ابن باز.. الوالد الذي رحل
عبد العزيز الجار الله
في حوار سابق مع سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، ورفع درجاته، وضاعف له المثوبة، وجزاه عما قدمه للمسلمين من دعوة وتعليم، وعناية بشؤونهم ومواساة لفقرائهم، أحسن الجزاء وأفضله ـ وردا على سؤال جريدة "الرياض" لعلكم تجملون الأسباب التي تؤلف القلوب؟ وما المقصود بكسب القلوب؟فجاء رد سماحته بقوله: كسب القلوب: أعمال القلوب، لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني: بما عملنا من الكبر والخيلاء والرياء والسمعة ونحو ذلك.
ويضيف سماحته: فالواجب على المؤمن أن يعتني بقلبه وأن يحرص على عمارته بتوحيد الله والإخلاص له ومحبته وتعظيمه والخوف منه ورجائه حتى تنشأ عن ذلك جميع الأعمال الصالحات وجميع الأقوال الطيبة...
وفي موقع آخر من نفس الحوار يتحدث سماحته عن قسوة الآباء على أبنائهم فيقول: "كان النبي يحب الصفح والعفو، ويؤلف القلوب، فالواجب على الآباء الحرص على تأليف القلوب... ويضيف قال النبي : إن الله يحب الرفق في الأمر كله. ويقول : إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه. فالواجب على الآباء والأمهات والأجداد والجدات الرفق والتحمل والصبر، رجاء صلاح الأولاد...
وهذا منهج وأسلوب سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وغفر له ـ أسلوبه ـ مع أبنائه وطلابه وزملائه وحتى مع خصومه غير المعلنين... حيث سعى إلى تأليف القلوب والتقريب بين وجهات النظر بما يرضي الله ورسوله، وسعى سعيا حثيثا إلى الرفق والعطف والتحمل والصبر، وهذا ما يبرر حب الناس له، وقربهم له، وجعله في موضع الوالد والمربي والمعلم...
شريحة من المجتمع ارتفع صوتها في بكاء على الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز؛ هذه الشريحة قد لا أحد يعرفها رغم أنها تعيش فيما بيننا كما أنها لا تعرف سماحته عن قرب وهو لا يعرف عنها سوى ظروفها التي لمسها وعاش معها... تلك الشريحة هم من أبناء مجتمعنا والشعوب الإسلامية مرت بها نكبات وضائقات مالية أودعت بسببها السجن وتركت الأسر بلا راع وضاع الأبناء.. فجاء لسماحته من يشكو ظروفهم المالية ويبينها ولما تأكد صدق هؤلاء سعى سماحته عند الدولة، وأهل الخير، والميسورين والذين يبحثون عن الأجر والثواب ليسددوا ديونهم ويقضوا حاجتهم ويخرجوهم من السجون ويتبنوا جميع التزاماتهم المالية...
جميعنا يعلم أن المملكة مرت بطفرة اقتصادية ساهم الجميع في البناء والتنمية ومع تغير الظروف الدولية وتوسع البعض في استثماراته أدى إلى خلل في الحسابات المالية فتعرض بعض التجار وصغار المستثمرين إلى خسائر مالية كبيرة دفعت بهم وأسرهم إلى الحاجة والعوز والفقر وحملتهم ديون عجزوا عن تسديدها وانتهى بهم الأمر إلى السجن.. ومن هؤلاء أسماء كان لها دور اجتماعي.. ومعروفة في محيطها الأسري... ومن جانب آخر هناك أسر وعائلات عجز عائلها أن يؤمن لها المسكن والدخل المادي الذي يسترها ويحفظ كرامتها... وهناك شرائح اجتماعية كثيرة جاءتها المصائب والكوارث متراكمة ومنها الأيتام والأرامل والمساكين... هؤلاء وغيرهم الكثيرون كان الشيخ الوالد عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ يتبنى قضاياهم رغم مشاغله ومسؤولياته وارتباطاته، كان سماحته يسعى ليل نهار يتصل ويتحدث ويكتب لأهل الخير والميسورين ورجال الأعمال والذين يرجون ما عند الله ليساعدوا إخوانهم بتحمل الأعباء وتلقي الديون والسداد عنهم وتتم تلك العمليات سرا ويجمع سماحته الطرفين بعد أن يتأكد من صحة صاحب الحاجة ورغبة المتبرع وفاعل الخير...
هذه حقيقة يعرفها أهل الخير كما يعرفها المحتاجون والذين ساهم سماحته - بتوفيق من الله - بإخراجهم من محنتهم ومن الضائقة المالية.
أتمنى أن يسخر الله أحد طلاب الشيخ الوالد عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ وأن يكتب عن أعماله الخيرية الاجتماعية ومساعيه لمساعدة هذه الشريحة من إخواننا وأهالينا... يكتب بطريقة تحفظ للآخرين كرامتهم وتحتفظ بسجلهم السري كما أراده سماحة الوالد حتى يقتدي بها الآخرون وتقدم لهم صورة لهذا الإنسان الفاضل الذي عاش بقلب كبير أحب الناس وأحبوه.
اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وأكرم نزله، ووسع مدخله.. واجعله في جنات الخلد يا غفور يا رحيم[1].
- جريدة الرياض، 29 محرم 1420هـ.