العوامل التي ساعدت على تكوينه الفكري والثقافي

أولاُ: الاستعداد الشخصي من ذكاء ونباهة وقوة حافظة:
 تميّز الشيخ - رحمه الله - بقوة الحافظة، وسرعة البديهة، واستحضار مسائل العلم بفهم واسع، ووفرة في العلم، وشدة في الذكاء، وغزارة في المادة العلمية، فهو صاحب ألمعية نادرة، ونجابة ظاهرة، وهذا أمر متواتر ومشهور عن الشيخ.
فلقد كانت نعمة الحفظ، وقوة الذاكرة، من الأسباب القوية - بعد توفيق الله  - على تمكنه من طلبه للعلم، وازدياد ثروته العلمية والفكرية والثقافية. [1]
 
 ثانيًا: حياته الطويلة المباركة:
 حيث عاش قرابة تسعين سنة، وهذا له أثر لا ينكر في اطلاع الشيخ على كثير جدًا من الأحداث والأخبار العالمية، والاستفادة من كل ذلك في بناء شخصيته الثقافية والفكرية. [2]
 
ثالثًا: معاصرته لتكوّن عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية:
 لقد عاصر الشيخ في حياته الطويلة المباركة تكوّن عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية داخل البلاد وخارجها، واختلط بأفرادها وقادتها، وصار عنده تصور واضح - تقريبًا - لأهدافها وطرائق عملها، وكل ذلك طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع متنوع مهم، خاصة أن بعض هذه الحركات قد اشتهر بعنايته الكبيرة بالثقافة والفكر. [3]

رابعًا: معاصرته انتشار حركات ومذاهب هدامة:
 مثل الشيوعية، والبعثية، والقومية العربية الغالية، والناصرية، وهذا لا شك أنه طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع ما، وأتاح له الاطلاع على جوانب كثيرة من منهاج تلك الحركات البائدة حينما كانت متغلغلة سائدة. [4]
 
خامسًا: الصلات المتميزة بقادة المجاهدين في عصره في العالم الإسلامي:
 ما من حركة جهادية حقيقية كانت أيام حياته - رحمه الله - إلا وللشيخ صلة ما بها، ومن الأمثلة على ذلك:
 الصلات المتميزة بالمجاهدين الأفغان يوم كانوا يجاهدون الروس، وقد كان يرسل لهم الرسائل ويوجههم، ويحث أئمة البلاد على القنوت والدعاء لهم، وقد حاول إصلاح الخلاف بين الشيخ جميل الرحمن - رحمه الله - وبين سائر مشايخ الجهاد، وله جهود مشكورة في هذا الباب. [5]
وهذه رسالة أرسلها في ذلك الوقت إلى قادة الجهاد في أفغانستان عندما دب الخلاف بينهم، فقد أرسل لكل واحد من القادة رسالة خاصة تحمل اسم القائد وحده.
وقد صدَّر كل رسالة بقوله:
"من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى فضيلة الشيخ برهان الدين رباني.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى فضيلة الشيخ جميل الرحمن.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى فضيلة الشيخ عبدرب الرسول سياف.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى فضيلة الشيخ قلب الدين حكمتيار.
ثم يقول: بعد ذلك:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد
فلقد كنت حريصًا على متابعة جهادكم وإخوانكم في أفغانستان، وانتصاراتكم المتتابعة على قوى الظلم والكفر والاستعباد، وعلى بذل النصيحة لكم جميعاً، والدعاء للجميع بالنصر والتأييد، وعلى دعوة المسلمين في المملكة العربية السعودية وغيرها لمد المجاهدين والمهاجرين بالعون كل بحسب قدرته....". [6]
وهذا يدل على متابعة المجاهدين وتتبع أخبارهم والتواصل بهم، مما كان له أثر كبير في نمو فكره وسعة أفقه.
 
سادسًا: الرسائل الكثيرة التي كانت تأتيه من العالم الإسلامي:
قد كانت رسائل كثيرة ترد على الشيخ من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وتعرفه بكثير من الأوضاع، وتنقل إليه مآسي المسلمين ومشكلاتهم، وهذا مما أثرى فكر الشيخ وعمّق فهمه وثقافته الإسلامية، فإن علمنا أن الشيخ شارك في حل عدد من تلك المشكلات وخفف من شدتها على الناس تيقنا أن الشيخ انتقل بالفكر والثقافة من طور المعرفة إلى طور العمل، وهذه هي الثمرة المطلوبة من المعرفة الفكرية والثقافية. [7]
 
