مرضه وأيامه الأخيرة
متَّع الله تعالى سماحة الشيخ - رحمه الله - بالصحة والعافية في أغلب فترات حياته، غير أنه كانت تُصيبه أمراض عارضة، فيُصرّ على مواصلة العطاء دون أخذ قسطٍ من الراحة، ويتحامل على نفسه لقضاء مصالح المسلمين.
وقبل وفاته بنحو خمس سنوات راجع مستشفى الملك فيصل التخصصي لإجراء بعض الفحوصات، فلما رأى الأطباء ضعف قواه وكبر سنه طلبوا من أبنائه إقناعه بتخفيف الأعباء عن نفسه وأخذ قسط من الراحة، لكنه - رحمه الله - لما أُخْبر بذلك أبى أن يأخذ راحةً ويترك مصالح المسلمين، وواصل عمله المعتاد دون تغيير.[1]
بداية المرض:
بدأ مرض الشيخ الأخير الذي تلته الوفاة - وهو سرطان المريء - في أواخر شهر شعبان سنة 1419هـ، حيث شعر الشيخ بألم شديد في أعلى بطنه تحت التجويف الصدري، ولكنه صبر على الألم أيامًا راجيًا زواله، فلما استمر معه الألم واشتد بدأ في مراجعة المستشفى التخصصي بالرياض.
واشتدت معاناته - رحمه الله - في شهر رمضان من العام نفسه؛ حيث عانى من آلام شديدة عند تناول الطعام والشراب، فلم يكن يستطيع بلع الطعام بسهولة، وكان يتقيَّأ أحيانًا، بل إنه في آخر رمضان لم يكن يأكل شيئًا، واكتفى بتناول بعض السوائل، حتى نزل وزنه في مدة أربعة أشهر من 80 كيلو إلى 45 كيلو، ومع هذا حرص على مواصلة نشاطه اليومي وكأن شيئًا لم يكن، فكان يتحامل على نفسه ويخرج إلى الناس ويجلس في مجالسه المعتادة لقضاء مصالحهم، فتُقرأ عليه المعاملات، ويستقبل أسئلة السائلين، ويُلقي الدروس، دون أن يُشعر من حوله أنه مريض. [2]
عمل متواصل في المستشفى:
اشتد المرض على الشيخ في شهر شوال، حتى إنه في يوم جمعةٍ لم يستطع أن يخرج إلى صلاة الجمعة ولا إلى غيرها من الصَّلوات طيلة اليوم، فنُقِلَ إلى المستشفى التخصصي بالرياض في حالة إعياء وإرهاق، فرأى الأطباء بقاءه في المستشفى إلى أن تتحسن حالته.
وفي المستشفى لم يكن سماحة الشيخ - رحمه الله - يضيع لحظةً واحدةً بلا عمل، بل استمر في نشاطه العلمي والعملي المعتاد، ناقلًا ما كان يقوم به في المكتب والبيت إلى المستشفى، وعن هذا الأمر يحدثنا الشيخ محمد الموسى قائلًا:
"اتصلت ببعض المرافقين له وسألتهم عن حالته، قالوا: إنه بخير، ولكنه يُحب أن تُقرأ عليه المعاملات أو الكتب، فقام أحد المرافقين له بالقراءة، فقرأ قدرًا لا بأس به، ثم ناموا، فلما جاء وقت التهجد قام سماحته على عادته، فصلى ما شاء الله أن يصلي إلى أن حان وقت أذان الفجر، فصلى الفجر بمن معه، ثم استقبلهم بوجهه وألقى عليهم كلمة، ثم أتى بالأذكار كاملة، وبعد ذلك سأل الأخ صلاح - أمين المكتبة - ماذا معك يا صلاح؟ قال: معي (فتح الباري)، و(فتح المجيد). فقال له: سمِّ الله، اقرأ. فقرأ عليه إلى حوالي السابعة والنصف، ثم ذهبتُ إلى المستشفى لأطمئن على سماحته في الساعة الثامنة والنصف، فلما دخلت على سماحته - وكنت أظنه نائمًا - وجدته جالسًا على كرسي يقرأ القرآن، فسلَّمتُ عليه، فرد السلام، وقال: ماذا معك؟ فقلت: معي معاملات كثيرة، ومعي الجزء الثاني عشر من فتاوى اللجنة الدائمة، حيث صدر حديثًا من المطابع. فقرأت عليه معاملةً طويلةً تتكون من اثنتي عشرة صفحة، ثم بدأت بكتاب فتاوى اللجنة، فقرأت عليه أربعين صفحة، فجاء ابنه عبدالله، فبدأ يكمل القراءة إلى أن بلغ الصفحة الخمسين".[3]
