إسهاماته الفكرية والثقافية
هناك صور لمشاركة الشيخ الثقافية والفكرية في حياة الأمة الإسلامية، وهي صور دالة على أن حياته الطويلة لم تكن لتخلو منهما كما يزعم الزاعمون، فمن ذلك [1]:
1 ـ تأليفه بعض الرسائل الدالة على مشاركة فكرية وثقافية، فمن ذلك:
أ - "نقد القومية العربية":
وهي رسالة مهمة، يظهر فيها مدى تغلغل القومية العربية في بلاد الإسلام العربية آنذاك - وقد ألفها في الثمانينيات الهجرية - وفي هذه الرسالة تظهر مشاركة الشيخ في الجوانب الفكرية والثقافية، فمن ذلك قوله:
"فمن خبر أحوال القوميين وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم عرف أن غرض كثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طربًا، ويساعد على وجودها ورفع مستواها، وإن تظاهر بخلاف ذلك تغريرًا للعرب عن دينهم، وتشجيعًا لهم على الاشتغال بقوميتهم والدعوة إليها، والإعراض عن دينهم...". [2]
ثم قال - رحمه الله: "وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم فاعلم أن هذه الدعوة - أعني الدعوة إلى القومية العربية - أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب وأعداء الإسلام واغترّ بها كثير من الأغمار ومَن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان...". [3]
وقال - رحمه الله: "هذه الفكرة - أعني الدعوة إلى القومية العربية - وردت إلينا من أعدائنا الغربيين وكادوا بها المسلمين، ويقصدون بها من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريغ شملهم على قاعدتهم المشؤومة (فَرِّق تَسُد) وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون.
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية - ومنهم مؤلف الموسوعة العربية - أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عُقد لها أول مؤتمر في باريس وذلك عام 1910م، وكثرت بسب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سوريا في ذلك الوقت إلى آخر ما ذكروا...". [4]
ثم نقل نقولا ًمهمة تتعلق بالقومية عن عدد من الدعاة المفكرين منهم أبي الحسن الندوي، والشيخ محمد الغزالي، يدلل بها على خطر القومية.
ب - رسالة "الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة":
وهي رسالة موجزة لسماحة الشيخ - رحمه الله - بدأها بالحكمة من إيجاد الخليقة، والحكمة من إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم تحدث عن رسالة النبي محمد ﷺ وكيف تعب من أجلها - بأبي هو وأمي ﷺ، وكيف اجتهد الصحابة في إبلاغ الرسالة إلى أرجاء المعمورة آنذاك، ثم تحدث عن الدعوة إلى الله حديثًا موجزًا في نقاط أربع، وهي:
حكمها وفضلها، كيفية أدائها وأساليبها، بيان الأمر الذي يُدعى إليه، وبيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها.
وقد قال في كيفية أداء الدعوة كلامًا فكريًّا جيدًا، كان منه الحديث عن شمول الدعوة الإسلامية وأن الإسلام (عبادة وقيادة)، ويكون (أي المسلم) عابدًا، ويكون قائدًا للجيش، عبادة وحكم، ويكون عابدًا مصليًّا صائمًا، ويكون حاكمًا بشرع الله منفذًا لأحكامه ، عبادة وجهاد، ويدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله، مصحف وسيف، يتأمل القرآن ويتدبره، وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه، سياسة واجتماع: فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم...
فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد...
وهو يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله ...
وهو أيضًا سياسة واقتصاد، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسماليًّا غاشمًا ظالمًا لا يبالي بالحرمات ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق، وليس اقتصادًا شيوعيًّا إلحاديًّا لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم، فليس هذا ولا هذا، بل هو وسط بين الاقتصادين، ووسط بين الطريقين، وحق بين الباطلين، فالغرب عظموا المال وغالوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة، وسلكوا فيه ما حرم الله ، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم يبالوا بما فعلوه في ذلك بل استعبدوا العباد، واضطهدوا الشعوب، وكفروا بالله، أنكروا الأديان، وقالوا لا إله والحياة المادة...". [5]
ثم قال: "وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبًا دون جانب، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة، بل خذ الإسلام كله، خذه عقيدة، وعملًا، وعبادة، وجهادًا، واجتماعًا، وسياسةً، واقتصادًا، أو غير ذلك، خذه من كل الوجوه ... يجب على كل مسلم أن يتمسك بالإسلام كله، وأن يدين بالإسلام كله، وأن يعتصم بحبل الله ، وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال". [6]
ومضمون كلماته أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ولابد من أخذه كله، وعدم التفريط في جانب منه.