سابعًا: خلطته مع عدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين:
 كان للشيخ - رحمه الله - صلة جيدة بعدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين داخل البلاد من السعوديين وغير السعوديين، ومن تلك الصلات على سبيل المثال:
 1- صلته بعدد من الدعاة والمفكرين والمثقفين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ الثمانينيات الهجرية - أي الستينيات الميلادية - وكان هؤلاء موضع ثقته وتقديره.
 يقول الشيخ الفاضل الدكتور عبدالله القادري الأهدل - وهو ممن عاش في المدينة منذ سنة 1382 للهجرة، وكان له صلة جيدة بالشيخ ابن باز في الجامعة الإسلامية - أن الشيخ عبدالعزيز بن باز كانت له صلات جيدة مع بعض الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين وفدوا للبلاد في حقبة الثمانينيات الهجرية، وعاشوا في المدينة المنورة النبوية، ومنهم الشيخ سعيد حوى، والشيخ محمد الوكيل رحمهما الله تعالى، والأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات، وهؤلاء تركوا بصماتهم على فكر الشيخ وثقافته.
 2- كان للشيخ مجلس أسبوعي في الرياض يضم نخبة من الدعاة والمثقفين والمفكرين السعوديين الذين كانوا يطلعونه على كثير من القضايا، ويستشيرونه فيها، ويرجعون إلى رأيه تارةً ويرجع إلى رأيهم تارة أخرى.  
 وهذه الخلطة ساهمت بلا شك في صياغة فكر الشيخ وثقافته. [8]
 
ثامنًا: الوفود التي تفد عليه في المواسم وغيرها:
 كانت وفود من العلماء والدعاة والمثقفين والمفكرين ترد على الشيخ في المواسم في مكة، وفي الصيف في الطائف، وسائر السنة في الرياض، وكانت هذه الوفود تحمل معها همًّا متنوعًا وقضايا كثيرة ساهمت في تبيان كثير من الأمور للشيخ، وتعريفه بها، وأوقفته على عدد من الحقائق الفكرية والثقافية في شتى أنحاء العالم الإسلامي.
 قال الدكتور الشيخ عبدالله القادري الذي كان مسؤولًا عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية أن الجامعة - يوم كان الشيخ ابن باز نائبًا لرئيسها ثم رئيسًا لها - كانت ملتقى لكبار مشايخ العالم الإسلامي ومفكريه وسياسيه يوم كانوا يزورون المدينة، وكان الشيخ يستقبلهم جميعًا تقريبًا، ويتذاكر معهم أحوال العالم الإسلامي، ويحتفي بهم.
فمن المشايخ الذين وفدوا على الجامعة:
الشيخ أبو الأعلى المودودي، وكان عضو المجلس الأعلى للجامعة.
الشيخ أبو الحسن الندوي، ومحمود فايد من الجمعية الشرعية بمصر، رحمهم الله جميعًا.
الشيخ عبدالمجيد الزنداني حفظه الله تعالى.
ومن الساسة:
- الشيخ عبدالله بن حسن الأحمر من اليمن، وكان رئيس مجلس النواب اليمني.
- والدكتور محمد ناصر من إندونيسيا، وكان الشيخ يثني عليه.
- وأحمدو بيللو من نيجيريا، وهو عضو المجلس الأعلى للجامعة.
ووفود مثل هؤلاء على الشيخ واختلاطه بهم مما يثري ثقافته ويعمّق فكره. [9]
 
تاسعًا: خلطته مع الطلاب في الجامعة الإسلامية:
 وهذه الخلطة لها قصة على النحو التالي:
 كان للشيخ - رحمه الله - يد طولى في الحفاظ على الطلاب الذين كانوا يدرسون في المدينة آنذاك، وكان في الوقت نفسه يستمع لمشكلات بلادهم، فقد أخبر الشيخ الفاضل د.عبدالله القادري أن الشيخ عينه مسؤولًا عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية، وجاء الشيخ عبدالله الأحمر - رحمه الله - والشيخ عبدالمجيد الزنداني - حفظه الله - إلى الشيخ ومعهما عدد من مشايخ قبائل اليمن، وطلبوا من الشيخ العناية بالطلاب اليمنيين؛ لأن الشيوعية والقومية كانت منتشرة في اليمن آنذاك - الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية - فطلب الشيخ ابن باز من الشيخ القادري أن يشرف على الطلاب اليمنيين، وأن يجمعهم له كل أسبوع في دار الحديث بالمدينة حتى يوجههم، فكان ذلك، وكان بعض المشايخ يتحدثون مع الطلاب اليمنيين مثل الشيخ عبدالمجيد الزنداني، فكان الشيخ يحضر محاضراتهم ويعلق عليها بكلمة مختصرة.
وكان للشيخ منهج لطيف مع الطلاب اليمنيين، حيث كان الطلاب من مناطق مختلفة من اليمن، فكان يقوم أحدهم كل أسبوع ليتحدث عن مشكلة في بلده، سواء أكانت من قبل الشيوعيين، أو القوميين الناصريين، أو الصوفيين الغالين إلخ ... ويسمع الشيخ ويعلق، فهذا الأمر سمح للشيخ بالاطلاع على مشكلات اليمن آنذاك.
وهذا أيضًا كان يجري مع مجموعات الطلاب الأخرى، إذ كان الشيخ عبدالله القادري يجمع له مجموعات أخرى من الطلبة كلّ بحسب بلده، فهناك مجموعات للطلبة الهنود، وأخرى للباكستانيين، وثالثة لشرق أفريقيا، ورابعة لغربها، وخامسة لشمالها، وهكذا، وكان الطلاب يذكرون مشكلاتهم للشيخ ويتباحث معهم في كيفية حلها.             
وكل هذا أورث الشيخ علمًا واسعًا عن العالم الإسلامي: أحواله ومشكلاته، وهذا لا شك ساعد في البناء الفكري والثقافي للشيخ، ومكّنه من معرفه أحوال كثير من مناطق العالم الإسلامي في ذلك الوقت الذي كان فيه الإعلام عمومًا والإسلامي منه خصوصًا ضعيفًا. [10]
 
