عنايته بالحديث النبوي 1

اعتنى الشيخ - رحمه الله - بالحديث النبوي عناية فائقة؛ واهتم به اهتمامًا بالغًا؛ لأنه كان يدرك إدراكًا تامًّا أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، المكملة والموضحة للمصدر الأول، ونتيجة لهذا الاهتمام الكبير والعناية الفائقة برز - رحمه الله - بروزًا كبيرًا في الحديث وعلومه حتى أصبح - رحمه الله - محدثًا جهبذًا، يحفظ كثيرًا من نصوص السنة ويستظهر كثيرًا من رجال الحديث، ودرجاتهم، وإضافة إلى ذلك الحفظ فقد كان له قدرة عالية على التمييز بين صحيح الأحاديث وضعيفها، بل أصبحت أحكامه على الأحاديث من حيث الصحة والضعف مرجعًا للمستفيدين.
ولعل تلك المكانة التي تبوأها الشيخ والمكانة التي حازها ترجع إلى أمرين مهمين: تتلمذه على علماء أجلاء في هذا الأمر، وعنايته الخاصة بكتب الحديث وعلومه عند تعلمه وتعليمه  - رحمه الله.

أبرز الشيوخ الذين أفادوه في الحديث وعلومه:
من أبرز الشيوخ الذي أفادوا الشيخ - رحمه الله - في علوم الحديث: متونًا، وشروحًا، وأصولًا - عالمان جليلان، هما:
  1. الشيخ المحدِّث المسند سعد بن حمد بن عتيق - رحمه الله (ت 1349هـ)، الذي تلقى علوم الحديث عن الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام، وأيضًا في رحلاته إلى الهند والحجاز؛ حيث تلقَّى أسانيدهما عمَّن أجازه من شيوخهما، وسماحة الشيخ أخذ عنه، ودرس عليه، واستفاد منه.
  2. الشيخ المحدث الفقيه الأصولي محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله (ت 1389هـ)، وهو الشيخ الذي طالتْ ملازمةُ الشيخ ابن باز - رحمه الله - له مدة عشر سنين متواصلة، من سنة 1347-1357هـ إلى توليه القضاءَ، وتنوَّعتْ دراستُه على شيخه في فنون العلم، وفي مقدمتها علم الحديث النبوي، بحفظ متونه، وشروحها، ومطالعة شروح مطولاته، وحفظ أصول الحديث (مصطلحه). [1]

عنايته بكتب الحديث وقت الطلب:
بدأ - رحمه الله - بمختصرات المتون الحديثية، ثم كتب الأحكام مثل: (عمدة الأحكام)، للشيخ عبدالغني المقدسي، ثم (بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم (منتقى الأخبار)، للمجد بن تيميَّة، ثم في (صحيح البخاري)، و(صحيح مسلم)، والسنن، والمسانيد، ومصنفات الحديث النبوي.
وكان حالَ الطلبِ يراجع هذه المتون وشروحها الشهيرة المتداولة بين أيدي طلبة العلم.
وأعظم الشروح التي كان الشيخ يبحث فيها ويراجعها، شرح الحافظ الكبير ابن حجر على (صحيح البخاري)، والمعروف (بفتح الباري شرح صحيح البخاري)، فكان الشيخ حفيًّا به وبمطالعته، معجبًا بتقريرات الحافظ ونقوله فيه، وتنوع مباحثه ومتونه، ويزيد بـ (عمدة القاري) للعيني، رحمهم الله جميعًا. [2]

