زهده وعفته
الزهد والعفة خلقان كريمان حثَّ نبينا عليه الصلاة والسلام على التَّحلِّي بهما، فقال عن الأول: ازهد في الدنيا يُحبُّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبُّك الناس[1]، وقال عن الثاني: مَن يستعفف يُعِفَّه الله[2]. وكان من دعائه ﷺ: اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى[3].
ولقد وعى عقل سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - ذلك، وأدرك مراد الله تعالى من قوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنعام: 32]، فتعلَّق قلبُه بالآخرة، وانشغل بما يقربه من رضا ربه، فكان الشيخ كما وصفه أحدُ تلاميذه: "ليس فيه من صفات أهل الدنيا إلا أنه يعيش بينهم، وإلا فأنت والله ترى رجلًا من أهل الآخرة، قلبه هناك، وفؤاده هناك، يجلس إلى الناس وقلبه في الملأ الأعلى، ويتحدث معك وروحه مع خالقه". [4]
فقد نظر إلى الدنيا نظرة حكيم، وتعامَل معها تعامُل خبير، فرأى كلَّ مُتعها زائلة، فاستعان عليها بالله، وأخذ ما يرضيه سبحانه ولو كان قليلًا، وترك ما يجلب سخطه وغضبه وإن كان محبوبًا إلى النفس.
بيته ومكتبه:
حين تدخل بيت سماحة الشيخ لا تجد فيه شيئًا فخمًا غالي الثمن يجذب الأنظار، وإذا عرَّجت على مكتبه وجدته متواضعًا، لا يليق أبدًا بمكانته الدينية والعلمية والاجتماعية، بل لا يليق بمن دونه في العلم والمنزلة، ولكنه - رحمه الله - آثر ما عند الله، ورضي بالقليل المُوصِل إلى رضاه، حتى إنه حين عرض عليه بعضُ الوجهاء تغيير أثاث بيته في مكة بأحدثَ منه، أَبَى وقال: "لنا في هذا البيت ست عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا؟!"، فلما كثر الإلحاح عليه وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، شكَّل لجنةً من خمسة أشخاصٍ، وقال لهم: "اجتمعوا واكتبوا ما ترونه"، فاجتمعوا وتم إصلاح الأثاث. [5]
ولم يكن بيته في مكة ملكًا له، بل كان مستأجرًا، وحين ترجاه أحد تلاميذه - وهو الشيخ ناصر الزهراني - أن يشتريه لسماحته، رفض - رحمه الله - مؤثرًا صرف الأموال فيما يعود بالنفع على المسلمين. [6]
وعندما وهبت الحكومةُ لسماحة الشيخ قطعة أرضٍ في طريق العزيزية بمكة في موقع متميز، لم يفكر في استغلالها في بناء بيت فخم، أو عمل مشروع تجاري كبير، بل استغلها - رحمه الله - فيما ينفع المسلمين؛ فأقام عليها مسجدًا جامعًا كبيرًا، مؤثرًا مصلحة المسلمين على مصلحته [7]، فيا له من زاهدٍ قلَّما يجود الزمانُ بمثله.
يسأل عن رواتب الفقراء ولا يسأل عن راتبه:
بلغ من زهد الشيخ - رحمه الله - أنه لم يكن يسأل عن راتبه، أو مقداره، أو ينشغل بتأخر صرفه، ويحرص على صرف رواتب الفقراء والمساكين في أوقاتها، ويسأل الشيخ عبدالرحمن بن عتيق - المسؤول المالي لسماحته - عن ذلك؛ ليتأكد بنفسه من وصول الأموال إلى مستحقيها. [8]
يُسْقِط الدَّيْنَ عمَّن اقترض منه:
كان الشيخ - رحمه الله - يُنفق إنفاق مَن لا يخشى الفقر، فيُقْرِض المُعْسِرين، ويفكّ كربَ المكروبين، ويُسارع إلى إغاثة مَن لجأ إليه، ثم لا يسعى إلى استيفاء أمواله منهم، بل مَن أتى وسدَّد دَينه قَبِلَ منه، ومَن ساءتْ أحواله، وتعسَّرتْ أموره؛ بادر إلى إسقاط الدَّيْن عنه، ومن ذلك: إرساله كُتبًا إلى بعض مَن أقرضهم يُخبرهم فيها بإبرائهم من الدَّين قائلًا: "أخشى أن يُفاجئني الأجل، وأُحب أن أخبركم أنني قد سامحتكم، وأبرأتكم، ولم يبق لي عليكم شيء".
