عبدالعزيز بن باز.. العصامي الزاهد

تركي عبدالله السديري
 
انتقل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز إلى رحمة الله بعد أن قدم نموذجًا فريدًا في العصامية والمثابرة والنزاهة وصرامة التقشف..
إن الجميع يعرف مكانته كعالم دين جليل، والجميع أيضًا يعرف شموخ المنصب الذي شغله معظم سنوات حياته العلمية، لكن هناك جوانب في حياته الشخصية هي معروفة دون شك عند خاصته وعند المعنيين بتاريخ من هم أمثاله، لكن هناك في العامة من قد يجهل كيف بدأ هذا الرجل الفذ حياته كدارس وكموظف وكعالم جليل، وهي جوانب مشرقة للغاية في تاريخه الشخصي، ويصح أن تكون نموذجًا لأصالة العصامية الصافية التي صنع عملقة نجاحها وبروزها في كل المستويات منذ بدأ عمله قاضيًا في قرية صغيرة، وحتى أصبح مرجع الفتوى والقضاء في كل أنحاء المملكة، وحتى حقق أيضًا شهرته الواسعة في الدنيا العربية وفي كل ساحات العالم الإسلامي.
ربما لم يكن أحد بمقدوره قبل ما يقارب السبعين عامًا أن يتنبأ بماذا سيكون عليه ذلك الطفل اليتيم الكفيف البصر عندما يكبر؛ لأن الإمكانيات التقليدية التي تصنع نجاح الكثيرين في معظم مرافق الحياة لم تكن تتوفر له، لكن الشاب الذي تتلمذ على يد المرحوم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وحصل تحصيله الديني على يد أكثر من شيخ متخصص استطاع أن يوفر لذاته استقلالية مبهرة لفتت إليه الأنظار وهو في سن الشباب، وكلما واصل إبهاره الفقهي كانت تتواصل شهرته واتساع معرفة الناس بمكانته العلمية، ورغم أنه قفز سريعًا وبتمكن وجدارة نحو مكانة كبيرة من التأهيل والشهرة ومكانة العمل إلا أن ذلك لم يعرضه في أي يوم لأي عداوة تنافس مع أي شخص، بل ظل محترمًا ومرموقًا بين الجميع.
لو كتبت عن الشيخ عبدالعزيز بن باز الفقيه لكنت كمن يعيد على الناس قراءة كتاب سبق أن حفظوه عن ظهر قلب لكنني ـ وقد أشرت إلى عصاميته في بناء ذاته علمًا ومكانة ـ أريد التعرض لجانب فريد ولافت للانتباه في حياته ـ رحمه الله ـ وأعني بذلك تقشفه وبساطته، وهما ميزتان نادرتان في حياة الناجحين من الرجال.
لقد حدث قبل عشرين عامًا تقريبًا أن كتبت موضوعًا وجدانيًا مطولًا على شكل سرد ذاتي لم يرض ـ رحمه الله ـ على بعض ما به من سياق، وقد نصحني سمو الأمير سلمان أن أتصل به شخصيًا وأشرح له ما أريده من الموضوع، وفعلًا ذهبت إلى بيته وكانت حيرتي بالغة في التعرف عليه بين الجالسين لفرط بساطته في ملبسه وموقعه بينهم، حتى إذا سلمت عليه أجلسني بجواره وقضى وقتًا ليس بالقصير يرد على سيل من المكالمات تستفتيه في بعض أمور الدين والحياة، ثم شرحت لفضيلته أن الموضوع عمل فني في الكتابة لا يعني صلتي الشخصية بالأحداث، فقال لي ما معناه.. لا بأس لكن مستقبلا لا تنسب المواقف إلى نفسك؛ لأن هناك من سيتوهم أنك تكتب عن تجربة ذاتية، ثم تمنى لي التوفيق..
إنه ـ رحمه الله ـ لم يكن يتخذ موقفًا لا يقبل المناقشة حيال أي شخص أو موضوع وهذه فضيلة أفق واسع تمتع به - رحمه الله.
أما البساطة فأمر يكاد يقترب من الخيال؛ لأن الرجل الذي تبوأ أعلى المناصب وأكثرها جلالًا ومهابة وتمر ما بين يديه ملايين الهبات والصدقات والمعونات لا يـصنف إطلاقًا من بين الأغنياء، فهو قد عاش حياة كفاف بالغة الزهد والعفاف والنزاهة.
رحم الله الشيخ عبدالعزيز بن باز عالمًا قد ملأ مكانه بجدارة لا تـنكر، وعصاميًا نزيهًا احتل أعلى قمم النجاح. [1]
 
  1. جريدة الرياض، رقم العدد (11282)، 29 محرم 1420هـ.