2 ـ متابعته الدقيقة للأخبار وتفاعله معها:
كان سماحة الشيخ - رحمه الله - مداومًا على متابعة الأخبار على وجه يوميّ، وهذا لا شك يثري الجوانب الثقافية والفكرية، يقول أحد المتابعين لحياة الشيخ - رحمه الله: "كان سماحته يتلقى تقريرًا يوميًّا من وكالة الأنباء السعودية يحتوي على أهم الأحداث إجمالًا وتفصيلًا". [7]
كما كان يصل بسماحته كثير من الرسائل من العالم الإسلامي تعرفه بحال المسلمين، ويفد عليه كثير من الوفود فتخبره بتفاصيل ما يجري في بلدانهم.
إذا ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض اتضح لنا جليًّا أن الشيخ لم يعش بمعزل عن أحداث العصر، وما كان شيء من مهمات الأخبار يفوته في الجملة - رحمه الله، وقد كان يتعامل مع هذه الأخبار بإيجابية فيحزن لما فيها من المحزنات، ويحاول حل ما استطاع حله من المشكلات، وهكذا ينبغي أن يكون صنيع من يتابع الأخبار من العلماء والدعاة. [8]
3 ـ موقفه الجيد من الجماعات الإسلامية:
كان سماحة الشيخ - رحمه الله - لديه إلمام بالجماعات الإسلامية الموجودة في حياته، وله معرفة بأنشطتها من حيث الجملة، ويعرف جوانب الخير التي فيهم وجوانب القصور منهم، ولذا نجده في كثير ما يثني على الجهود الطيبة التي يقومون بها ويحث الآخرين على التعاون معهم فيها، وينبه على الأخطاء التي يقعون فيها لكي يتجنبوها.
وهذه فتوى لسماحته تدل على اعتدال فكري متزن حول تلك الجماعات، وموضوعها نفي علاقة الجماعات الإسلامية بالفرق الضالة، حيث سأله سائل: يا شيخنا الكريم الذي يقول بأن هذه الجماعات الإسلامية من الفرق التي تدعو إلى جهنم والتي أمر النبي ﷺ باعتزالها؟
فأجاب رحمه الله: "الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ليس من الفرق الضالة ... الفرقة الناجية: هي الجماعة المستقيمة على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه ؛ من توحيد الله، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والاستقامة على ذلك قولا وعملا وعقيدة، هم أهل الحق وهم دعاة الهدى، ولو تفرقوا في البلاد يكون منهم في الشام، يكون منهم في أمريكا، يكون منهم في مصر، يكون منهم في أفريقيا، يكون منهم في آسيا، هم جماعات كثيرة، المقصود هدفهم ما هو؟ وعقيدتهم ما هي؟ فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان باللّه ورسوله والاستقامة على دين الله الذي جاء به الكتاب وسنة رسوله ﷺ هم أهل السنة والجماعة، وإن كانوا في جهات كثيرة لكن في آخر الزمان قد يقلون جدًا.
فالحاصل: أن الضابط ما داموا على الحق، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وتدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته هؤلاء هم الجماعة هم الفرق الناجية، وأما من دعا إلى غير كتاب الله أو إلى غير سنة رسول الله ﷺ هذا ليس من الجماعة بل من الفرق الضالة الهالكة.
وإنما الفرقة الناجية دعاة الكتاب والسنة إن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هنا، مادام الهدف والعقيدة واحدة فلا يضر كون هذه تسمى أنصار السنة وهذه تسمى الإخوان المسلمين، وهذه تسمى كذا، المهم عقيدتهم وعملهم، فإذا استقاموا على الحق وعلى توحيد الله والإخلاص له واتباع رسول الله ﷺ قولًا وعملًا وعقيدة فالأسماء لا تضرهم، لكن عليهم أن يتقوا الله وأن يصدقوا في ذلك، وإذا تسمى بعضهم بأنصار السنة وتسمى بعضهم بجماعة كذا وجماعة كذا لا يضره إذا جاء الصدق حصل الصدق باتباع الكتاب والسنة وتحكيمها والاستقامة عليها قولًا وعملًا.