وقبل وفاته - رحمه الله - بثلاث سنوات أقرض شخصًا سبعمئة ألف ريال، ثم أرسل إليه يُخبره أنه قد أسقط الدَّين عنه، فتعجب كاتبُه من ذلك، فقال له: "يا ولدي، لا تهمك الدنيا، أنا بلغت من العمر سبعًا وثمانين، ولم أرَ من ربي إلا خيرًا، الدنيا تذهب وتجيء، وفَرْقٌ بين مَن يُتوفَّى وعنده مئة مليون، ومَن يُتوفَّى وليس لديه شيء؛ فالأول ثقيل الحساب والتَّبِعَة، والثاني بعكس ذلك كله". [9]
قصر رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة:
زار الملك فيصل - رحمه الله - سماحة الشيخ في المدينة النبوية بعدما تولى الشيخ رئاسة الجامعة الإسلامية، ورأى الملكُ الحال التي عليها الشيخ، فأمر ببناء قصر للشيخ يتناسب مع مكانته الدينية والعلمية والاجتماعية، فلما تم البناء، وأراد القائمون عليه أن يجعلوا صك القصر باسم الشيخ، رفض - رحمه الله - وفضَّل أن يكون صك القصر باسم رئيس الجامعة الإسلامية؛ ليسكنه كل مَن يتولى هذا المنصب من بعده. [10]
فيا له من زهد تعجز الكلمات عن وصفه، يفر الشيخ من الدنيا ويدفعها عن نفسه ورغم ذلك تأتيه صاغرةً، فكلما دفع شيئًا من زينتها أتاه ما هو أعلى منه محاولًا إغراءَه، ومع ذلك فالشيخ على حاله، لا تُغيره المظاهر الخلابة، أو الزخارف البراقة، فرحمه الله رحمةً واسعةً.
يأخذ جيرانُه جزءًا من أرضه فيرضى:
اشترى الشيخ - رحمه الله - قطعة أرض، وجعل عليها وكيلًا له يقوم بشؤونها، فأتاه وكيله ذات يوم وأخبره أن جيرانه أخذوا جزءًا من أرضه، فقال رحمه الله: عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء؟ فقال الوكيل: أقول: أخذوا من أرضك! فقال: نحن والحال سواء، الباقي سيبارك الله لنا فيه. [11]
هذا مع كون الشيخ كان قادرًا على أخذ حقه كاملًا منهم، فبكلمةٍ واحدةٍ منه لولي الأمر كان يمكن أن يُفْعَل بجيرانه الأفاعيل، لكنه - رحمه الله - كان سمح النفس، فلم تكن الدنيا عنده تساوي شيئًا، أو تستحق أن يحزن المرء على ما فاته منها، فليأخذ منها مَن شاء ما شاء، فالشيخ - رحمه الله - جعل الدار الآخرة وجهته، ويَمَّم نحوها قصده، وحرص على عدم المنافسة على الدنيا.
جائزة الملك فيصل:
رُشِّح الشيخُ - رحمه الله - لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وحين أُعْلِنَ فوزه بها وحصوله على مبلغ مالي كبير، لم يفكر في استخدام هذا المال في مصالحه الخاصة: كشراء أرض، أو بناء بيت، أو توسعة على الأهل والأولاد، بل كان يحمل هَمَّ الإسلام والمسلمين، ويفكر في وضع المال فيما يعود عليهم بالنفع، فأعلن عند استلامه الجائزة تبرعه بقيمة الجائزة إلى دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، تلك الدار التي تقوم بتعليم أبناء المسلمين الوافدين إليها من شتى أنحاء الأرض السنة النبوية دون مقابل مادي، بل تقوم بالإنفاق على المتعلمين وسدِّ حاجاتهم الضرورية، فكان الشيخ عونًا لها على القيام بمهامها، شاعرًا بقيمة ما تقدمه للإسلام والمسلمين، وهو في ذلك يُقَدِّم مصالح المسلمين على مصلحته الشخصية، فلم يغتر بهذا المبلغ الكبير، أو يبخل به على الإسلام وأهله. [12]
عفيف اللسان والجوارح:
تميز سماحة الشيخ - رحمه الله - بعفة نفسٍ، وتنَزُّهٍ عن الفُحْشِ، سواء كان قوليًّا أو فعليًّا، وترفع عن مجاراة السفهاء والحَمْقَى، فلم يُسْمَع في يومٍ من الأيام يسُبّ أحدًا أو يعيب شيئًا، يقول مدير مكتبه الشيخ محمد الموسى: "لم أسمعه أو أسمع عنه أنه مدح نفسه، أو انتقص أحدًا، أو عاب طعامًا، أو استكثر شيئًا قدَّمه للناس، أو نهر خادمًا". [13]
