في مجالات التربية
المتتبع للسيرة العملية والعلمية لحياة الشيخ - رحمه الله - يجد أن سماحته اهتم بالتربية الإسلامية التي لابد أن يكون عليها الفرد المسلم بل والمجتمع أجمع؛ ولذا فإننا نجد أن هذا الاهتمام من سماحته بأمر التربية كان من خلال هذه المجالات:
الأول: التربية الإيمانية:
يؤكد الشيخ - رحمه الله - على هذا المجال أكثر من غيره، فنجده يتحدث عن الإيمان، ويفرد له المحاضرات والدروس، ويتحدث عن التوحيد وعن العقيدة الصحيحة، والرسالة التي أرسلت من أجلها الرسل، ويجليها ويوضحها في دروسه ومحاضراته عندما يسأل عن مسألة تتعلق بهذا الجانب؛ ولذا فإننا نجد أن هذا المجال قد شغل حيزًا كبيرًا في حياة سماحته - رحمه الله - علمًا وتعليمًا ودعوةً وتربيةً، فهذا المجال لا يكاد ينفك عنه لما يوليه من اهتمام بالغ.
يقول - رحمه الله: "فإن الإيمان هو الدين كله، وهو الإسلام، وهو الهدى، وهو البر والتقوى، وهو ما بعث الله به الرسول عليه الصلاة والسلام من العلم النافع والعمل الصالح، كله يسمى إيمانا". [1]
ويبين - رحمه الله - أن أصول الإيمان وأركانه ستة وأنها أصل الدين كله فيقول - رحمه الله:
"لما سئل ﷺ عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره[2]، ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان، وهي في نفسها أصول الدين كله؛ لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملًا وقد يكون ناقصًا". [3]
والإيمان والإسلام إذا ذكر كل واحد منهما على حدة فيعني ذلك الدين كله، أما إذا اجتمعا فالإيمان يعني الأمور الباطنة والإسلام يعني الأمور الظاهرة، يقول - رحمه الله:
"فالإسلام أخص بالأعمال الظاهرة التي يظهر بها الانقياد لأمر الله والطاعة له والانقياد لشريعته وتحكيمها في كل شيء، والإيمان أخص بالأمور الباطنة المتعلقة بالقلب من التصديق ...". [4]
وهكذا نجد أن هذا المجال كان شغله الشاغل، وكانت عنايته به واهتمامه أكثر من المجالات الأخرى.
الثاني: التربية التعبدية:
لتجرده - رحمه الله - وإخلاصه وحرصه على تتبع سنة النبي ﷺ وهديه نجده حريصًا على أن يكون ما يصدر منه موافق لذلك.
ومجال التربية التعبدية هو المجال الثاني الذي اعتنى به الشيخ - رحمه الله - وركز عليه في جانب التربية، ومما قال فيه:
"فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم القائل في كتابه الكريم:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:54-56].
وأخبرنا سبحانه في موضع من كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته، فقال : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي توحيده بأنواع العبادة: من الصلاة والصوم والزكاة والحج والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره، وترك نواهيه، على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعًا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها، والأمر بإخلاصها لله وحده". [5]
وهذا غيض من فيض، وإلا فأقواله في هذا متوافرة، وفتاواه متكاثرة، تحث على ذلك وتبينه وتجليه.
الثالث: التربية العلمية:
لقد كان لهذا المجال في حياة الشيخ - رحمه الله - مكان عظيم حيث سلك هذا الطريق منذ طفولته، فحفظ القرآن، وطلب العلم، وعلم وتعلم؛ حتى أصبح قدوة عظيمة في هذا المجال، وسيرته العلمية خير قدوة للمربين.
وأما كلامه - رحمه الله - عن هذا المجال فأكثر من أن يحصر فقد تحدث كثيرًا عن فضل العلم وأخلاق أهله، وفصل فيه وبين وشرح ووضح أنواع العلم وأهميته في حياة المسلم ونتائجه في الدنيا والآخرة، فمن ذلك قوله:
"فلا ريب أن طلب العلم من أفضل القربات، ومن أسباب الفوز بالجنة والكرامة لمن عمل به، ومن أهم المهمات الإخلاص في طلبه، وذلك بأن يكون طلبه لله لا لغرض آخر؛ لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية في الدنيا والآخرة". [6]
ويقول أيضًا: "فمما لا شك فيه أن العلم هو الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها مقومات الحياة البشرية، وأولى العلوم بالاهتمام والعناية هو معرفة علم الشريعة الإسلامية، إذ به تعرف الحكمة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأجلها، وأرسلت الرسل لتحقيقها، وبه عرف الله، وبه عبد". [7]
ولعنايته بهذا المجال نجده - رحمه الله - قد فرغ أوقاتًا كثيرة لطلبة العلم، فكان يلقي الدروس، وتقرأ عليه الكتب المتنوعة في فنون العلم، ويجلس الساعات الطويلة للتباحث مع تلاميذه.
