكرته دوش بنت فلاح الدوسري، فقالت: "يذكر أحد الأشخاص الذين اعتادوا الذهاب إليه أنه أثناء سلام الناس عليه في مجلسه صافحه رجل كان فيه رائحة سجائر، فسارع أحد المتحمسين وأخبر الشيخ كأنه يريد منه تعنيف الرجل وتوبيخه، إلا أنه برحابة صدره المعهودة وحسن ظنه بالناس قال له ما معناه: لا تتعجل بالحكم، فلربما كان راكبًا مع شخص مدخن، فأصابه شيء منه". [9]
وهكذا بلغت سلامه صدر سماحة الشيخ وحسن ظنه بالآخرين، وأكثر من ذلك، الأمر الذي جعل القلوب تجتمع على محبته وذكره الحسن في حياته وبعد وفاته، فرحم الله سماحة الشيخ، ورفع درجاته في أعلى الجنان.
  1. رواه ابن ماجة: (4216).
  2. إمام العصر، لناصر بن مسفر الزهراني (98-99).
  3. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (192-193).
  4. المصدر السابق: (193).
  5. جريدة الجزيرة العدد: (9730)، بواسطة: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (193-194).
  6. إمام العصر، ناصر بن مسفر الزهراني (99).
  7. المصدر السابق (129).
  8. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز رواية محمد بن موسى، محمد بن إبراهيم الحمد ( 169).
  9. موسوعة أعلام القرن الرابع عشر والخامس عشر، سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (256/1).