وكان يقابل الغلظة والشدة التي تظهر من بعض الوافدين إليه بالرفق والعفو، ولين الكلام وحُسن الفِعَال، يقول تلميذه الدكتور حمد الشتوي: "إن عفته في الدنيا كان يصحبها عفة لسانه ومنطقه وقلمه، فلا تراه إلا محوقِلًا أو مُسترجعًا، أو داعيًا بالهداية والصلاح والتوفيق وحسن العاقبة، فما سمعته -بل ما سمعه أحد قط- وهو يجفو في القول، أو يغلظ في الكلام، وإنما يأخذ بالحسنى، فإذا ضاقت الحسنى، وعاند المقابل، ولَجَّ في خطئه، بادر الشيخ بمجملات القول في الرد والمنع والزجر والردع، وقد يطالب الجهات المختصة بإجراء ما يلزم في حقه". [14]
والشيخ في كل ذلك يقتدي بنبينا ﷺ ويتمثَّل هديه في حياته كلها.
وقد دخل عليه أثناء عمله في قضاء الدلم رجلٌ كثير السِّباب، جعل يسُبُّ الشيخَ ويُسيء إليه، والشيخ ساكتٌ لا يرد عليه، يظن مَن رآه أنَّه فقد النُّطق، ولكنها العفَّة التي أسكتته، وطهارة القلب التي منعته من مجاراة السفهاء. [15]
فالشيخ لم يركن إلى الدنيا، ولم ينافس عليها، ولم يسعَ إلى نيل شيءٍ من حُطامها، بل كان يبتعد عنها، ويزهد في كل ما فيها، ولا يسعى إلا فيما يُرضي الله تعالى، فرحمه الله ورضي عنه.
ولقد وعى عقل سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - ذلك، وأدرك مراد الله تعالى من قوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنعام: 32]، فتعلَّق قلبُه بالآخرة، وانشغل بما يقربه من رضا ربه، فكان الشيخ كما وصفه أحدُ تلاميذه: "ليس فيه من صفات أهل الدنيا إلا أنه يعيش بينهم، وإلا فأنت والله ترى رجلًا من أهل الآخرة، قلبه هناك، وفؤاده هناك، يجلس إلى الناس وقلبه في الملأ الأعلى، ويتحدث معك وروحه مع خالقه". [4]
فقد نظر إلى الدنيا نظرة حكيم، وتعامَل معها تعامُل خبير، فرأى كلَّ مُتعها زائلة، فاستعان عليها بالله، وأخذ ما يرضيه سبحانه ولو كان قليلًا، وترك ما يجلب سخطه وغضبه وإن كان محبوبًا إلى النفس.
بيته ومكتبه:
حين تدخل بيت سماحة الشيخ لا تجد فيه شيئًا فخمًا غالي الثمن يجذب الأنظار، وإذا عرَّجت على مكتبه وجدته متواضعًا، لا يليق أبدًا بمكانته الدينية والعلمية والاجتماعية، بل لا يليق بمن دونه في العلم والمنزلة، ولكنه - رحمه الله - آثر ما عند الله، ورضي بالقليل المُوصِل إلى رضاه، حتى إنه حين عرض عليه بعضُ الوجهاء تغيير أثاث بيته في مكة بأحدثَ منه، أَبَى وقال: "لنا في هذا البيت ست عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا؟!"، فلما كثر الإلحاح عليه وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، شكَّل لجنةً من خمسة أشخاصٍ، وقال لهم: "اجتمعوا واكتبوا ما ترونه"، فاجتمعوا وتم إصلاح الأثاث. [5]
ولم يكن بيته في مكة ملكًا له، بل كان مستأجرًا، وحين ترجاه أحد تلاميذه - وهو الشيخ ناصر الزهراني - أن يشتريه لسماحته، رفض - رحمه الله - مؤثرًا صرف الأموال فيما يعود بالنفع على المسلمين. [6]
وعندما وهبت الحكومةُ لسماحة الشيخ قطعة أرضٍ في طريق العزيزية بمكة في موقع متميز، لم يفكر في استغلالها في بناء بيت فخم، أو عمل مشروع تجاري كبير، بل استغلها - رحمه الله - فيما ينفع المسلمين؛ فأقام عليها مسجدًا جامعًا كبيرًا، مؤثرًا مصلحة المسلمين على مصلحته [7]، فيا له من زاهدٍ قلَّما يجود الزمانُ بمثله.