عنايته بكتب الحديث عند بذل العلم:
اعتنى الشيخ - رحمه الله - واحتفى في دروسه العامة المرتبة لطلاب العلم بكتب الحديث وشروحه، والتعليق عليها؛ ولهذا لم يخلُ درس من دروسه العلمية المرتبة فجرًا وضحًى وليلاً من القراءة في كتب المتون، ولاسيما صحيحا البخاري ومسلم، وكتب السنن: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي، والسنن الكبرى للنسائي، وكتاب التوحيد لابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وغيرها من كتب السنة، إضافة إلى ذلك مراجعة شروح أمهات الكتب الست التي حوت كثيرا من العلم في الحديث والفقه وغيرهما. [3]
يقول الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل: "كان الشيخ حفيًّا بمطالعة كتب الشروح؛ للتحضير منها، ومراجعة البحوث فيها في مكتبه، ومع خواص أصحابه وطلابه، حيث ينشط لهذا نشاطًا متميزًا.
وكان يكلف الجادين من طلابه بالبحوث الحديثية، ودراسة الأحاديث وتخريجها وجمع مختلف كلام العلماء عليها، والتأليف بينها". [4]
"ثم ثمة مظهر بارز حرَص عليه سماحتُه من خلال العناية بالأصول الخطية (المخطوطات) لكتب الإسلام، فهذا الشرح الحافل على صحيح البخاري (فتح الباري)، للحافظ الشهاب أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - رحمه الله - وعفا عنه جمع له الشيخ عددًا من المخطوطات؛ لتوثيق نصه وضبطه، وفتح الله عليه بالتعليق على بعض مجلداته إلى نهاية كتاب الحج بتمام المجلد الثالث منه". [5]
كما أنه - رحمه الله - كان كثيرًا ما يطالع في كتب تراجم الرواة وكتب الجرح والتعديل، وعلوم الحديث، يقول الشيخ عائض القرني وهو يتكلم عن مجالات الشيخ العلمية: "وأما في الحديث فهو محدث جهبذ، يعرف الرجال ... وقد سألته قبل ما يقارب أربع سنوات عن حجاج بن أرطاة، قال ضعيف ومدلس، وغيره من الرجال، فهو يحفظ مئات بل آلاف الرجال في ذهنه إذا سألته عن الرجل أخبرك عنه، وما قيل فيه. وهو مغرم بعلم الرجال يطالع كثيرا في تهذيب التهذيب لابن حجر وهو كتابه المفضل فيما أعلم، وقال لبعض محبيه: ربما حفظت ثمانين في المئة من هذا الكتاب، وفتح الباري، وقد قرأه مرات عديدة من وقت طلبه للعلم إلى الآن وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه وتحقيقه للناس بالاشتراك مع الفاضلين محب الدين الخطيب ومحمد فؤاد عبد الباقي، رحمهما الله تعالى... والشيخ يحفظ فيما أعلم بلوغ المرام". [6]
 
كثرة استدلالاته بالحديث النبوي:
كما أن عنايته - رحمه الله - بالحديث النبوي تظهر من خلال محاضراته وكلماته وفتاويه وتوجيهاته، التي كانت تستند على الدليل من الكتاب والسنة، ويكثر فيها الاستشهاد بنصوص الوحيين، فتجده - رحمه الله - يسوق الأدلة المتظافرة على المسألة التي يذكرها أو الحكم الذي يستنبطه، يقول: الدكتور علي الشبل: "... عناية سماحة شيخنا وحفاوته بحديث النبي ﷺ وظهر هذا من خلال دروس سماحته العلمية، ومحاضراته، وفتاواه، وتوجيهاته؛ حيث اعتنى بكتب الحديث ومتونه، ومدوناته وشروحه، وأصوله وفقهه تدريسًا، وحفظًا، وإقراءً. وأيضًا عنايته واهتمامه - رحمه الله - بالأدلة من الكتاب والسنة؛ فسِمةُ التدليل على الفتاوى والرسائل والمحاضرات، والبحوث والمناقشات، ولا سيما تربية طلبة العلم على العناية بهذا، مع العناية بتخريج الأحاديث ودراستها، وكذا الحكم على الأحاديث صحةً وحسنًا وضعفًا، والبحث في كتب الحديث وتراجم الرواة وكتب الجرح والتعديل". [7]