وإذا أخطأت الجماعة في شيء تُنبه، إذا أخطأت أي جماعة في أمر من أمور الدين ينبهها الآخرون ولا نتركهم، لا بد أن نتعاون على البر والتقوى إذا أخطأوا ننبههم، فإذا أخطأوا في شيء مما يتعلق بالعقيدة أو بما أوجب الله أو ما حرم الله نُبهوا بالأدلة الشريعة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن حتى ينصاعوا للحق، وحتى يقبلوه، وحتى لا ينفروا منه، هذا هو الواجب، على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتناصحوا فيما بينهم، وألا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو". [9]
4 ـ دفاعه عن الدعاة والمفكرين:
"وهذا بارز وواضح في حياة الشيخ، فالدعاة والمفكرون والمثقفون قريبون منه وهو لهم محب، مدافع عنهم، ويشعر بمصابهم، وهذا - أي محبة الدعاة والمدافعة عنهم - أيضًا يدل على اعتدال فكري جيد" [10]، واسمع إلى محمد المجذوب وهو يذكر خطاب سماحته في حادث إعدام سيد قطب فيقول:
"عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة، التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف الإضعاف من منزلة الإسلام نفسه بإرهاب المعتصمين به لتخذيلهم عنه.
وكلفني الشيخ يومئذ صياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف فكتبتها بقلم يقطر نارًا وكرهًا وغيرة، وجئته به وملئي اليقين بأنه سيدخل على لهجتها من التعديل ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل توقعاتي حين أقرها جميعًا، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وأرسلت يومئذ البرقية التي كانت - فيما أظن - الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة بما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من لذع السياط". [11]
5 ـ اعتداله في مسائل الخلاف الفقهي:
كان للشيخ موقف وسط في قضايا الخلاف الفقهي، وخلاصته أنه يذهب فيها إلى الحق الذي لا يعتقد غيره، ولكنه يعذر المخالف ولا يسفهه، كما أنه وهذا يدل على اعتدال فكري جيد.
فها هو يقول متحدثًا عن مسألة فقهية خلافية في شأن الصلاة والإرسال والقبض بعد الركوع فيه: "لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع والتهاجر والفرقة فإن ذلك لا يجوز للمسلمين ... الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض.
كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر... الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية، فقد كان أصحاب الرسول والعلماء بعدهم، رحمهم الله، يختلفون في المسائل الفرعية ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجرًا، لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته". [12]
كما أن سماحته كان يضع مسائل الخلاف في إطارها الطبيعي ولا يعطيها أكبر من حجمها، وهذا موقف له - رحمه الله - مع الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - يبين اعتداله الفكري في تلك الأمور، يقول مرافق الشيخ محمد الموسى:
"لما قدم الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - إلى الرياض، لاستلام جائزته المقدمة من لجنة جائزة الملك فيصل العالمية زار سماحة الشيخ في منزله.
وكانت في ذلك الوقت ضجة حول كتاب الشيخ الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه، وأهل الحديث) وقد قرئ ذلك الكتاب على سماحة الشيخ، فلما زاره الغزالي احتفى به، وأكرمه ولاطفه، وسأله عن الدعوة في الجزائر، وعن حاجتهم، وأخبره بأنه على أتم الاستعداد لدعمهم، وكان الشيخ الغزالي آنذاك رئيسًا لجامعة في الجزائر.
وكان مجلس سماحته - كالعادة - عامرًا بالزائرين، والسائلين، والمحتاجين، والضيوف، وكان الهاتف لا يتوقف رنينه، وكان كُتَّاب سماحته حوله يقرؤون، وهكذا.
وكلما سنحت لسماحته فرصة التفت إلى الشيخ الغزالي وحيّاه ولاطفه، فأعجِبَ الشيخ الغزالي بما رأى، وكان ذلك باديًّا عليه.
وفي تلك الأثناء قال سماحته للشيخ الغزالي: لقد قرأت كتابكم المذكور، ولا يخفى عليكم أن البشر عرضة للخطأ، ونحن وغيرنا عرضة لذلك، وقد قرأت شيئًا من كتابكم، وعليه بعض الملحوظات.
فقال الشيخ الغزالي: أنا يسعدني أن تكملوا قراءته، وأن توافوني بما تلاحظونه، وأنا إن شاء الله أصلحه، وذكر كلامًا نحو هذا.
وبينما كان سماحة الشيخ يرد على مكالمة هاتفية دار حديث بين الشيخ الغزالي وبين أحد المشايخ الحاضرين وهو الشيخ خير الدين وانلي من سوريا، فقال الشيخ خير الدين: أنتم قلتم: كذا وكذا، فانقض الغزالي عليه: واشتد النقاش، ولما سمع سماحته كلامهما التفت إلى الغزالي وقال: ماذا عندكم؟ قال: كذا وكذا.