الرابع: التربية الأخلاقية:
شغل هذا المجال جانبًا من اهتمامات الشيخ - رحمه الله - وقد فصل فيه وأجمل، فيقول - رحمه الله:
"ففي كتاب الله وسنة رسوله ﷺ بيان الأوامر والنواهي التي جاء بها نبينا محمد ﷺ، وفيها بيان الأخلاق التي مدحها سبحانه وأثنى عليها؛ من أخلاق المؤمنين، وأخلاق المؤمنات، وصفاتهم، وأعمالهم". [8]
وقد فصل - رحمه الله - وبين أخلاق المؤمنين في معرض شرحه وتفسيره لسورة الفرقان عند قوله الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]. [9]
الخامس: التربية الاجتماعية:
هذا المجال قد عناه الشيخ - رحمه الله - عناية خاصة واهتم به اهتمامًا بالغًا، وفصل في الكلام عليه في كثير من دروسه ومحاضراته وكتاباته، وفتاويه، وهذا المجال يشمل الأمور الآتية:
1- الأخوة الإسلامية وحقوقها.
2- حقوق الوالدين.
3- حقوق الأولاد.
4-حقوق الزوجية.
5-حقوق الأقارب.
6- حقوق الجار.
7- حقوق اليتامى.
8- حقوق الفقراء والمساكين.
9- حقوق ولاة الأمر.
وعند التفصيل في هذه الحقوق نجد أن الشيخ - رحمه الله - له توجيه في كل مطلب من هذه المطالب، كما أن له توجيه للمجتمع كاملًا في هذا الشأن. [10]
السادس: التربية الدعوية:
وهذا الميدان من أبرز الميادين التي كان الشيخ - رحمه الله - يوجه إليه في كل محفل وفي كل محاضرة وفي كل زيارة ويؤكد عليها، ويبين فضائل دعوة الناس إلى هذا الدين، وأن هذا مما تميز به ديننا وتربيتنا الإسلامية عن غيرها.
والشيخ - رحمه الله - قد بلَّغ الدعوة في الداخل والخارج وربى طلابه على هذا المجال وهذا الميدان فانطلقوا يربون الناس، فلقد وجد أنه - رحمه الله - كان يكفل أكثر من ألف داعية في أنحاء العالم وبلغات مختلفة ورتب لهم المكافآت، ويلتقي بهم في المواسم. [11]
وقد بين - رحمه الله - أهمية الدعوة لهذا الدين وأساليب الدعوة وشروطها وثمراتها وحذر بعض الدعاة من بعض الأساليب، وكتب وألف وألقى في هذا الميدان بما يعادل آلاف الصفحات، وكتابه المشهور في ذلك (الدعوة والدعاة)، وهذا بعض مما قاله في هذا الميدان:
يقول - رحمه الله: "الدعوة إلى الله شأنها عظيم، وهي من أهم الفروض والواجبات على المسلمين عمومًا وعلى العلماء بصفة خاصة، وهي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الأئمة فيها عليهم الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله طريق الرسل وطريق أتباعهم إلى يوم القيامة، والحاجة إليها معلومة، فالأمة كلها من أولها إلى آخرها بحاجة شديدة، بل في ضرورة إلى الدعوة إلى الله، والتبصير في دين الله، والترغيب في التفقه فيه والاستقامة عليه، والتحذير مما يضاده أو يضاد كماله الواجب أو ينقص ثواب أهله ويضعف إيمانهم.
فالواجب على أهل العلم بشريعة الله أينما كانوا أن يقوموا بمهمة الدعوة؛ لأن الناس في أشد الضرورة إلى ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونحن في غربة من الإسلام وقلة من علماء الحق، وكثرة من أهل الجهل والباطل والشر والفساد، فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يستقيموا على الدعوة وأن يصبروا عليها يرجون ما عند الله من المثوبة ويخشون مغبة التأخر عن ذلك والتكاسل عنه، والله سبحانه وتعالى أوجب على العلماء أن يبينوا، وأوجب على العامة أن يقبلوا الحق وأن يستفيدوا من العلماء وأن يقبلوا النصيحة، يقول الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
فأحسن الناس قولًا من دعا إلى الله وأرشد إليه وعلم العباد دينهم وفقههم فيه، وصبر على ذلك وعمل بدعوته، ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله، هؤلاء هم أحسن الناس قولًا، وهم أصلح الناس وأنفع الناس للناس وهم الرسل الكرام والأنبياء وأتباعهم من علماء الحق.