الإسهام في نشر كتب الحديث:
ومن عنايته - رحمه الله - بالحديث عنايته بطبع كتب الحديث، من الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمصنفات، والشروح عليها، وتكرار طبع ما نفد منها، ثم توزيعها على طلاب العلم، والدعاة، والباحثين.
ولذا لم تخلُ مكتبة طالب علم في المملكة وغيرها -في الغالب- من أحد منشورات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، بتوجيه سماحة رئيسها: الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله.
ومما يظهر عناية الشيخ بالحديث النبوي الشريف عنايته بطلابه ودعمه لهم، فإنه - رحمه الله - كانت له عناية خاصة بدار الحديث بمكة المكرمة، ومن ذلك على سبيل المثال: لما مُنح جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام عام 1402هـ، أعلن عن تبرعه بها لدار الحديث الخيرية، وكانت مقدار تلك الجائزة ثلاثمئة ألف ريال. [8]
 
حفظه وضبطه:
تميز الشيخ - رحمه الله - بحافظة قوية وذاكرة وقَّادة مكنته من حفظ كثير من متون السنة، ورجالها، وأحوال رجالها، فكان - رحمه الله - يستحضر متون الأحاديث وأهم مخرِّجيها، حتى يكاد يستظهر أغلب أحاديث الأمهات الست، ويميز كثيرًا من ألفاظها، كما يحفظ أحاديث الأحكام، ويستحضر أكثر رواة الكتب الستة ومراتبهم جرحًا وتعديلًا. [9] 
قال الشيخ إسماعيل الأنصاري - رحمه الله - وغيره: إن سماحته يكاد يحفظ تقريب التهذيب عن ظهر قلب. [10]

إتقانه في الحفظ:
مما يدل على حفظه المتقن واستحضاره لمتون الأحاديث، كثرة استدلالاته بها في دروسه ومحاضراته وفتاواه، فإنه - رحمه الله - كان يذكر الدليل ويسوق معه روايات أخرى، ويذكر من خرجها، والحكم عليها، وهذا الفعل منه هو الغالب.
والمتتبع مثلا للفتاوى التي كان يجيب عليها سماحته، أو رسائله ومكاتباته، أو دروسه ومحاضراته، يرى ذلك جليًا واضحًا، فهو لا يذكر حكمًا إلا ومعه الدليل من الكتاب والسنة، بل يكثر من ذكر الأدلة على ذلك، وإذا كانت هذه الأدلة من السنة فإنه يذكر من خرجها، ومن رواها، والحكم عليها.
فتجده مرة يقول: في الصحيحين .. متفق عليه .. وعند الشيخين .. رواه البخاري ومسلم .. وفي البخاري .. وعند مسلم .. وفي المسند .. رواه أبو داود .. وكذلك النسائي، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، والبزار، والطبراني، وابن حبان في صحيحه.
ومرة يقول: رواه أهل السنن واللفظ لأبي داود، زاد فلان، وفي رواية، وفي لفظ، والسياق للترمذي، وهكذا.
وحصر مثل هذه الألفاظ أو هذه المواضع من مطبوعاته لا يتيسر، ولكن نذكر بعض النماذج:
قال رحمه الله: "... فقد ثبت في الحديث أنه ﷺ قال: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء، يقول الله يوم القيامة للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟ رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن محمود بن لبيد الأشهلي الأنصاري ، ورواه الطبراني أيضًا والبيهقي وجماعة مرسلا عن محمود المذكور، وهو صحابي صغير لم يسمع من النبي ﷺ، ولكن مرسلات الصحابة صحيحة وحجة عند أهل العلم، وبعضهم حكاه إجماعًا". [11]
وقال وهو يتكلم عن وجوب طاعة النبي ﷺ: "... وفي صحيح البخاري عنه أن النبي ﷺ قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى. وخرج أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله ﷺ أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه[12]
وخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح: عن ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي ﷺ قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه. وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معدي كرب يقول: حرم رسول الله ﷺ يوم خيبر أشياء ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح". [13]
والشيخ - رحمه الله - كان يحفظ كتاب (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) للحافظ ابن حجر العسقلاني، وجملة ما في الكتاب من الأحاديث قرابة ألف وخمسمئة واثنين وثمانين حديثًا، كما أنه كان يحفظ كثيرا من كتاب (المنتقى) للمجد ابن تيمية.
يقول  الشيخ عبدالعزيزالسدحان: "سألته ذات مرة في درس قديم فقلت: يا شيخ حديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام وهو: نعم الأجر يؤخذ على القرآن فسكت، فقال: ليس في البلوغ، فقلت: يا شيخ أنا قرأته في البلوغ، فمكث يفكر ثم قال: ليس في البلوغ، فأشار إليَّ أحد الإخوة أن الشيخ مصرٌّ، فقلت: يا شيخ أنا قرأته، فقال: أحضره غدا معك، وكان ذلك الدرس يوم الخميس.
فأخذت أقلب البلوغ صفحة صفحة ولم أعثر عليه، وبعد مضي فترة زمنية أقدرها بأربعة إلى خمسة أشهر وجدت الحديث في البلوغ، فأتيت إلى الشيخ وقلت: يا شيخ أحسن الله إليك سألتكم عن حديث وذكرت لك أنه في بلوغ المرام ونفيتم ذلك وهو الآن معي، فقال: اقرأ، فقلت: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله قال: نعم، لكن أنت سألت عن لفظ: نعم الأجر يؤخذ على القرآن أما هذا الحديث فهو في البخاري في حديث الرقية". [14]
فانظر إلى قوة حافظته - رحمه الله - أنه بداية أنكر أن يكون الحديث في بلوغ المرام، لأنه يحفظه حفظًا متقنًا، ومن العجيب في القصة أنه تذكر اللفظ الذي سُئل عنه مع أنه قد مر عليه عدة أشهر.
 