عاشرًا: ما كان يُقرأ عليه من الكتب الفكرية والثقافية:
 قد قُرِئ على الشيخ - رحمه الله - عدد من الكتب الفكرية والثقافية المهمة، ومن الأمثلة على ذلك أنه قُرِئ عليه كتاب (رسائل الإمام البنا) وهو كتاب فكري ثقافي دعوي، وهذا الشيخ محمد الموسى - ملازم الشيخ ومعاونه - يقول:
"ربما طلب هو بعض الكتب لبعض المعاصرين لقراءتها إذا دعت الحاجة لذلك.
وأذكر أنه لما كثر الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين وكبارهم، قال لي سماحته: كنت أرغب في قراءة كتبهم، والاطلاع عليها، ثم أمرني بإحضار جملة منها وقال: أحضر لي رسائل الشيخ حسن البنا - رحمه الله - فأحضرتها، وشرعت في قراءتها؛ حتى إنني قرأت عليه منه ما يزيد على مئتي صفحة، وهي على هيئة رسائل، وكلما قرأت رسالة عليه كتب عليها تعليقًا يسيرًا بعد قراءته لها، وربما لم يكتب أي ملاحظة، وربما أبدى إعجابه ببعضها". [11]
وقرأ - رحمه الله - أيضا كتبًا للشيخ أبي الحسن الندوي، والشيخ محمد الغزالي، رحمهما الله تعالى، وهما من الدعاة المعاصرين والمشهورين بسعة الثقافة والعلم وجودة الفكر، وقد استشهد بكلامهما في مواضع من كتابه (نقد القومية العربية).
ومن ذلك قوله رحمه الله: "ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ: محمد الغزالي تتعلق بالقومية قد أجاد فيها وأفاد، حيث قال في كتابه: (مع الله) صفحة 254 ما نصه:
"لا مكان للإلحاد بيننا
ما هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا عربًا ولا عجمًا ولا روس ولا أمريكان!! إنهم مسخ غريب الأطوار صفيق الصياح، بليت به هذه البلاد إثر ما وضعه الاستعمار بها وترك بذوره في مشاعرها وأفكارها، فهم - كما جاء في الحديث - من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا[12]، بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا وعبء على كفاحنا ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه...". [13]
وقوله رحمه الله: "ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة والرسالة، وإلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، وعن أقوى شخصية ظهرت في العالم، وعن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم والأفراد والأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، وإنها حركة هدم وتخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، وإنها خطوة حاسمة مشؤومة، في سبيل الدمار القومي والانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي الحسني الكبير الذي قد سبر أحوال العالم وعرف نتائج الدعوة إلى القوميات وسوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب والمسلمون اليوم، من فتنة كبرى ومصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشؤومة، وقى الله المسلمين شرها، ووفق العرب وجميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب". [14]
 
الحادي عشر: متابعته للأخبار وأحوال المسلمين إما عن طريق الإذاعة أو الصحف:
كان الشيخ - رحمه الله - كثير المتابعة للأخبار إما عبر الإذاعة أو الصحف، بل كان يصله تقرير كل يوم من وكالة الأنباء السعودية، ويقرأ عليه.
يقول مدير مكتبه محمد الموسى في برنامج الشيخ اليومي: "وكثيرًا ما كان يستمع إلى أخبار الثانية والنصف ظهرًا عبر المذياع وهو في الطريق إلى منزله". [15]
ويقول: " فبمجرد ركوبه [أي سماحة الشيخ] السيارة وذكره لدعاء السفر، يلتفت إلى من بجانبه من الكُتَّاب، ويقول له: ما معك؟ فيبدأ بسماع أخبار الصحف". [16]
ولا شك أن متابعة الأخبار المستمرة ومعرفة ما يجري في العالم من أحداث له أثر كبير على فكر الإنسان وثقافته.
  كانت هذه أهم العوامل التي ساعدت في تكوين شخصية سماحته الفكرية والثقافية، التي اجتمعت فيه ولم تتيسر لأكثر علماء هذا العصر، والله أعلم.
  1. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 17).
  2. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 17).
  3. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 18).
  4. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 18).
  5. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 18).
  6. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، لمحمد الموسى (ص 322).
  7. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 19).
  8. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 19-20).
  9. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 20).
  10. انظر: شخصية الشيخ ابن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 22-24).
  11. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، لمحمد الموسى (ص 263).
  12. رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847).
  13. مجموع فتاوى ابن باز (308/1).
  14. مجموع فتاوى ابن باز (288/1-289).
  15. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، لمحمد الموسى (ص 62).
  16. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، لمحمد الموسى (ص 170).