فخاطبهما جميعًا بأن هذه المسائل ينبغي أن توضع في إطارها، وأن نحرص كل الحرص على جمع كلمتنا والبعد عن الخلاف، فنحن أمام أمور كبار تتعلق بأصول المسائل، وسكّن من غضبهما وانتهى الجدال.
وكان الشيخ الغزالي مدعوًّا للغداء، ولكنه تأخر على من دعاه، وجلس عند سماحة الشيخ، وتناول معه الغداء، ولما هم بالخروج ألقى نظرة على سماحة الشيخ وقال: نحن بخير ما دام فينا هذا الرجل.
وبلغني أنه لما وصل إلى من دعاه قالوا له: لماذا تأخرت؟ قال: كنا في عالم ثان!" [13] وهذا الذي حصل من الشيخ ابن باز - رحمه الله - يدل على اعتدال فكري كبير، ولا شك.
6 ـ استشهاده ببعض أقول الغربيين واطلاعه على كلامهم:
كان للشيخ رد على قضية اختلاط المرأة بالرجال والفساد الحاصل من التساهل في مثل هذا، وقد استشهد في رده بالكاتبة الإنجليزية الليدي كوك، واستشهد بكلام شوبنهور الألماني، وبكلام اللورد بيرون، وبقول سامويل سمايلس الإنجليزي، وبكلام الدكتورة أيد إلين، وبقول عضوين من الكونجرس الأمريكي، وكل هذه الأقوال لهؤلاء تشجع على منع الاختلاط ووجوب إشغال المرأة بما هو مناسب لطبيعتها وفطرتها.
واستفادته من كلام هؤلاء يدل على اطلاع جيد، ومشاركة ثقافية مناسبة، وأخذ الجيد النافع من كلام الناس وإن كانوا كافرين، وهذا أيضًا يدل على اعتدال فكري وجودة في منهج التلقي، وقد سبق أقرانه في هذا الأمر وتجاوزهم. [14]
7 ـ اطلاعه على ما يجري في العالم من كيد للإسلام وإساءة له وللمسلمين:
كان للشيخ اطلاع حسن واسع على المكائد التي تواجه المسلمين وتفت في عضدهم، وكان له مشاركة في الرد على ذلك وإظهار الحق، فمن ذلك:
رده على ما يجري في التلفزيون السويسري من إظهار للإسلام والمسلمين في مصر بصورة سيئة.
وكذلك رده على ما يجري في مؤتمر بكين من مناقضة الشريعة الإسلامية في عدد من جوانبه، ونشر الإباحية، وهتك للحرمات، وتخريب للمجتمعات إلخ.
وهذا الاطلاع وتلك المشاركة يدلان على اهتمام فكري ثقافي، ومتابعة دقيقة لما يجري في الساحة الإسلامية والساحة العالمية، ويدلان أيضًا على اعتدال في التصور مستقًى من منهج جيد إيجابي في تلقي الأخبار والتعامل مع كل خبر بما يناسبه. [15]
8 ـ اهتمامه الكبير بالمسلمين أينما كانوا واطلاعه على أخبارهم:
اهتم سماحة الشيخ بالمسلمين وأحوالهم اهتمامًا بالغًا، فكان يتتبع أخبارهم ويسأل من يفد عليه من البلدان عن أحوالهم وأحوال بلدانهم، ويتواصل مع بعض الدعاة في الداخل والخارج ليطمئن على أمورهم وأمور الدعوة إلى الله، حتى قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله: "لا يوجد رجل في العالم يهتم بأمور المسلمين كسماحة الشيخ عبدالعزيز". [16]
وهذا القول يدل على اهتمام الشيخ الكبير بحال المسلمين ومتابعة أخبارهم، وهذا الاهتمام وتلك المتابعة الكبيرة أورثاه ثراء لا بأس به في الناحيتين الفكرية والثقافية.
كانت هذه بعض الصور من الجوانب الفكرية والثقافية من حياة الشيخ التي كان يتمتع بها، وإلا فحياته مليئة بالصور المشرقة، رحمه الله.