يسأل عن رواتب الفقراء ولا يسأل عن راتبه:
بلغ من زهد الشيخ - رحمه الله - أنه لم يكن يسأل عن راتبه، أو مقداره، أو ينشغل بتأخر صرفه، ويحرص على صرف رواتب الفقراء والمساكين في أوقاتها، ويسأل الشيخ عبدالرحمن بن عتيق - المسؤول المالي لسماحته - عن ذلك؛ ليتأكد بنفسه من وصول الأموال إلى مستحقيها. [8]
يُسْقِط الدَّيْنَ عمَّن اقترض منه:
كان الشيخ - رحمه الله - يُنفق إنفاق مَن لا يخشى الفقر، فيُقْرِض المُعْسِرين، ويفكّ كربَ المكروبين، ويُسارع إلى إغاثة مَن لجأ إليه، ثم لا يسعى إلى استيفاء أمواله منهم، بل مَن أتى وسدَّد دَينه قَبِلَ منه، ومَن ساءتْ أحواله، وتعسَّرتْ أموره؛ بادر إلى إسقاط الدَّيْن عنه، ومن ذلك: إرساله كُتبًا إلى بعض مَن أقرضهم يُخبرهم فيها بإبرائهم من الدَّين قائلًا: "أخشى أن يُفاجئني الأجل، وأُحب أن أخبركم أنني قد سامحتكم، وأبرأتكم، ولم يبق لي عليكم شيء".
وقبل وفاته - رحمه الله - بثلاث سنوات أقرض شخصًا سبعمئة ألف ريال، ثم أرسل إليه يُخبره أنه قد أسقط الدَّين عنه، فتعجب كاتبُه من ذلك، فقال له: "يا ولدي، لا تهمك الدنيا، أنا بلغت من العمر سبعًا وثمانين، ولم أرَ من ربي إلا خيرًا، الدنيا تذهب وتجيء، وفَرْقٌ بين مَن يُتوفَّى وعنده مئة مليون، ومَن يُتوفَّى وليس لديه شيء؛ فالأول ثقيل الحساب والتَّبِعَة، والثاني بعكس ذلك كله". [9]
قصر رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة:
زار الملك فيصل - رحمه الله - سماحة الشيخ في المدينة النبوية بعدما تولى الشيخ رئاسة الجامعة الإسلامية، ورأى الملكُ الحال التي عليها الشيخ، فأمر ببناء قصر للشيخ يتناسب مع مكانته الدينية والعلمية والاجتماعية، فلما تم البناء، وأراد القائمون عليه أن يجعلوا صك القصر باسم الشيخ، رفض - رحمه الله - وفضَّل أن يكون صك القصر باسم رئيس الجامعة الإسلامية؛ ليسكنه كل مَن يتولى هذا المنصب من بعده. [10]
فيا له من زهد تعجز الكلمات عن وصفه، يفر الشيخ من الدنيا ويدفعها عن نفسه ورغم ذلك تأتيه صاغرةً، فكلما دفع شيئًا من زينتها أتاه ما هو أعلى منه محاولًا إغراءَه، ومع ذلك فالشيخ على حاله، لا تُغيره المظاهر الخلابة، أو الزخارف البراقة، فرحمه الله رحمةً واسعةً.
يأخذ جيرانُه جزءًا من أرضه فيرضى:
اشترى الشيخ - رحمه الله - قطعة أرض، وجعل عليها وكيلًا له يقوم بشؤونها، فأتاه وكيله ذات يوم وأخبره أن جيرانه أخذوا جزءًا من أرضه، فقال رحمه الله: عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء؟ فقال الوكيل: أقول: أخذوا من أرضك! فقال: نحن والحال سواء، الباقي سيبارك الله لنا فيه. [11]
هذا مع كون الشيخ كان قادرًا على أخذ حقه كاملًا منهم، فبكلمةٍ واحدةٍ منه لولي الأمر كان يمكن أن يُفْعَل بجيرانه الأفاعيل، لكنه - رحمه الله - كان سمح النفس، فلم تكن الدنيا عنده تساوي شيئًا، أو تستحق أن يحزن المرء على ما فاته منها، فليأخذ منها مَن شاء ما شاء، فالشيخ - رحمه الله - جعل الدار الآخرة وجهته، ويَمَّم نحوها قصده، وحرص على عدم المنافسة على الدنيا.