فالواجب على كل عالم وطالب علم أن يقوم بهذا العمل حسب طاقته وعلمه، وقد يتعين عليه إذا لم يكن في البلد أو في القبيلة أو في المكان الذي وقع فيه المنكر غيره؛ فإنه يجب عليه عينا أن يقول الحق وأن يدعو إليه، وعند وجود غيره يكون فرض كفاية إذا قام به البعض كفى، وإن سكتوا عنه أثموا جميعًا، فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن ينصحوا لله ولعباده، وأن يقوموا بواجب الدعوة في بيوتهم ومع أهليهم وفي مساجدهم وفي طرقاتهم وفي بقية أنحاء قريتهم وبلادهم وفي مراكبهم من طائرة أو سيارة أو قطار أو غير ذلك.
فالدعوة مطلوبة في كل مكان أينما كنت، والحاجة ماسة إليها أينما كنت، فالناس في الطائرة محتاجون، وفي السيارة محتاجون، وفي القطار محتاجون، وفي السفينة محتاجون إلى غير ذلك، وأهلك كذلك يلزمك أن تعنى بهم أولًا كما قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقال لنبيه وخليله محمد ﷺ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وقال سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54-55]، فالواجب على طالب العلم أن يعنى بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه إلى غير ذلك يعلمهم ويرشدهم ويدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كما قال : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، ثم قال سبحانه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، يعني من كان بهذه الصفة فهو المفلح على الحقيقة على الكمال، وقد أمر الله بالدعوة في آيات ورغب فيها سبحانه كما في قوله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] الآية، وقوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل النبي ﷺ، وهي سبيل أتباعه من أهل العلم كما قال الله : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].
فالواجب علينا جميعًا أن نعنى بهذه المهمة أينما كنا، والواجب على أهل العلم كما تقدم أن يعنوا بها غاية العناية، ولا سيما عند شدة الضرورة إليها في هذا العصر فإن عصرنا يعتبر عصر غربة للإسلام لقلة العلم والعلماء بالسنة والكتاب ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور والمعاصي وأنواع الكفر والضلال والإلحاد، فالواجب حينئذ يتأكد على العلماء في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته وأداء واجبه وترك معصيته...". [12]
السابع: التربية الجهادية:
كان للشيخ - رحمه الله - توجيهاته في هذا الشأن فإليك هذه المحاضرة التي نشرت في جريدة الرياض بتاريخ 5/7/1411هـ، يقول - رحمه الله:
"فنرى أن من المهم بيان حكم الله سبحانه وتعالى في جهاد أعدائه بالمال والنفس واللسان، وقد أكثر الله سبحانه من ذكر الجهاد في كتابه الكريم، وهكذا نبيه ﷺ جاءت عنه الأحاديث الصحيحة تأمر بالجهاد وتدعو إليه وتشجع عليه وتذكر فضل أهله وما لهم عند الله من المثوبة العظيمة.
ومن هذا قوله سبحانه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41] فأمر سبحانه بالجهاد بالمال، والنفس، وبالنفير خفافا وثقالا، وما ذاك إلا لعظم شأن الجهاد وشدة الحاجة إليه لما يحصل به من رفع راية الإسلام ورفع أعلامه وتنفيذ أحكامه وإزاحة العقبات عن طريق دعوته، ولما في الجهاد أيضا من نشر دين الله وبيان حقه على عباده، ولما فيه أيضًا من إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من حكم الطاغوت إلى حكم الله ، ومن ضيق الدنيا وظلمها وجورها إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام.
وقال جل وعلا في كتابه الكريم أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11] فأخبر سبحانه وتعالى أن التجارة المنجية من العذاب الأليم هي الإيمان والجهاد، وشوق إليها سبحانه وتعالى بقوله: تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وبقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ.