1 ـ تأليفه بعض الرسائل الدالة على مشاركة فكرية وثقافية، فمن ذلك:
أ - "نقد القومية العربية":
وهي رسالة مهمة، يظهر فيها مدى تغلغل القومية العربية في بلاد الإسلام العربية آنذاك - وقد ألفها في الثمانينيات الهجرية - وفي هذه الرسالة تظهر مشاركة الشيخ في الجوانب الفكرية والثقافية، فمن ذلك قوله:
"فمن خبر أحوال القوميين وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم عرف أن غرض كثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طربًا، ويساعد على وجودها ورفع مستواها، وإن تظاهر بخلاف ذلك تغريرًا للعرب عن دينهم، وتشجيعًا لهم على الاشتغال بقوميتهم والدعوة إليها، والإعراض عن دينهم...". [2]
ثم قال - رحمه الله: "وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم فاعلم أن هذه الدعوة - أعني الدعوة إلى القومية العربية - أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب وأعداء الإسلام واغترّ بها كثير من الأغمار ومَن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان...". [3]
وقال - رحمه الله: "هذه الفكرة - أعني الدعوة إلى القومية العربية - وردت إلينا من أعدائنا الغربيين وكادوا بها المسلمين، ويقصدون بها من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريغ شملهم على قاعدتهم المشؤومة (فَرِّق تَسُد) وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون.
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية - ومنهم مؤلف الموسوعة العربية - أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عُقد لها أول مؤتمر في باريس وذلك عام 1910م، وكثرت بسب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سوريا في ذلك الوقت إلى آخر ما ذكروا...". [4]
ثم نقل نقولا ًمهمة تتعلق بالقومية عن عدد من الدعاة المفكرين منهم أبي الحسن الندوي، والشيخ محمد الغزالي، يدلل بها على خطر القومية.
ب - رسالة "الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة":
وهي رسالة موجزة لسماحة الشيخ - رحمه الله - بدأها بالحكمة من إيجاد الخليقة، والحكمة من إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم تحدث عن رسالة النبي محمد ﷺ وكيف تعب من أجلها - بأبي هو وأمي ﷺ، وكيف اجتهد الصحابة في إبلاغ الرسالة إلى أرجاء المعمورة آنذاك، ثم تحدث عن الدعوة إلى الله حديثًا موجزًا في نقاط أربع، وهي:
حكمها وفضلها، كيفية أدائها وأساليبها، بيان الأمر الذي يُدعى إليه، وبيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها.
وقد قال في كيفية أداء الدعوة كلامًا فكريًّا جيدًا، كان منه الحديث عن شمول الدعوة الإسلامية وأن الإسلام (عبادة وقيادة)، ويكون (أي المسلم) عابدًا، ويكون قائدًا للجيش، عبادة وحكم، ويكون عابدًا مصليًّا صائمًا، ويكون حاكمًا بشرع الله منفذًا لأحكامه ، عبادة وجهاد، ويدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله، مصحف وسيف، يتأمل القرآن ويتدبره، وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه، سياسة واجتماع: فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم...
فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد...
وهو يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله ...
وهو أيضًا سياسة واقتصاد، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسماليًّا غاشمًا ظالمًا لا يبالي بالحرمات ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق، وليس اقتصادًا شيوعيًّا إلحاديًّا لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم، فليس هذا ولا هذا، بل هو وسط بين الاقتصادين، ووسط بين الطريقين، وحق بين الباطلين، فالغرب عظموا المال وغالوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة، وسلكوا فيه ما حرم الله ، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم يبالوا بما فعلوه في ذلك بل استعبدوا العباد، واضطهدوا الشعوب، وكفروا بالله، أنكروا الأديان، وقالوا لا إله والحياة المادة...". [5]
ثم قال: "وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبًا دون جانب، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة، بل خذ الإسلام كله، خذه عقيدة، وعملًا، وعبادة، وجهادًا، واجتماعًا، وسياسةً، واقتصادًا، أو غير ذلك، خذه من كل الوجوه ... يجب على كل مسلم أن يتمسك بالإسلام كله، وأن يدين بالإسلام كله، وأن يعتصم بحبل الله ، وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال". [6]
ومضمون كلماته أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ولابد من أخذه كله، وعدم التفريط في جانب منه.
2 ـ متابعته الدقيقة للأخبار وتفاعله معها:
كان سماحة الشيخ - رحمه الله - مداومًا على متابعة الأخبار على وجه يوميّ، وهذا لا شك يثري الجوانب الثقافية والفكرية، يقول أحد المتابعين لحياة الشيخ - رحمه الله: "كان سماحته يتلقى تقريرًا يوميًّا من وكالة الأنباء السعودية يحتوي على أهم الأحداث إجمالًا وتفصيلًا". [7]
كما كان يصل بسماحته كثير من الرسائل من العالم الإسلامي تعرفه بحال المسلمين، ويفد عليه كثير من الوفود فتخبره بتفاصيل ما يجري في بلدانهم.
