وداعًا إمام السنة
للشيخ عائض بن عبدالله القرني
يا موت ما لك يا غريب الشانِ | تلج البيوت بغير ما استئذانِ |
خذ ما تشأ من هذه الجثث التي | أزرت بهذا العالم الفتان |
خذ هذه الأعداد كالأصفار | في حلم البغال وفطنة الثيران |
الكافرين بربهم ونبيهم | من عابد الأوثان والصلبان |
وخذ البخيل جزيت خيرًا إنه | سقمٌ على الأرواح والأبدان |
اقصم بسيفك كل نذلٍ جاهلٍ | متفيهق متنطع متوان |
أأخذت منا الباز أفضل جيلنا | وتركت جمع البوم والغربان |
أعني بهم أهل الضلال والهوى | التابعي الأحبار والرهبان |
أقصدت أفضل من رأته عيوننا | ممن عرفنا من بني الإنسان |
العالم اليقظ الفقيه بدينه | النابه المفتي السديد الباني |
ودعته ودموع عيني ثرة | وتركته والقلب في خفقان |
وأكذب والأخبار عند وفاته | حتى دهانا صادق الرهبان |
عافت عيوني النوم فهي سقيمة | فكأنها خلقت بلا أجفان |
وكأن قلبي مرجل وهمومه | موارة بالهَمّ والغليان |
وأكفكف العبرات وهن سوابق | وأنهنه الزفرات وهن دواني |
ليت القلوب هي القبور وقبره | في كل قلب عامر الإيمان |
لو أن هذا الموت يقبل فدية | حسن الفدا بالشيب والشبان |
لو أن ماء مغسليه دموعنا | جدنا بها لمطيب الأردان |
فُجِعت الدنيا فكل مدينة | تبكي على الإسلام والقرآن |
يوم الجنائز أنت أكبر شاهد | للمفتري والعالم الرباني |
تروي جنازتكم جنازة أحمد | أعني ابن حنبل أو فتى حرَّان |
نمشي وراء إمامنا وكأنه | نور يشق غلائل البهتان |
صرنا يتامى بعده وبيوتنا | مفجوعة برزية الفقدان |
الله للأيتام بعد إمامنا | الله للإخوان والجيران |
الله للسفهاء يصلح شأنهم | بعد البصير محارب الطغيان |
وهو الخليفة في الأرامل إثره | ولقاصد الإكرام والضيفان |
إن قام سوق العلم فهو كمالك | أو مد باع الزهد فالشيباني |
أو غاص في التفسير قلت مجاهد | والفقه والتعليم كالنعمان |
وإذا زاحمت الوفود فحاتم | وكأحنف في الحلم والغفران |
ذكرتنا بابن المبارك يا أبي | في جميع أوصاف وحسن معان |
وأهنت هذا المال في سبل العلا | هذا سخاء موحد الرحمان |
لم تتخذ إلا منازل زاهد | باع الحياة بأربح الأثمان |
وشربت بالأخلاق أوسمة الهدى | بالصدق في الإسرار والإعلان |
جمع المكارم كلها فكأنه | جبل عظيم ثابت الأركان |
نأتيك والآمال تقطع دوننا | فتعيدنا بالأمن والإيمان |
نأتيك والأحزان تغمر جونا | فنعود بالبشرى بلا أحزان |
فكأنك الشهد المصفى باردًا | أو كالنسيم هفا على الأغصان |
وأرق من دمع المحب معاتبًا | حتى يتوب من الذنوب الجاني |
لم تجرح الأعراض لم تؤذ الورى | لم ترم بالألفاظ في هيجان |
بل كنت أرأف من طبيب حاذق | صافي المودة عادل الميزان |
قاموسك الطهر البريء ومنطق | مثل الزلال على فم الظمآن |
وتظل في ذكر المهيمن سابحًا | تاج السكينة فوق رأسك داني |
لم تلهك الدنيا ولو أحببتها | جاءتك في حلل وفي تيجان |
لكن عزفت فكنت أكبر زاهد | في عصرنا زاهدًا مع الإمكان |
وصبرت صبرًا نلت منه ولاية | فحُمدت يا شيخي بكل لسان |
وعففت من شتم الرجال تكرمًا | يا أبيض المضمون والعنوان |
وإذا رددت على غبيٍّ جاهل | لاطفته بعبارة وحنان |
حتى يعود إلى رحابك تائبًا | حم الحيا والسمت كالخجلان |
مترفقًا بالمعرضين ومشفقًا | فكأن عدلك شوكة الميزان |
تنسى إساءات الأنام تفضلًا | متذكرًا ما كان من إحسان |
فبهذه وبغيرها حق البكا | لو أن جفني فيك جرح قاني |
ولهذه ارتجت لك الدنيا فيا | هول المصاب كهزة البركان |
وبكاك كل موحد متسنن | ورثاك كل مناضل شجعان |
جرح الجزيرة من فراقك نازف | والرزء من دكَّا إلى تطوان |
واشتد في مصر العويل وطنجة | وكتائب الأفغان والشيشان |
والمسلمون مصابهم بك واحد | في كل بيت ضاق بالحدثان |
أبكيك ثم أقول يا نفس اصبري | مات الرسول المصطفي العدناني |
أرتاع في نومي لذكر فراقكم | فأظل مثل الطير في الرجفان |
وسماع صوتك بعد موتك زاد في | هم الفراق وشبَّ في وجداني |
وإذا لقيت الناس عزوني بكم | فإذا العزاء هم لمصابٍ ثاني |
ولموتكم يا شيخ أعظم عندنا | من قس في التذكير أو سحبان |
أبكيتنا حيَّا بحسن حديثكم | وزجرتنا ميتًا عن العصيان |
صغرت في عيني كل كبيرة | وزهدت بعدك في الحطام الفاني |
وسألت نفسي الصبر بعدك فانثنت | من غير ما صبر ولا سلوان |
ناشدتها بالله أن تسترجعي | أن البقاء لخالق الأكوان |
فتحاملت وتماسكت بجوفها | لهب من الأحزان والأشجان |
لله درك من إمام بارع | يا أمة في العلم والإتقان |
فجزاك ربك خير ما جازى امرءًا | نصر الشريعة طيلة الأزمان |
وحباك تاج الفوز دار الرضا | ودخلت في أنس من الريان |
وشربت من كأس يفيض رحيقه | بالمسك في روح وفي ريحان |
في مقعد الصدق الذي جاءت به | آي الكتاب ومحكم الفرقان |
ورأيت ربك في جنان نعيمه | وأجل فوز رؤية الرحمن |
يا رب اهد لنا ولاة أمورنا | وأصلح بطانتهم مع الأعوان |
انصر بهم دين النبي محمد | والأمن والإيمان في الأوطان |
إني مع السلف الكرام ودينهم | ديني ومورد عذبهم أوراني |
أقفو طريقتهم ونهجي نهجهم | وعلى علومهم قبضت بناني |
فاضت من القرني وهي فريدة | منسوجة الأردان من حسان |
وصلاة ربي والسلام مرتل | للمصطفى والصحب والإخوان[1] |
- الإنجاز في ترجمة ابن باز لعبد الرحمن بن يوسف الرحمه، (484).