فالداعي هو الله ، والواسطة هو محمد عليه الصلاة والسلام وهو الذي أنزل الله عليه الكتاب العظيم وبلغه إلينا. والتجارة المنجية من عذاب أليم هي إيماننا بالله سبحانه وبرسوله إيمانا صادقا يتضمن توحيده والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه، ونقف عند حدوده سبحانه وتعالى، ومن جملة طاعته وطاعة رسوله الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولهذا ذكر الجهاد بعد الإيمان تنبيها على عظم شأنه وشدة الحاجة إليه، وإلا فمن المعلوم أنه من شعب الإيمان حتى قال بعض أهل العلم أن الجهاد هو: الركن السادس من أركان الإسلام، وما ذاك إلا لعظم ما يترتب عليه من المصالح العظيمة فهو شعبة عظيمة وفرض عظيم من فروض الإيمان وهو يكون بالنفس، ويكون بالمال، ويكون باللسان، ويكون بأنواع التسهيل الذي يعين المجاهدين على قتال عدوهم.
فالدعوة إلى الله والإرشاد إليه والتشجيع على الجهاد والتحذير من التخلف والجبن كل هذا من الجهاد باللسان، ونصيحة المجاهدين وبيان ما أعد الله لهم من الخير والعاقبة الحميدة كله من الجهاد باللسان، والإنفاق في سبيل الله في مصالح الجهاد وفي حاجة المجاهدين وتجهيزهم وإعطائهم السلاح والآلة المركوبة من طائرة ومن سيارة ومن غير ذلك كل ذلك من الجهاد في سبيل الله بالمال.
وبين سبحانه وتعالى في الآية الكريمة أن الإيمان والجهاد هما التجارة المنجية من عذاب الله، فما أشرفه من عمل وما أعظمه من عمل.
وقال النبي ﷺ: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله[13]، وقال عليه الصلاة والسلام: غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها[14]، ولكن الجهاد بالمال له شأن عظيم فهو أوسع أنواع الجهاد؛ لأن المال يستعان به على استخدام الرجال واستخدام السلاح واستخدام الدعاة، فالمال أوسعها وأكثرها نفعا، ولهذا بدأ به الله في الآيات قبل النفس في أغلب الآيات، بدأ الله بالمال قبل النفس وما ذاك إلا لعظم نفعه ولكثرة ما يحصل به من الخير والعون للمجاهدين.
فالجهاد بالمال جهاد عظيم ينفع المجاهدين ويعينهم على عدوهم بصرفه في استخدام المجاهدين وتجهيزهم وتفريغهم للجهاد، والإحسان إلى عوائلهم، ويصرف أيضا في شراء السلاح الذي يجاهد به، ويصرف أيضا في حاجتهم من اللباس والطعام والخيام وغير ذلك، ومصالحه كثيرة.
ولهذا بدأ الله به في أغلب الآيات كما في قوله سبحانه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] وفي هذه الآية يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13]
وهذا فضل من الله أن المجاهدين تحصل لهم هذه الأمور العظيمة: غفران الذنوب ودخول الجنة، والنجاة من النار، ومع كل ذلك فتح قريب ينصرهم الله ويؤيدهم على أعدائهم إذا صدقوا واستقاموا وصابروا كما قال في حق المجاهدين: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] هذا وعده لأهل الإيمان إذا جاهدوا عدوهم وصبروا واتقوا ربهم فالله ينصرهم ويعينهم ويكفيهم شر أعدائهم كما قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] ويقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ويقول سبحانه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41].
العاقبة لله يجعلها لمن يشاء سبحانه وتعالى، فإذا صبر أهل الإيمان واتقوا ربهم وجاهدوا في سبيله عن إيمان وإخلاص وأعدوا العدة اللازمة فإن الله ينصرهم ويعينهم، ويجعل العاقبة لهم سبحانه وتعالى كما وعد سبحانه وتعالى بذلك.
ويقول جل وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
فالصبر والصدق والتقوى لله هي أسباب النصر وعناصر الفوز". [15][16]
ألا ما أحوج الدعاة وطلبة العلم إلى التنبه لهذه المجالات وتربية الأمة عليها، والانتفاع بما تركه سماحة الشيخ - رحمه الله - من توجيهات حسنة وإشارات جميلة لهذه الأمور التربوية.
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/3).
- رواه الترمذي (2610)، والنسائي (4990).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/3).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/3).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (67/1).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (322/2).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (316/2).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (42/4).
- انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (42/4).
- انظر: الآراء التربوية عند الإمام ابن باز، عبدالعزيز الخطابي، (ص 366).
- انظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، لمحمد الشويعر (ص 471-479)، الآراء التربوية عند الإمام ابن باز، عبدالعزيز الخطابي، (ص 408).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (411/6-412).
- رواه الترمذي (2616)، ابن ماجه (3973).
- رواه البخاري (6568)، ومسلم (1880).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (336/7-340).
- انظر: الآراء التربوية عند الإمام ابن باز (ص 313).