هكذا كان - رحمه الله - طيلة حياته، يعمل بجدٍّ واجتهادٍ، ويتحامل على نفسه، حتى إنَّه في اليوم الذي خرج فيه من المستشفى أبى أن يذهب إلى البيت ليرتاح، وأصرَّ على الذهاب إلى مكتبه ليمارس عمله المعتاد، قائلًا لمن حوله:
"أصحاب الحاجات - الله يلطف بنا وبهم - ينتظرون".[4]
عدم القدرة على الحج:
وفي شهر ذي القعدة ازدادت الحالة الصحية لسماحة الشيخ سوءًا، وكان قد عزم على الحج - كعادته كل عام - فألح عليه الأطباء والأمراء والمقربون من سماحته بترك الحج هذا العام خوفًا على صحته، وبعد إلحاح شديد وافق وقلبه يتمزَّق ألما، وعيناه تذرفان الدموع، حيث إنه لم ينقطع عن الحج منذ سبعة وأربعين عامًا.[5]
وحرص - رحمه الله - في تلك الأثناء على متابعة الخدمات المقدمة للحجيج من خلال خيمته، عن طريق الاتصال اليومي بمستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر المُكَلَّف بتنظيم ضيافة الحجيج في خيمة الشيخ، فقد اعتاد عددٌ من الحجيج التوافدَ على خيمة الشيخ للسؤال عما يُشْكِل عليهم، وطلب قضاء بعض المصالح، إضافةً إلى إطعام الفقراء والمساكين في بيت سماحته بمكة.[6]
العمرة والإقامة في الطائف:
لم يستطع سماحة الشيخ - رحمه الله - مقاومة شوقه إلى بيت الله الحرام، فقرر التوجّه إلى مكة في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1419هـ لأداء العمرة، وذلك رغم تعبه الشديد ونصح الأطباء له بعدم السفر واستكمال العلاج في الرياض، إلا أنه أصرَّ على أداء العمرة بعدما فاته الحج، ومكث في مكة إلى نهاية ذي الحجة، ثم سافر إلى الطائف.
يقول مستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "كنتُ مع سماحته في الطريق إلى الطائف والإعياء ظاهر عليه، لكنه قوي بالصبر والتحمّل، وكثرة الشكر والحمد لله".[7]
وفي الطائف ازدادت حالة الشيخ سوءًا، فلم يكن يتناول أي طعام، واكتفى بشرب كأس صغير من الحليب يوميًّا، وقليل من الشوربة، وكان يشرب ذلك بصعوبةٍ بالغةٍ، ويقول: لا أجد لذلك طَعْمًا. واستمر - رحمه الله - على تلك الحال إلى وفاته.
ومع هذه الآلام والأوجاع التي عانى منها سماحته إلا أنه لم يُغَيِّر من نظامه المعتاد شيئًا، بل تحامل على نفسه، مؤثرًا قضاء مصالح المسلمين على الاهتمام بصحته، ومُستشعرًا عظم الأمانة التي يحملها على كاهله. [8]
آخر ما قام به سماحة الشيخ:
لما وصل الشيخ إلى الطائف بدأ بإلقاء الدروس المعتادة حين يكون هناك، فكان الدرس يستمر أحيانًا لأكثر من ساعتين دون كللٍ أو مللٍ منه، رحمه الله.
