ورقة من سفر الخلود

للدكتور ناصر بن مسفر الزهراني
يا أمة غاب عنها بدرها الساري وجف من أرضها سلسالها الجاري
طاشت عقول بانيها من فجيعتها بحادث يلهب الأحشاء بالنار
من هوله بِتُّ كالمطعون في كبدي بصارم مفعم بالسم يتار
هل مات من عاش نورًا نستضيء به في مدلج الأمر من هم وأخطار
هل مات من نرتوي من عذب مورده صفوًا من العلم فيضًا دون إقتار
هل مات من ألبس التوحيد حلته وهَبَّ للشرك تمزيقًا لأستار
هل مات من عاش سيفًا باترًا بترت صولاته كل تخريف لمهذار
هل مات من نرتجي في صدق وثبته كبتاً لأصوات أعداءٍ وأشرار
هل مات من عطر الدنيا بسيرته ومسعد الضيف والملهوف والجار
هل مات من يكفل الأيتام هل فقدوا حنان كفٍّ لطيف اللمس مدرار
وباذل الجاه والأموال ما بخلت يمناه عن رِفْدِ قُصَّادٍ وزوار
ومن تأبَّى على الدنيا وزينتها وللمحبين منه صدق إيثار
هل غاب عنا نمير العلم في زمن تشكو البريّات فيه قحْطَ آبار
سفينة العلم تبكي موت قائدها وتشتكي هول إدلاجٍ وإبحار
عبد العزيز بن بازٍ نغمةٌ نُقِشت في كل قلبٍ وفي أعماق أخيار
هل من محبٍّ لدين الله ما ذرِفت عيناه في كل أرجاءٍ وأمصار
كل الإذاعات تشدو بالثناء له وكم يُرى عبر شاشاتٍ وأقمار
واسودت الصفحات البيض ناطقةً بفضله بين منثورٍ وأشعار
ودوّنت فيه أقلام الورى دُرراً تبدي أفانين إجلالٍ ومقدار
أنت البصير ولكن الفؤاد يرى ويبصر الحق صفواً دون أكدار
أسديت للأمة الغرّاء ما عجزت عنه الملايين من أرباب أبصار
حب لنشر الهدى والخير في جلدٍ وهمة تبلغ الجوزا وإصرار
في كل صِقْعٍ له صوت وداعية عبيرُ أنفاسه في أُفْقِها ساري
لقصة العلم والتوحيد أودية سلسالها في ربى أرجائنا جاري
مواعظ كرحيق الشهد شافية تنير أعماق مهمومٍ ومحتار
وحسن قصد لما يأتيه من عمل أو دعوة واهتمامات وأوطار
لطف وعطف ورفق بالبرية لا يشوبه شؤم تعنيف وإضرار
لكن إذا حرمةٌ من دينه انتُهِكَت رأيت في الذبِّ عنها وثبة الضاري
مُبَجَّلٌ عند كل الناس محترمٌ مقدَّرٌ في بواديهم وحضار
وكم له الفضل بعد الله في مِنَنٍ من وابل النفع أو من دفع أضرار
مساجدٌ ورباطات وأندية ودور علم بكت من هم إقفار
تبكي الليالي التي قد كان يسعدها أزيزُ صدرك في ساعات أسحار
يبكي مصلاك والذكر الحكيم لما عمرتَ منه الليالي خير إعمار
يبكي الصحيحان والمغني لما فقدوا من حسن وصل وتقدير وتكرار
يبكي الرياضان والتفسير منتحب والفتح يبكي ويبكي نيل أوطار
يا قبر ويحك هل واريت مَنْ عُمِرَت به قلوبٌ لأبرارٍ وأطهار
واريت يا قبر من أحيا ضمائرنا بفيض علم نقيِّ النبع زخّار
يا قبر واريت جيلاً عاش في رجلٍ ذي مبدأ مشرق الأصداء سيّار
من بعد أن كان للدنيا بأكملها طويته فجأة في بعض أشبار
كم بقعةٍ تشتهي لو أنها سكنٌ دافٍ لذاك الإمام الخاشع القاري
يا قلب كم فيك من همٍّ ومن أَرَقٍ ومن ظلام كثيف بعد أنوار
تحطمت عزمات الأنس في لغتي وأجهشت بالبكاء المرِّ أغواري
لو أن لي حيلة بالموت ما طَمِعَتْ عيناي في النوم قبل الأخذ بالثأر
لكنه أمر مولانا وقدرته ونحن نرضى بما يرضى لنا الباري
حملت جثمانه الزاكي على كتفي وكنت أطمع لو أن طال مشواري
نثرت سيل دموعي فوق تربته ومضرم الحزن يكويني بإسعار
واريته في فؤادي قبل مدفنه بعثته في دمي في عمق أوتاري
روائع من صفات الطهر زاكية تظل تُروى لأجيال وأدهار
إن غبت يا شيخنا جسماً فما برحت ذكراك تحيا معي في كل أطواري
أراك في كل حرف حين أقرؤه من سنة أو كتاب أو بآثار
أراك في الركن في البيت العتيق وفي بياض إحرام حجاج وعمار
أراك في زمزم في الخيف في طرق إلى المشاعر في إطلالة الغار
أراك في الحج في شهر الصيام وفي القيام ليلاً وإمساك وإفطار