إذا ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض اتضح لنا جليًّا أن الشيخ لم يعش بمعزل عن أحداث العصر، وما كان شيء من مهمات الأخبار يفوته في الجملة - رحمه الله، وقد كان يتعامل مع هذه الأخبار بإيجابية فيحزن لما فيها من المحزنات، ويحاول حل ما استطاع حله من المشكلات، وهكذا ينبغي أن يكون صنيع من يتابع الأخبار من العلماء والدعاة. [8]
3 ـ موقفه الجيد من الجماعات الإسلامية:
كان سماحة الشيخ - رحمه الله - لديه إلمام بالجماعات الإسلامية الموجودة في حياته، وله معرفة بأنشطتها من حيث الجملة، ويعرف جوانب الخير التي فيهم وجوانب القصور منهم، ولذا نجده في كثير ما يثني على الجهود الطيبة التي يقومون بها ويحث الآخرين على التعاون معهم فيها، وينبه على الأخطاء التي يقعون فيها لكي يتجنبوها.
وهذه فتوى لسماحته تدل على اعتدال فكري متزن حول تلك الجماعات، وموضوعها نفي علاقة الجماعات الإسلامية بالفرق الضالة، حيث سأله سائل: يا شيخنا الكريم الذي يقول بأن هذه الجماعات الإسلامية من الفرق التي تدعو إلى جهنم والتي أمر النبي ﷺ باعتزالها؟
فأجاب رحمه الله: "الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ليس من الفرق الضالة ... الفرقة الناجية: هي الجماعة المستقيمة على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه ؛ من توحيد الله، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والاستقامة على ذلك قولا وعملا وعقيدة، هم أهل الحق وهم دعاة الهدى، ولو تفرقوا في البلاد يكون منهم في الشام، يكون منهم في أمريكا، يكون منهم في مصر، يكون منهم في أفريقيا، يكون منهم في آسيا، هم جماعات كثيرة، المقصود هدفهم ما هو؟ وعقيدتهم ما هي؟ فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان باللّه ورسوله والاستقامة على دين الله الذي جاء به الكتاب وسنة رسوله ﷺ هم أهل السنة والجماعة، وإن كانوا في جهات كثيرة لكن في آخر الزمان قد يقلون جدًا.
فالحاصل: أن الضابط ما داموا على الحق، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وتدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته هؤلاء هم الجماعة هم الفرق الناجية، وأما من دعا إلى غير كتاب الله أو إلى غير سنة رسول الله ﷺ هذا ليس من الجماعة بل من الفرق الضالة الهالكة.
وإنما الفرقة الناجية دعاة الكتاب والسنة إن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هنا، مادام الهدف والعقيدة واحدة فلا يضر كون هذه تسمى أنصار السنة وهذه تسمى الإخوان المسلمين، وهذه تسمى كذا، المهم عقيدتهم وعملهم، فإذا استقاموا على الحق وعلى توحيد الله والإخلاص له واتباع رسول الله ﷺ قولًا وعملًا وعقيدة فالأسماء لا تضرهم، لكن عليهم أن يتقوا الله وأن يصدقوا في ذلك، وإذا تسمى بعضهم بأنصار السنة وتسمى بعضهم بجماعة كذا وجماعة كذا لا يضره إذا جاء الصدق حصل الصدق باتباع الكتاب والسنة وتحكيمها والاستقامة عليها قولًا وعملًا.
وإذا أخطأت الجماعة في شيء تُنبه، إذا أخطأت أي جماعة في أمر من أمور الدين ينبهها الآخرون ولا نتركهم، لا بد أن نتعاون على البر والتقوى إذا أخطأوا ننبههم، فإذا أخطأوا في شيء مما يتعلق بالعقيدة أو بما أوجب الله أو ما حرم الله نُبهوا بالأدلة الشريعة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن حتى ينصاعوا للحق، وحتى يقبلوه، وحتى لا ينفروا منه، هذا هو الواجب، على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتناصحوا فيما بينهم، وألا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو". [9]
4 ـ دفاعه عن الدعاة والمفكرين:
"وهذا بارز وواضح في حياة الشيخ، فالدعاة والمفكرون والمثقفون قريبون منه وهو لهم محب، مدافع عنهم، ويشعر بمصابهم، وهذا - أي محبة الدعاة والمدافعة عنهم - أيضًا يدل على اعتدال فكري جيد" [10]، واسمع إلى محمد المجذوب وهو يذكر خطاب سماحته في حادث إعدام سيد قطب فيقول:
"عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة، التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف الإضعاف من منزلة الإسلام نفسه بإرهاب المعتصمين به لتخذيلهم عنه.