جائزة الملك فيصل:
رُشِّح الشيخُ - رحمه الله - لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وحين أُعْلِنَ فوزه بها وحصوله على مبلغ مالي كبير، لم يفكر في استخدام هذا المال في مصالحه الخاصة: كشراء أرض، أو بناء بيت، أو توسعة على الأهل والأولاد، بل كان يحمل هَمَّ الإسلام والمسلمين، ويفكر في وضع المال فيما يعود عليهم بالنفع، فأعلن عند استلامه الجائزة تبرعه بقيمة الجائزة إلى دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، تلك الدار التي تقوم بتعليم أبناء المسلمين الوافدين إليها من شتى أنحاء الأرض السنة النبوية دون مقابل مادي، بل تقوم بالإنفاق على المتعلمين وسدِّ حاجاتهم الضرورية، فكان الشيخ عونًا لها على القيام بمهامها، شاعرًا بقيمة ما تقدمه للإسلام والمسلمين، وهو في ذلك يُقَدِّم مصالح المسلمين على مصلحته الشخصية، فلم يغتر بهذا المبلغ الكبير، أو يبخل به على الإسلام وأهله. [12]
عفيف اللسان والجوارح:
تميز سماحة الشيخ - رحمه الله - بعفة نفسٍ، وتنَزُّهٍ عن الفُحْشِ، سواء كان قوليًّا أو فعليًّا، وترفع عن مجاراة السفهاء والحَمْقَى، فلم يُسْمَع في يومٍ من الأيام يسُبّ أحدًا أو يعيب شيئًا، يقول مدير مكتبه الشيخ محمد الموسى: "لم أسمعه أو أسمع عنه أنه مدح نفسه، أو انتقص أحدًا، أو عاب طعامًا، أو استكثر شيئًا قدَّمه للناس، أو نهر خادمًا". [13]
وكان يقابل الغلظة والشدة التي تظهر من بعض الوافدين إليه بالرفق والعفو، ولين الكلام وحُسن الفِعَال، يقول تلميذه الدكتور حمد الشتوي: "إن عفته في الدنيا كان يصحبها عفة لسانه ومنطقه وقلمه، فلا تراه إلا محوقِلًا أو مُسترجعًا، أو داعيًا بالهداية والصلاح والتوفيق وحسن العاقبة، فما سمعته -بل ما سمعه أحد قط- وهو يجفو في القول، أو يغلظ في الكلام، وإنما يأخذ بالحسنى، فإذا ضاقت الحسنى، وعاند المقابل، ولَجَّ في خطئه، بادر الشيخ بمجملات القول في الرد والمنع والزجر والردع، وقد يطالب الجهات المختصة بإجراء ما يلزم في حقه". [14]
والشيخ في كل ذلك يقتدي بنبينا ﷺ ويتمثَّل هديه في حياته كلها.
وقد دخل عليه أثناء عمله في قضاء الدلم رجلٌ كثير السِّباب، جعل يسُبُّ الشيخَ ويُسيء إليه، والشيخ ساكتٌ لا يرد عليه، يظن مَن رآه أنَّه فقد النُّطق، ولكنها العفَّة التي أسكتته، وطهارة القلب التي منعته من مجاراة السفهاء. [15]
فالشيخ لم يركن إلى الدنيا، ولم ينافس عليها، ولم يسعَ إلى نيل شيءٍ من حُطامها، بل كان يبتعد عنها، ويزهد في كل ما فيها، ولا يسعى إلا فيما يُرضي الله تعالى، فرحمه الله ورضي عنه.
- رواه ابن ماجه (4102)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (944).
- رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053).
- رواه مسلم (2721).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (74).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد الموسى (133)، وإمام العصر، لناصر الزهراني (82).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (75).
- الإبريزية في التسعين البازية، لحمد الشتوي (33).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد الموسى (154)، وإمام العصر، لناصر الزهراني (74).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد الموسى (155).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (82).
- الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن بن يوسف الرحمة (177،176).
- إمام العصر، لناصر الزهراني (75-81).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية الشيخ محمد الموسى (40).
- الإبريزية في التسعين البازية، لحمد الشتوي (34،33).
- ينظر: ابن باز في الدلم قاضيًا ومعلمًا، لعبدالعزيز بن ناصر البراك (33).