اللهم ارفع منزلته في عليين
أسامه بن زيد المنيفي
الزلفي
الزلفي
مهما سطر اليراع من القوافي والمنثور في وصف فاجعتنا ومصيبتنا في وفاة إمامنا ووالدنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز فهو مقصر فلقد طوفت الآفاق في ذكر سيرة ومآثر وأخلاق الشيخ وأشادت بها الركبان، وشهد بها القاصي والداني.
لقد قيض الله لهذه الأمة المحمدية في جل أعصارها رجالًا أفذاذًا وعلماء وبانين، يجددون لها ما خلق في قلوب العباد من أمور الدين ويعيدون فيها ما اندرس من معالم الشريعة، يحملون راية التوحيد والسنة، ويكشفون عوار الشرك والضلالة والبدعة، يحيون فيها رسالة المرسلين وميراث النبيين من الدعوة إلى الله ونصح المسلمين والقيام على حدود الله والذّب عن حرمات الدين، تخلقوا بأخلاق النبوة وتأدبوا بآداب الشريعة فدعوا العباد إلى الله تعالى بأقوالهم وأفعالهم، فهم العدول حيث ورد في الحديث: يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
والحديث عن سماحة الإمام الوالد كما نحسبه جميعًا ولا نزكي على الله أحدًا حديث عن هذا الصنف من تلك الصفوة المذكورة التي أرادها الله أن تكون منارًا للمسترشدين ومثلًا حيًا للمتخلقين بأخلاق القرآن.
هذا الإمام بسيط في عظمته، متواضع في هيبته قريب في رفعته.
هذا الإمام رباني فلا يقول إلا بالوحي نصًا وروحًا ولفظًا وفقهًا، يعيش مع الناس وقلبه في الملأ الأعلى - همة عالية - يتزاحم الناس على بابه وتحيط به الأمور والأحداث وتدلهم الخطوب ومع ذلك فاللسان لا يفتر عن ذكر خالقه ومناجاة حبيبه:
إذا كان حب الهائمين من الورى | بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا |
فماذا عسى أن يفعل الهائم الذي | سرى قلبه شوقًا إلى العالم الأعلى |
هذا الإمام علم يتسلم الذروة في الرجال ويعلو القمة في الأفذاذ دينًا وورعًا وعلمًا وفضلًا وكرمًا وجودا ولا نزكي على الله احدًا.
إيمان عميق، وعقيدة راسخة في الله ورسوله وكتابه، أثر ذلك في سيرته ومسيرته سلوكًا حسنًا وورعًا وزهدًا وصدقًا في اللهجة، وحبًا للناس وعطفًا ورقة وكرمًا وبذلًا.
هذا الإمام هو الذي يزكو شكره، ويعلو عند أهل العصر ذكره، ويعني الأمة أمره، الصفة عنده واقعة موقعها، والفضيلة إليه سالكة طريقها، إن أوجز في الموعظة كان شافيًا وإن أطنب كان مذكرًا وإن نبّه إلى ملاحظة فهو المؤدَّب والمؤدِّب، وإن أسهم في التوجيه فهو المفهم، واضح البيان صادق الخبر، بحر العلوم، نزهة المتوسمين، خصيم الباطل، نصير الحق، سراج يستضيء به السالكون، لين العريكة أليف مألوف، يرفعه في أعين الناس صغر الدنيا في عينيه، لا يتطلع إلى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، إذا جد الجد فهو القوي والغيور، لا يشارك في مراء، ولا يلوم إذا وجد للعذر سبيلًا، لم ير متبرمًا ولا متسخطًا ولا شاكيًا ولا متشهيًا، لا يخص نفسه باهتمام دون إخوانه، واسع الشفاعة، طويل يد العون، هو شمس العلماء وقمر الفقهاء وحلية الأولياء وأستاذ النجباء، تمر به العواصف المدمرة وهو ثابت كالطود الأشم، وتنزل من حوله النوازل المخيفة وهو شامخ شموخ الجبال الرواسي.
هذا الإمام يعلم أن الأمة واحدة وأن العالم الإسلامي كل لا يتجزأ، وإن تباعدت أقطاره وتناءت دياره، كم من دمعة في الأمة مسحها، وكم من يتيم أحسن إليه وكفله، وكم من مشرد لم شعثه وآواه بعد الله، وكم من داعية ومصلح تكفل براتبه لنشر دين الله والدعوة إليه.
همه السعي في حاجات المسلمين أفرادًا وهيئات، والاهتمام بهم حيثما كانوا وأينما وجدوا.
هذا الإمام بارك الله في علمه فانتفع به خلق كثير سواء في حلقات التدريس أوفي المحاضرات في الجامعات والمدارس والهيئات، أو في نصحه وإرشاده في كل مناسبة أو في برامج الإذاعة، أو في ما ينشر في الصحافة، أو في منزله العامر، أو في مقر عمله، لا يدخر جهدًا في التوجيه والنصح والإرشاد، محب لولاة الأمر - وفقهم الله وأيدهم - ناصح لهم، عون لهم على كل خير سالك الطريق الوسط، لا إفراط ولا تفريط، وقد عرف ولاة الأمر لسماحته قدره ومنزلته ورأوا فيه العالم الفاضل الكفيّ، فكانوا له نعم المعين والسند - بعد الله - انطلاقًا من نهجهم الكريم في محبة العلماء وتقديرهم، وقد سبق أن منح سماحته جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام تقديرًا لعلمه وجهوده في هذا المجال.
وأحسب أنني أسأت إلى مقام الإمام بهذه الكتابة المتواضعة وإلا فهذا قليل من كثير وغيض من فيض وإلا فماذا عسانا أن نفعل أمام هذا الخطب الجلل؟! إننا لا نملك إلا نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها، قدس الله روحه ونور عليه ضريحه وأعلى منزلته.
للشمس فيه وللرياح وللسحاب | وللبحار وللأسود شمائل |
هزمت مكارمه المكارم كلها | حتى كأن المكرمات قبائل |
علامة العلماء واللج الذي | لا ينتهي ولكل لج ساحل |
لوطاب مولد كل حي مثله | ولد النساء وما لهن قوابل |
يا فخره، الناس فيه ثلاثة | مستعظم أو حاسد أو جاهل |
ولقد علوت فما تبالي بعد ما | عرفوا أيحمد أم يذم القائل |
الطيب أنت إذا أصابك طيبه | والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل |
وصلى الله وسلم على نبينا محمد. [1]
- جريدة الجزيرة، الثلاثاء، 3 صفر 1420هـ.