وكلفني الشيخ يومئذ صياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف فكتبتها بقلم يقطر نارًا وكرهًا وغيرة، وجئته به وملئي اليقين بأنه سيدخل على لهجتها من التعديل ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل توقعاتي حين أقرها جميعًا، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وأرسلت يومئذ البرقية التي كانت - فيما أظن - الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة بما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من لذع السياط". [11]
5 ـ اعتداله في مسائل الخلاف الفقهي:
كان للشيخ موقف وسط في قضايا الخلاف الفقهي، وخلاصته أنه يذهب فيها إلى الحق الذي لا يعتقد غيره، ولكنه يعذر المخالف ولا يسفهه، كما أنه وهذا يدل على اعتدال فكري جيد.
فها هو يقول متحدثًا عن مسألة فقهية خلافية في شأن الصلاة والإرسال والقبض بعد الركوع فيه: "لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع والتهاجر والفرقة فإن ذلك لا يجوز للمسلمين ... الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض.
كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر... الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية، فقد كان أصحاب الرسول والعلماء بعدهم، رحمهم الله، يختلفون في المسائل الفرعية ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجرًا، لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته". [12]
كما أن سماحته كان يضع مسائل الخلاف في إطارها الطبيعي ولا يعطيها أكبر من حجمها، وهذا موقف له - رحمه الله - مع الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - يبين اعتداله الفكري في تلك الأمور، يقول مرافق الشيخ محمد الموسى:
"لما قدم الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - إلى الرياض، لاستلام جائزته المقدمة من لجنة جائزة الملك فيصل العالمية زار سماحة الشيخ في منزله.
وكانت في ذلك الوقت ضجة حول كتاب الشيخ الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه، وأهل الحديث) وقد قرئ ذلك الكتاب على سماحة الشيخ، فلما زاره الغزالي احتفى به، وأكرمه ولاطفه، وسأله عن الدعوة في الجزائر، وعن حاجتهم، وأخبره بأنه على أتم الاستعداد لدعمهم، وكان الشيخ الغزالي آنذاك رئيسًا لجامعة في الجزائر.
وكان مجلس سماحته - كالعادة - عامرًا بالزائرين، والسائلين، والمحتاجين، والضيوف، وكان الهاتف لا يتوقف رنينه، وكان كُتَّاب سماحته حوله يقرؤون، وهكذا.
وكلما سنحت لسماحته فرصة التفت إلى الشيخ الغزالي وحيّاه ولاطفه، فأعجِبَ الشيخ الغزالي بما رأى، وكان ذلك باديًّا عليه.
وفي تلك الأثناء قال سماحته للشيخ الغزالي: لقد قرأت كتابكم المذكور، ولا يخفى عليكم أن البشر عرضة للخطأ، ونحن وغيرنا عرضة لذلك، وقد قرأت شيئًا من كتابكم، وعليه بعض الملحوظات.
فقال الشيخ الغزالي: أنا يسعدني أن تكملوا قراءته، وأن توافوني بما تلاحظونه، وأنا إن شاء الله أصلحه، وذكر كلامًا نحو هذا.
وبينما كان سماحة الشيخ يرد على مكالمة هاتفية دار حديث بين الشيخ الغزالي وبين أحد المشايخ الحاضرين وهو الشيخ خير الدين وانلي من سوريا، فقال الشيخ خير الدين: أنتم قلتم: كذا وكذا، فانقض الغزالي عليه: واشتد النقاش، ولما سمع سماحته كلامهما التفت إلى الغزالي وقال: ماذا عندكم؟ قال: كذا وكذا.
فخاطبهما جميعًا بأن هذه المسائل ينبغي أن توضع في إطارها، وأن نحرص كل الحرص على جمع كلمتنا والبعد عن الخلاف، فنحن أمام أمور كبار تتعلق بأصول المسائل، وسكّن من غضبهما وانتهى الجدال.
وكان الشيخ الغزالي مدعوًّا للغداء، ولكنه تأخر على من دعاه، وجلس عند سماحة الشيخ، وتناول معه الغداء، ولما هم بالخروج ألقى نظرة على سماحة الشيخ وقال: نحن بخير ما دام فينا هذا الرجل.