وكان آخر درس ألقاه يوم الاثنين السابع عشر من محرم سنة 1420هـ - أي قبل وفاته بعشرة أيام - واستمر ذلك الدرس قرابة ثلاث ساعات.
وكان يوم الثلاثاء الثامن عشر من محرم سنة 1420هـ هو آخر يوم في الدوام الرسمي للشيخ في مكتب الطائف، إذ إنه في اليوم التالي شعر بالتعب والإرهاق ولم يستطع الخروج للعمل أو الصلاة في المسجد.
وفي يوم الخميس العشرين من محرم سنة 1420هـ نُقِل الشيخ إلى مستشفى الهدى بالطائف، وانتقلت معه المعاملات والرسائل والفتاوى، فقد حوَّل سماحتُه غرفتَه في المستشفى إلى مكتب عمل، فكانت نفسه تأبى أن يرتاح ويترك مصالح المسلمين تنتظر مَن يقضيها، فلعله يكون سببًا في دفع مَضَرَّةٍ عن مسلمٍ، أو جلب خيرٍ له.
وكثرت في تلك الآونة الزيارات لسماحته للاطمئنان عليه، فكان يأتيه الأمراء والعلماء والأعيان والوجهاء وغيرهم من عامة الناس، والشيخ يستقبلهم بترحاب وسرور، مخفيًا عنهم آلامه وأوجاعه، واستمر على تلك الحال إلى يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر محرم سنة 1420هـ.
وبلغ من نشاط الشيخ في تلك الفترة أنه لم يكن يُهمل أي رسالةٍ تأتيه برغم شدة وطأة المرض عليه، حتى إنه رتَّب كل ما له وما عليه بالنسبة لأوضاعه المالية، وجدَّد وصيَّته، وكأنه يشعر بقرب رحيله عن الدنيا. [9]
اقتراح السفر للخارج للعلاج:
قرر الشيخ - رحمه الله - الخروج من المستشفى يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من محرم سنة 1420هـ، بعدما لم يجد فائدةً من الأدوية والعلاجات التي تُعطى له، فقد زاد عليه التعب والإعياء، وتورمت قدماه، وأصبح مشيه ضعيفًا، ومع ذلك قضى معظم هذا اليوم منذ خروجه من المستشفى في قضاء مصالح الناس، واستقبال مَن يأتونه من المسْتَفْتين والمسَلِّمين، وحين أشار عليه ابنه عبدالله بالراحة؛ لأن حالته الصحية لا تسمح بالإجهاد قال له:
"لقد خرجتُ من المستشفى لخدمة المسلمين، ويُسعدني أن أخدم المسلمين حتى لو كنتُ مريضًا، وراحتي هي خدمتهم".[10]
وفي تلك الأثناء حاول محبو الشيخ إقناعه بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج، ولكنه - رحمه الله - لم ينشرح صدره لذلك، وحين كثر الإلحاح عليه قال:
"لقد تأمَّلتُ موضوع السفر كثيرًا، واتفقت أنا والأبناء على أن يذهب بعضُهم إلى أمريكا، ويعرض التقارير على المستشفيات المشهورة هناك، ويُؤخذ رأيهم، وبعد ذلك ننتظر ماذا يختار الله لنا"، ولكن الأجل عاجله قبل ذلك، حيث توفي بعد هذا بيوم، رحمه الله. [11]
اليوم الأخير في حياة الشيخ:
لم يستطع سماحة الشيخ - رحمه الله - النوم في مساء يوم الثلاثاء الذي خرج فيه من المستشفى، لذلك لجأ إلى أخذ قسط من الراحة ضحى اليوم التالي - الأربعاء السادس والعشرين من محرم 1420هـ - وبعد الظهر طلب من العاملين معه عرض ما لديهم من معاملات ورسائل، يقول الشيخ محمد الموسى:
"فلما جلسنا إليه وجدناه مرتاح البال، منشرح الصدر، فاستبشرنا كثيرًا، وحمدنا الله على سلامته". [12]
ولاهتمام الشيخ بأمر المسلمين فقد سأل أول ما سأل عن أخبارهم، فعرض عليه مستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر بعض صحف ذلك اليوم، وقرأ النشرة الإخبارية لسماحته، ثم جعل يتناوب الدكتور الشويعر مع الشيخ محمد الموسى في عرض المعاملات والرسائل على سماحته، فيُعلِّق سماحته عليها بما شاء، ويأمر بإجراء اللازم في كلٍّ منها.