دقته في الضبط:
مع حفظه - رحمه الله - كان ضابطًا لما يحفظ، مميزا لما قد يطرأ على الكتب من التصحيف، ولذا تجده لدقة ضبطه يقول لطلابه عندما يقرؤون عليه شيئا حصل له تصحيف أو تحريف الصواب كذا، أو ما أظن أن هذا كذا.
يقول الشيخ عبدالعزيزالسدحان: "... كنت أقرأ على الشيخ سندًا في كتاب التاريخ الكبير للبخاري، وكان من ضمن رجال السند رجل اسمه صدقة بن صالح، وطلب الشيخ الاستزادة من ترجمة صدقة بن صالح، ثم قال: ابحث لي عمن اسمه صدقة، فقلبت الصفحات فوقعت عيني على صفحة فيها (صدقة الثوري)، فقال: اقرأ فقرأت والشيخ - رحمه الله - يتبسم.
وكان - رحمه الله - يحاول أن يجعلني أوافق الصواب. فقال: سبحان الله أعد، فقلت: صدقة الثوري، فقال: اللهم اهده، تأكد، وفي تلك الحال ظننت أن الشيخ يرد علي نحوا وأنا ضعيف في النحو فقلت: يا شيخ، صَدَقَة الثوري، فقال: هداك الله، صدَّقَهُ الثوري". [15]
ومن ضبط الشيخ العجيب، أنه قرئ عليه هذا السند، قال الدارقطني: أخبرنا نصر بن علي حدثنا عبدالأعلى عن معمر عن الزهري عن الأغر أبي عبدالله صاحب أبي هريرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا كان يوم الجمعة ...   ثم ذكر تقريب الدجاجة والبيضة إلى آخر الحديث.
فاستعاد الشيخ القارئ مرة أخرى، فقال القارئ: قال الدارقطني: أخبرنا نصر بن علي، ثم ساق السند مرة أخرى، ولم يرتضِ الشيخ هذا النقل، فقال الشيخ: ما أظن، ما أدرك نصر بن علي لعله سقط منه شيخ الدارقطني، فقال القارئ: نعم يا شيخ، الدارمي وليس الدارقطني، قال: نعم. [16]
ومن حفظ الشيخ وضبطه - رحمه الله - أن حديثًا في طبقات ابن سعد أشكل على بعض طلبة العلم، وكان في سنده رجل منسوب إلى الجد الثاني: فلان بن فلان بن فلان بن فلان، يعني وصل النسب إلى الجد الثاني.
وبعد البحث المضني لم يعثروا عليه، فسألوا سماحة الشيخ فقال - رحمه الله: (ابن) الثانية صوابها (عن)، فيكون هذا الاسم راويين وليس راويًا واحدًا.
ومن حفظه وضبطه - رحمه الله - أن أحد الذين كان يقرأ عليه قرأ سندًا، فقال: عن جويرية به، فقال الشيخ: صوابه عن جريرٍ به. [17]
 