أراك في دمعة الأيتام في لغة مكلومة من ذوي فقر وإعسار
أراك في كل من يرجو لكربته كشفا وفي كل محزون ومحتار
أراك في كل من يبغي لمسألة فتوى وفي كل توجيه وإنكار
أراك حين احتدام الأمر حين يرى وجه الحوادث والأيام كالقاري
أراك حين انغلاق الفهم في عقد من المسائل أو في فهم أسرار
أراك في مجلس الفتوى وفي حلق للعلم قد غاب عنها نجمك الساري
أراك في كل منثور وقافية أراك في دارك الثكلى وفي داري
أراك في مسجدي في كل ما نظرت عيناي يبدو أمامي طيف تذكار
إن كان غيري له في ذكركم طرف يزهو به من تراتيل وأخبار
فما له مثل مالي من محبتكم وقربكم بين إعلان وإسرار
أنا الذي صغت ألوان القريض وما فتنت أشدو بها في كل مضمار
نظمت أزكى فنون القول في زمن غيري يغني لأحباب وسفار
بازية الدهر من أقوى الشهود على سبقي وصدقي وإجلالي وإكباري
من قام يشدو يمدح في سماحته يأبى وينكر هذا أي إنكار
إلا إن كان يوليني رعايته ولا يصادر أشعاري وأفكاري
وحين أصدح بالرنان من خطبي يدعو ويثني بلفظ منه معطار
يدري بأني محب مرهف ثمل وكان بالمنطوى في خافقي دار
أنا لاذي عشت في أعماق سيرته وجلهم كان في بيداء مقفار
بذلت حبي وأوزاني وقافيتي وسوف أحيا وفياً دون إخفار
إذا تسطر بالأحبار قافية فإنني من دمي سطرت أشعاري
وليس من ينظم الدر البديع كمن أتى بألفاظه من نحت أحجار
لا يستوي الذهب الإبريز أسكبه بما يصوغون من طين وفخار
إذا انتقوا من بنات الفكر ثيبها فإن ألفاظ شعري طهر أبكار
آتي بها مثل ضوء البدر مزهرة رفيعة الذوق مسعاداً لنظاري
وإن بكوا ساعة ثم انقضى أثر فإن دمعي سيبقى دائماً جاري
ولو سقوني من الأنهار أجمعها لن تنطفي من فؤادي جذوة النار
ما كان حبي لكم زعما أردده عن البراهين في تصديقه عار
بل كان حبًا نقيًا رائعًا شهدت بصدقه خير أصداء وآثار
عذبًا فراتًا هنيئًا سائغًا غدقًا ربيت روابيه من ورد وأزهار
وعشت أقبس نورًا من هدايتكم وأقتفي سيركم في كل مضمار
تعلمت راحتي بذل الجميل وكم زكا فؤادي بتوجيه وتذكار
وبددت ظلمات الدرب وانقشعت كل الغشاوات عن قلبي وإنظاري
وفزت بالمنهج الأسمى فلذت به ولم يعد يغتوبني أي تيار
نهج النبوة ما أزكى مشاربه جنيت بالسير فيه حلو أثمار
غمرتني بالرضا والحب وازدهرت روحي برياك في ورد وإصدار
نهلت من نهرك الرقراق في نهم وفزت من كل إعسار بإيسار
ولو كتبت بدمع العين ملحمة في الشيخ اتبعت ما أروي بأعذار
من ذا يوفي إمام الجيل منزله وكل ما قيل فيه عشر معشار
من يرتقي لسهيل في منازله ومن يقابل إغزارًا بإنزار
عشنا مع العلم والإيمان في ظلل من السماحة في جهر وإضمار
وكم نسجنا من الآمال أردية غدت ضحية أيام واقدار
وكم ظفرنا أكاليلًا موردة فاجتنها من ربانا هول إعصار
كم خيم الألم الفتاك في جسد وحلولكت من دروب بعد أسفار
يا من يباهي بحب الشيخ هل جمعت قواك للسير في منهاج أبرار
وهل تعلمت منه في تألقه عن حماة الذنب أو لوثات أوزار
أم أنت تبكي كما تبكي العجوز بلا بذل وفضل وتحيا خلف أستار
فانهض لرفعة دين الله مقتديًا به فقد كان يحذو حذو مختار
تأس بالمصطفى الهادي وصحبته وانظر لأخبار خباب وعمار
نستودع الله من عشنا نبجله ويا إمام الهدى في ذمة الباري
رحلت عن هذه الدنيا التي لعبت بنا إلى جود رحمن وغفار
يا رب يا من له تشدو ضمائرنا ويا مقدر آجال وأعمار
ومن إذا ضاقت الدنيا بما رحبت نلوذ منه بركن غير منهار
اخلف على أمة الإسلام في علم علامة طيب الآثار مغوار
ولم نجد في البرايا من يصارعه علمًا وجلمًا وجودًا منذ إعصار
واجعل جنان الرضا والخلد منزله ما بين حور وولدان وأنهار[1]
  1. إمام العصر لناصر بن مسفر الزهراني (15).