واستمر ذلك المجلس إلى الساعة الثالثة إلا الربع، حيث أنهى سماحته الجلسة وأخبر مرافقيه بأنه سيجلس للناس بعد المغرب، ثم دخل منزله.
استبشر الناس بذلك الخبر، وجعلوا يتناقلون البشرى بسلامة الشيخ، وتوافد الكثيرون على منزل سماحته للسلام عليه والاستئناس بحديثه.
جلس الشيخ - رحمه الله - للناس بعد المغرب، وألقى على مسامعهم موعظةً بليغةً، كأنه يُودِّعهم، ثم جعل يستمع إلى المعاملات والرسائل التي وردته ويُعلِّق عليها بما يلزم، إلى جانب الرد على أسئلة المستفتين عبر الهاتف، وحين سمع أذان العشاء أجاب المؤذن كعادته، ثم سلَّم على الحاضرين مودِّعًا لهم، ودخل إلى منزله، وصلَّى فيه العشاء قاعدًا.
بعد صلاة العشاء جلس الشيخ مع أسرته وبعض أقاربه الذين قدموا للسلام عليه من الرياض والمدينة والقصيم، واستمر ذلك المجلس حتى الثانية عشرة ليلًا، ثم انصرفوا، وجعل الشيخ بعد انصرافهم يذكر الله تعالى ويُصلِّي إلى الساعة الواحدة والنصف، ثم اضطجع على فراشه فنام. [13]
وقبل وفاته بنحو خمس سنوات راجع مستشفى الملك فيصل التخصصي لإجراء بعض الفحوصات، فلما رأى الأطباء ضعف قواه وكبر سنه طلبوا من أبنائه إقناعه بتخفيف الأعباء عن نفسه وأخذ قسط من الراحة، لكنه - رحمه الله - لما أُخْبر بذلك أبى أن يأخذ راحةً ويترك مصالح المسلمين، وواصل عمله المعتاد دون تغيير.[1]
بداية المرض:
بدأ مرض الشيخ الأخير الذي تلته الوفاة - وهو سرطان المريء - في أواخر شهر شعبان سنة 1419هـ، حيث شعر الشيخ بألم شديد في أعلى بطنه تحت التجويف الصدري، ولكنه صبر على الألم أيامًا راجيًا زواله، فلما استمر معه الألم واشتد بدأ في مراجعة المستشفى التخصصي بالرياض.
واشتدت معاناته - رحمه الله - في شهر رمضان من العام نفسه؛ حيث عانى من آلام شديدة عند تناول الطعام والشراب، فلم يكن يستطيع بلع الطعام بسهولة، وكان يتقيَّأ أحيانًا، بل إنه في آخر رمضان لم يكن يأكل شيئًا، واكتفى بتناول بعض السوائل، حتى نزل وزنه في مدة أربعة أشهر من 80 كيلو إلى 45 كيلو، ومع هذا حرص على مواصلة نشاطه اليومي وكأن شيئًا لم يكن، فكان يتحامل على نفسه ويخرج إلى الناس ويجلس في مجالسه المعتادة لقضاء مصالحهم، فتُقرأ عليه المعاملات، ويستقبل أسئلة السائلين، ويُلقي الدروس، دون أن يُشعر من حوله أنه مريض. [2]
عمل متواصل في المستشفى:
اشتد المرض على الشيخ في شهر شوال، حتى إنه في يوم جمعةٍ لم يستطع أن يخرج إلى صلاة الجمعة ولا إلى غيرها من الصَّلوات طيلة اليوم، فنُقِلَ إلى المستشفى التخصصي بالرياض في حالة إعياء وإرهاق، فرأى الأطباء بقاءه في المستشفى إلى أن تتحسن حالته.