وبلغني أنه لما وصل إلى من دعاه قالوا له: لماذا تأخرت؟ قال: كنا في عالم ثان!" [13] وهذا الذي حصل من الشيخ ابن باز - رحمه الله - يدل على اعتدال فكري كبير، ولا شك.
6 ـ استشهاده ببعض أقول الغربيين واطلاعه على كلامهم:
كان للشيخ رد على قضية اختلاط المرأة بالرجال والفساد الحاصل من التساهل في مثل هذا، وقد استشهد في رده بالكاتبة الإنجليزية الليدي كوك، واستشهد بكلام شوبنهور الألماني، وبكلام اللورد بيرون، وبقول سامويل سمايلس الإنجليزي، وبكلام الدكتورة أيد إلين، وبقول عضوين من الكونجرس الأمريكي، وكل هذه الأقوال لهؤلاء تشجع على منع الاختلاط ووجوب إشغال المرأة بما هو مناسب لطبيعتها وفطرتها.
واستفادته من كلام هؤلاء يدل على اطلاع جيد، ومشاركة ثقافية مناسبة، وأخذ الجيد النافع من كلام الناس وإن كانوا كافرين، وهذا أيضًا يدل على اعتدال فكري وجودة في منهج التلقي، وقد سبق أقرانه في هذا الأمر وتجاوزهم. [14]
7 ـ اطلاعه على ما يجري في العالم من كيد للإسلام وإساءة له وللمسلمين:
كان للشيخ اطلاع حسن واسع على المكائد التي تواجه المسلمين وتفت في عضدهم، وكان له مشاركة في الرد على ذلك وإظهار الحق، فمن ذلك:
رده على ما يجري في التلفزيون السويسري من إظهار للإسلام والمسلمين في مصر بصورة سيئة.
وكذلك رده على ما يجري في مؤتمر بكين من مناقضة الشريعة الإسلامية في عدد من جوانبه، ونشر الإباحية، وهتك للحرمات، وتخريب للمجتمعات إلخ.
وهذا الاطلاع وتلك المشاركة يدلان على اهتمام فكري ثقافي، ومتابعة دقيقة لما يجري في الساحة الإسلامية والساحة العالمية، ويدلان أيضًا على اعتدال في التصور مستقًى من منهج جيد إيجابي في تلقي الأخبار والتعامل مع كل خبر بما يناسبه. [15]
8 ـ اهتمامه الكبير بالمسلمين أينما كانوا واطلاعه على أخبارهم:
اهتم سماحة الشيخ بالمسلمين وأحوالهم اهتمامًا بالغًا، فكان يتتبع أخبارهم ويسأل من يفد عليه من البلدان عن أحوالهم وأحوال بلدانهم، ويتواصل مع بعض الدعاة في الداخل والخارج ليطمئن على أمورهم وأمور الدعوة إلى الله، حتى قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله: "لا يوجد رجل في العالم يهتم بأمور المسلمين كسماحة الشيخ عبدالعزيز". [16]
وهذا القول يدل على اهتمام الشيخ الكبير بحال المسلمين ومتابعة أخبارهم، وهذا الاهتمام وتلك المتابعة الكبيرة أورثاه ثراء لا بأس به في الناحيتين الفكرية والثقافية.
كانت هذه بعض الصور من الجوانب الفكرية والثقافية من حياة الشيخ التي كان يتمتع بها، وإلا فحياته مليئة بالصور المشرقة، رحمه الله.
- ينظر: شخصية الشيخ عبدالعزيز بن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 27).
- نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، للشيخ ابن باز (ص: 8).
- نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، للشيخ ابن باز (ص: 10).
- نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، للشيخ ابن باز (ص: 12).
- الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، للشيخ ابن باز (ص: 32-34).
- الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، للشيخ ابن باز (ص: 36-37).
- ابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (ص 52).
- شخصية الشيخ عبدالعزيز بن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 27).
- مجموع فتاوى ابن باز (182/8).
- شخصية الشيخ عبدالعزيز بن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 50).
- جوانب من سيرة ابن باز، لمحمد الموسى (ص 545).
- مجموع فتاوى ابن باز (141/11).
- جوانب من سيرة ابن باز، لمحمد الموسى (ص 208).
- شخصية الشيخ عبدالعزيز بن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 57).
- شخصية الشيخ عبدالعزيز بن باز الفكرية والثقافية، للدكتور محمد موسى الشريف (ص 57).
- جوانب من سيرة ابن باز، لمحمد الموسى (ص 254).