تميزه في نقد المتون:
مما عرف عن الشيخ - رحمه الله - تعالى تميَزه في نقد المتون ومعرفة دقائق العلل التي تخفى على أهل الفن أحيانًا، حتى إنه لكثرة بحثه واهتمامه بالحديث وعلومه، وتوسعه في علوم الشريعة؛ وكمال متابعته للسنة قولًا وفعلًا: صار له ذوق خاص في التنبه لنكارة المتن ومخالفته لسائر الأحاديث أو لروح الإسلام، والناظر في كتابه (التحفة الكريمة) يجد أمثلة كثيرة انطلق سماحته في إعلالها من نكارة المتن، وقد يتوسع في التنبيه على علل في الإسناد بما لا يعرف أنه قد سُبق إليه. [18]
وكان - رحمه الله - عندما تقرأ عليه كتب السنة يُصغي للإسناد حال القراءة ليتصور حاله، وقد يُعيده غير مرة، وقد يتنبه لأشياء ربما تخفى على بعض أهل الفن المبصرين. [19]
 
إدراكه للعلل الخفية:
من دلائل نبوغ الشيخ وعلو منزلته في علم الحديث، الحس الذي كان يتميز به في معرفة العلل الخفية في أسانيد الأحاديث، والتنبيه على هذه العلل، ومن أمثلة ذلك ما ذكره أحد طلابه الذين كانوا يتلقون العلم عنده، يقول الشيخ عبدالعزيز السدحان: "طلب مني سماحته في عام 1398هـ بحث حديث (النهي عن الانتعال قائمًا) وكان سماحته قد استمع إلى تخريج الحديث في السلسلة الصحيحة للألباني، واستعاد الشيخ كلام الشيخ الألباني مرارًا - وكان الذي يقرأ عليه الشيخ خالد الشريمي - وكانت جلسة منزلية في دار سماحته بعد العشاء.
فأراد الشيخ التثبت من اكتمال رجال السند - سند ابن ماجه - وعدم وقوع السقط من الطابع، فطلب سماحته إحضار كتاب سنن ابن ماجه، فأحضر وقرئ عليه، فكان السند مطابقًا لما ذكر الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، فأمرني الشيخ بإحضار كتاب (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه للبوصيري) - فيما أظن- فبحثت عنه في مكتبته فلم أعثر عليه فأمرني أن أعود للبحث مرة أخرى، وقال إنه موجود، ومع ذلك لم أعثر عليه لكثرة الكتب وتراكمها.
وقبل انصرافي من منزل سماحته أشار إليَّ الشيخ إبراهيم الحصين - رحمه الله - بأن الشيخ يأمرك بعدم الانصراف فلما جئت إليه، أمرني بالذهاب إلى المكتبة السعودية ونقل إسناد الحديث من النسخ الخطية لسنن ابن ماجه، ثم أمر الشيخ إبراهيم الحصين أن يكتب لي خطابًا موجها إلى المكتبة؛ لكي أتمكن من البحث في النسخ الخطية.
فذهبت إلى المكتبة، وأحضروا لي ثلاث نسخ، وقالوا: بقي رابعة، فقلت: يكفيني ثلاث نسخ. وبعد البحث وجدت إسناد الحديث مطابقا للنسخة المطبوعة، فرجعت إلى الشيخ وأخبرته بما فعلت فأمرني بالعودة إلى المكتبة مرة أخرى والبحث في النسخة الرابعة - وقد أخبرت الشيخ عنها - كما أوصاني أن أنقل سَمَاعات النسخة في آخرها.
وبعد العودة إلى المكتبة طلبت النسخة الرابعة، وكانت المفاجأة وهي أن الحديث غير موجود موضعه - في سائر النسخ المخطوطة أو المطبوعة - فجئت إلى سماحة الشيخ في منزله بعد المغرب فأخبرته بعدم وجود الحديث في النسخة الخطية الرابعة، فتربع على كرسيه وتبسم ضاحكًا وقال: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ثم سألني عن سماع النسخة فأخبرته بأنها قرئت على الإمام الشوكاني - رحمه الله، فترحم الشيخ على الإمام الشوكاني ...
بكل حال أتذكر أن الشيخ أعلّ الحديث في سنن ابن ماجه من جهة علي بن محمد الذي يرويه عن وكيع، وذكر لي الشيخ أن وكيعًا إمام مشهور وطلابه كُثر ومع هذا لم يرو هذا الحديث عنه إلا علي بن محمد وليس من طلاب وكيع المشهورين". [20]
فأعل الشيخ طريق ابن ماجه بسبب تفرد علي بن محمد عن وكيع، وهذا المأخذ يعلّ به السند عند أهل العلم.
 