وفي المستشفى لم يكن سماحة الشيخ - رحمه الله - يضيع لحظةً واحدةً بلا عمل، بل استمر في نشاطه العلمي والعملي المعتاد، ناقلًا ما كان يقوم به في المكتب والبيت إلى المستشفى، وعن هذا الأمر يحدثنا الشيخ محمد الموسى قائلًا:
"اتصلت ببعض المرافقين له وسألتهم عن حالته، قالوا: إنه بخير، ولكنه يُحب أن تُقرأ عليه المعاملات أو الكتب، فقام أحد المرافقين له بالقراءة، فقرأ قدرًا لا بأس به، ثم ناموا، فلما جاء وقت التهجد قام سماحته على عادته، فصلى ما شاء الله أن يصلي إلى أن حان وقت أذان الفجر، فصلى الفجر بمن معه، ثم استقبلهم بوجهه وألقى عليهم كلمة، ثم أتى بالأذكار كاملة، وبعد ذلك سأل الأخ صلاح - أمين المكتبة - ماذا معك يا صلاح؟ قال: معي (فتح الباري)، و(فتح المجيد). فقال له: سمِّ الله، اقرأ. فقرأ عليه إلى حوالي السابعة والنصف، ثم ذهبتُ إلى المستشفى لأطمئن على سماحته في الساعة الثامنة والنصف، فلما دخلت على سماحته - وكنت أظنه نائمًا - وجدته جالسًا على كرسي يقرأ القرآن، فسلَّمتُ عليه، فرد السلام، وقال: ماذا معك؟ فقلت: معي معاملات كثيرة، ومعي الجزء الثاني عشر من فتاوى اللجنة الدائمة، حيث صدر حديثًا من المطابع. فقرأت عليه معاملةً طويلةً تتكون من اثنتي عشرة صفحة، ثم بدأت بكتاب فتاوى اللجنة، فقرأت عليه أربعين صفحة، فجاء ابنه عبدالله، فبدأ يكمل القراءة إلى أن بلغ الصفحة الخمسين".[3]
هكذا كان - رحمه الله - طيلة حياته، يعمل بجدٍّ واجتهادٍ، ويتحامل على نفسه، حتى إنَّه في اليوم الذي خرج فيه من المستشفى أبى أن يذهب إلى البيت ليرتاح، وأصرَّ على الذهاب إلى مكتبه ليمارس عمله المعتاد، قائلًا لمن حوله:
"أصحاب الحاجات - الله يلطف بنا وبهم - ينتظرون".[4]
عدم القدرة على الحج:
وفي شهر ذي القعدة ازدادت الحالة الصحية لسماحة الشيخ سوءًا، وكان قد عزم على الحج - كعادته كل عام - فألح عليه الأطباء والأمراء والمقربون من سماحته بترك الحج هذا العام خوفًا على صحته، وبعد إلحاح شديد وافق وقلبه يتمزَّق ألما، وعيناه تذرفان الدموع، حيث إنه لم ينقطع عن الحج منذ سبعة وأربعين عامًا.[5]
وحرص - رحمه الله - في تلك الأثناء على متابعة الخدمات المقدمة للحجيج من خلال خيمته، عن طريق الاتصال اليومي بمستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر المُكَلَّف بتنظيم ضيافة الحجيج في خيمة الشيخ، فقد اعتاد عددٌ من الحجيج التوافدَ على خيمة الشيخ للسؤال عما يُشْكِل عليهم، وطلب قضاء بعض المصالح، إضافةً إلى إطعام الفقراء والمساكين في بيت سماحته بمكة.[6]
العمرة والإقامة في الطائف:
لم يستطع سماحة الشيخ - رحمه الله - مقاومة شوقه إلى بيت الله الحرام، فقرر التوجّه إلى مكة في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1419هـ لأداء العمرة، وذلك رغم تعبه الشديد ونصح الأطباء له بعدم السفر واستكمال العلاج في الرياض، إلا أنه أصرَّ على أداء العمرة بعدما فاته الحج، ومكث في مكة إلى نهاية ذي الحجة، ثم سافر إلى الطائف.
يقول مستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "كنتُ مع سماحته في الطريق إلى الطائف والإعياء ظاهر عليه، لكنه قوي بالصبر والتحمّل، وكثرة الشكر والحمد لله".[7]
وفي الطائف ازدادت حالة الشيخ سوءًا، فلم يكن يتناول أي طعام، واكتفى بشرب كأس صغير من الحليب يوميًّا، وقليل من الشوربة، وكان يشرب ذلك بصعوبةٍ بالغةٍ، ويقول: لا أجد لذلك طَعْمًا. واستمر - رحمه الله - على تلك الحال إلى وفاته.
ومع هذه الآلام والأوجاع التي عانى منها سماحته إلا أنه لم يُغَيِّر من نظامه المعتاد شيئًا، بل تحامل على نفسه، مؤثرًا قضاء مصالح المسلمين على الاهتمام بصحته، ومُستشعرًا عظم الأمانة التي يحملها على كاهله. [8]
آخر ما قام به سماحة الشيخ:
لما وصل الشيخ إلى الطائف بدأ بإلقاء الدروس المعتادة حين يكون هناك، فكان الدرس يستمر أحيانًا لأكثر من ساعتين دون كللٍ أو مللٍ منه، رحمه الله.
وكان آخر درس ألقاه يوم الاثنين السابع عشر من محرم سنة 1420هـ - أي قبل وفاته بعشرة أيام - واستمر ذلك الدرس قرابة ثلاث ساعات.
وكان يوم الثلاثاء الثامن عشر من محرم سنة 1420هـ هو آخر يوم في الدوام الرسمي للشيخ في مكتب الطائف، إذ إنه في اليوم التالي شعر بالتعب والإرهاق ولم يستطع الخروج للعمل أو الصلاة في المسجد.
وفي يوم الخميس العشرين من محرم سنة 1420هـ نُقِل الشيخ إلى مستشفى الهدى بالطائف، وانتقلت معه المعاملات والرسائل والفتاوى، فقد حوَّل سماحتُه غرفتَه في المستشفى إلى مكتب عمل، فكانت نفسه تأبى أن يرتاح ويترك مصالح المسلمين تنتظر مَن يقضيها، فلعله يكون سببًا في دفع مَضَرَّةٍ عن مسلمٍ، أو جلب خيرٍ له.
وكثرت في تلك الآونة الزيارات لسماحته للاطمئنان عليه، فكان يأتيه الأمراء والعلماء والأعيان والوجهاء وغيرهم من عامة الناس، والشيخ يستقبلهم بترحاب وسرور، مخفيًا عنهم آلامه وأوجاعه، واستمر على تلك الحال إلى يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر محرم سنة 1420هـ.