شهادات أهل العلم له بعلو كعبه في الحديث وعلومه:
في عام 1399هـ كان جماعة من طلاب العلم المعتنين بالحديث والحريصين على السنة، يسعون بين العالمين الجليلين العلامة محمد ناصر الدين الألباني والعلامة ابن باز - رحمهما الله - ليجتمعا في النقاش على المسائل الثلاث في صفة الصلاة:
  1. قبض اليدين بعد الرفع من الركوع.
  2. وضع الركبتين قبل اليدين عند السجود.
  3. والقيام معتمدا باليدين على الركبتين.
فوافق سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - ورحب بالاجتماع، لكن الشيخ الألباني رفض الاجتماع، وقال: "يكتب لي وأكتب له" ولما ألح عليه الطلبة قال لهم: "ابن باز يناقش من حفظه، وأنا لابد لي من مراجعة كتبي". [21]
فالعلامة المحدث الألباني - رحمه الله - على جلالة قدره وعلو كعبه في الحديث وعلومه في هذه القصة يبين معرفته وإدراكه بقوة حافظة سماحة الشيخ ابن باز، وأنه من الحفاظ للنصوص السنة النبوية، المتضلعين فيها، رحمهما الله جميعًا.
أما الشيخ العلامة عبدالله بن دهش - رحمه الله - فقد قال: "محدث المذهب الشيخ عبدالعزيزبن باز". [22]
وقال سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله: "كان له إلمام كبيرٌ في علم الحديث، ورغبة أكيدة، وفتح لنا جزاه الله خيرًا أبوابًا جيدة في هذا الموضوع ... انتفعت بقراءتي عليه من حيث التوجيه، والانتقال من العكوف على الكتب الفقهية وتمحيص الأقوال وتلخيصها، انتقلت من هذه المرحلة إلى مرحلة الحديث، وكان الأثر المباشر من الشيخ نفسه". [23]
وقال الشيخ عبدالله بن جبرين: "عُرف اختصاصه بعلم الحديث، وهذا ما يشهد له كلُّ من عرفه: أنه يعرف الأحاديث، فكان إذا سئل عن حديث مرَّ به أو مر بأحد من الطلبة ذكر موضعه، وقال: هكذا درجته: صحيح، أو ضعيف أو فيه مقال، أو له شواهد، أو رواه فلان أو فلان أو ما أشبه ذلك، هكذا يذكر كثيرًا من ذلك، وقبيل موته بنحو شهر أو نحوه سألته عن حديث مرَّ بنا؛ وكنت كثيرًا ما أستدل به، فلما ذكرتُه له قال: إنه ضعيف. مما حملني على أن أتحاشى عن الاستدلال به مع كثرة من يستدل به. لا شك أن هذا مما فتح الله تعالى عليه من المعرفة والتخصص والتوغل في علم الحديث، ولم يكن هذا أيضًا شغله الشاغل، بل علمه في جميع الفنون كثير". [24]
وقال تلميذه الشيخ عبدالمحسن العباد: "كان - رحمه الله - عالمًا بالحديث والفقه، له عناية بالدليل، وحرصٌ على الرجوع إلى الأدلة والتمسك بها، والحث على سلوك هذا المسلك، فكان معنيًّا بالحديث، ومعرفة صحيحه وضعيفه، ورجاله، ومن يتكلم فيه منهم، وكان في فتاواه وفي دروسه يذكر ذلك، فيقول: الحديث الفلاني صحيح، أو ضعيف؛ لأن في سنده فلانًا، أو أنه منقطع، أو أنه مرسل، أو أنه كذا، أو أنه كذا". [25]
هذه مقتطفات من شهادات أهل العلم الأجلاء، الذين يعرف العالم المسلم مكانتهم ومنزلتهم، يبينون مكانة وعلو منزلة سماحة الشيخ ابن باز في علم الحديث وتمكنه منه، وعنايته الفائقة به.
ومن كل ما سبق نعرف شيئًا من المكانة التي كان عليها سماحة الشيخ في هذا العلم في الحفظ والضبط والاتقان والتخصص.
هذه شذرات من مظاهر عنايته - رحمه الله - بالحديث النبوي الشريف التي هي غيض من فيض وقليل من كثير.
 