وبلغ من نشاط الشيخ في تلك الفترة أنه لم يكن يُهمل أي رسالةٍ تأتيه برغم شدة وطأة المرض عليه، حتى إنه رتَّب كل ما له وما عليه بالنسبة لأوضاعه المالية، وجدَّد وصيَّته، وكأنه يشعر بقرب رحيله عن الدنيا. [9]
اقتراح السفر للخارج للعلاج:
قرر الشيخ - رحمه الله - الخروج من المستشفى يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من محرم سنة 1420هـ، بعدما لم يجد فائدةً من الأدوية والعلاجات التي تُعطى له، فقد زاد عليه التعب والإعياء، وتورمت قدماه، وأصبح مشيه ضعيفًا، ومع ذلك قضى معظم هذا اليوم منذ خروجه من المستشفى في قضاء مصالح الناس، واستقبال مَن يأتونه من المسْتَفْتين والمسَلِّمين، وحين أشار عليه ابنه عبدالله بالراحة؛ لأن حالته الصحية لا تسمح بالإجهاد قال له:
"لقد خرجتُ من المستشفى لخدمة المسلمين، ويُسعدني أن أخدم المسلمين حتى لو كنتُ مريضًا، وراحتي هي خدمتهم".[10]
وفي تلك الأثناء حاول محبو الشيخ إقناعه بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج، ولكنه - رحمه الله - لم ينشرح صدره لذلك، وحين كثر الإلحاح عليه قال:
"لقد تأمَّلتُ موضوع السفر كثيرًا، واتفقت أنا والأبناء على أن يذهب بعضُهم إلى أمريكا، ويعرض التقارير على المستشفيات المشهورة هناك، ويُؤخذ رأيهم، وبعد ذلك ننتظر ماذا يختار الله لنا"، ولكن الأجل عاجله قبل ذلك، حيث توفي بعد هذا بيوم، رحمه الله. [11]
اليوم الأخير في حياة الشيخ:
لم يستطع سماحة الشيخ - رحمه الله - النوم في مساء يوم الثلاثاء الذي خرج فيه من المستشفى، لذلك لجأ إلى أخذ قسط من الراحة ضحى اليوم التالي - الأربعاء السادس والعشرين من محرم 1420هـ - وبعد الظهر طلب من العاملين معه عرض ما لديهم من معاملات ورسائل، يقول الشيخ محمد الموسى:
"فلما جلسنا إليه وجدناه مرتاح البال، منشرح الصدر، فاستبشرنا كثيرًا، وحمدنا الله على سلامته". [12]
ولاهتمام الشيخ بأمر المسلمين فقد سأل أول ما سأل عن أخبارهم، فعرض عليه مستشاره الدكتور محمد بن سعد الشويعر بعض صحف ذلك اليوم، وقرأ النشرة الإخبارية لسماحته، ثم جعل يتناوب الدكتور الشويعر مع الشيخ محمد الموسى في عرض المعاملات والرسائل على سماحته، فيُعلِّق سماحته عليها بما شاء، ويأمر بإجراء اللازم في كلٍّ منها.
واستمر ذلك المجلس إلى الساعة الثالثة إلا الربع، حيث أنهى سماحته الجلسة وأخبر مرافقيه بأنه سيجلس للناس بعد المغرب، ثم دخل منزله.
استبشر الناس بذلك الخبر، وجعلوا يتناقلون البشرى بسلامة الشيخ، وتوافد الكثيرون على منزل سماحته للسلام عليه والاستئناس بحديثه.
جلس الشيخ - رحمه الله - للناس بعد المغرب، وألقى على مسامعهم موعظةً بليغةً، كأنه يُودِّعهم، ثم جعل يستمع إلى المعاملات والرسائل التي وردته ويُعلِّق عليها بما يلزم، إلى جانب الرد على أسئلة المستفتين عبر الهاتف، وحين سمع أذان العشاء أجاب المؤذن كعادته، ثم سلَّم على الحاضرين مودِّعًا لهم، ودخل إلى منزله، وصلَّى فيه العشاء قاعدًا.
بعد صلاة العشاء جلس الشيخ مع أسرته وبعض أقاربه الذين قدموا للسلام عليه من الرياض والمدينة والقصيم، واستمر ذلك المجلس حتى الثانية عشرة ليلًا، ثم انصرفوا، وجعل الشيخ بعد انصرافهم يذكر الله تعالى ويُصلِّي إلى الساعة الواحدة والنصف، ثم اضطجع على فراشه فنام. [13]
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (560، 561).
- ينظر: المصدر السابق (573، 574)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (603، 784).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (575، 576).
- ينظر: المصدر السابق (575، 576)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (785، 786).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (576، 577)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (784).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (603، 786).
- المصدر السابق (791، 792).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (577، 578)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (793، 794).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (578- 581)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (796، 802).
- موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (1/ 25، 26).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (582، 583)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (802، 803).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (583).
- ينظر: المصدر السابق (582- 586)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (804- 806)، وموسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (1/ 38، 39).