  1. انظر: جوانب من سيرة الإمام ابن باز، لمحمد الموسى (34).
  2. انظر: بحث محكم بعنوان "اهتمام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بالحديث النبوي وأثره في العقيدة"، للدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل، مجلة الدرعية العدد (33).
  3. انظر: موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (154/1-159).
  4. بحث محكم بعنوان "اهتمام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بالحديث النبوي وأثره في العقيدة" للدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل، مجلة الدرعية العدد (33).
  5. المصدر السابق.
  6. الممتاز في مناقب ابن باز، لعائض القرني (67).
  7. بحث محكم بعنوان "اهتمام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بالحديث النبوي وأثره في العقيدة" للدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل، مجلة الدرعية العدد (33).
  8. انظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، لمحمد الموسى (373-377).
  9. ترجمة عبدالعزيز ابن باز، لابن القاسم (226-227).
  10. انظر: جوانب من سيرة الإمام بن باز، لمحمد الموسى (203،120).
  11. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (44/1).
  12. المصدر السابق (215/1).
  13. المصدر السابق (215/1).
  14. الإمام ابن باز دروس ومواقف وعبر، لعبدالعزيز السدحان (25).
  15. المصدر السابق (24-25).
  16. المصدر السابق (26).
  17. انظر: المصدر السابق (26-27).
  18. انظر: جوانب من سيرة الإمام بن باز، لمحمد الموسى (203،120).
  19. ذكر الشيخ عبدالعزيزالسدحان أمثلة لهذا في كتابه الإمام ابن باز (20، 24-28).
  20. الإمام ابن باز دروس ومواقف وعبر، لعبدالعزيز السدحان (20).
  21. انظر: الإبريزية في التسعين البازية، لحمد بن إبراهيم الشتوي (124).
  22. فتح الجليل في ترجمة وثبت شيخ الحنابلة عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل: لمحمد زياد بن عمر التكلة، ط1، 1425هـ، دار البشائر الإسلامية (125).
  23. لقاء مع سماحته في الإذاعة سنة 1403هـ.
  24. ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، لابن القاسم (226).
  25. محاضرة: الشيخ ابن باز نموذج من الرعيل الأول (10-11).