الشيخ ابن باز كما عرفته
الشيخ: حمد الجاسر
لاشك أن الأمة الإسلامية فقدت بوفاة حضرة صاحب السماحة العلامة الإمام الجليل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز علما من أعلامها، ومكافحا عن نهجها الحميد، وناشرا لمأثور علمها الصحيح، المستقى من كتاب الله، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومنهج السلف الصالح، وسائرا على ذلك النهج، ولاسيما في الدفاع عن العقيدة الإسلامية الصاقبة، التي دعى إليها سلف الأمة، وجددها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وسار على نهجه أبناؤه وأحفاده وتلاميذهم حتى عهد الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ، وسيستمر مذهب السلف منصورا إلى أن تقوم الساعة كما ورد في الحديث الشريف.
والمقام ليس مقام تفصيل وإيضاح لما يتصف به من الفضائل، وما امتاز به من الصفات، التي من أبرزها العفة والزهد، وتقوى الله سبحانه وتعالى، ومراقبته في السر والعلن، والعطف والرعاية، والتفقد لأحوال المسلمين، وسد خللهم بقدر ما يستطيع، والإسهام والمساعدة في إنشاء مراكز الدعوة والإرشاد في مختلف أقطار العالم الإسلامي.
وقد كان أحد الإخوة في يوم الخميس 27 من شهر المحرم 1420هـ فاجأني بعد صلاة الظهر بإخباري بنبأ وفاته، فتأثرت حقا، ولكنني استرجعت واستغفرت له، ثم طلب مني الأخ إملاء كلمة تأبين، وكنت في حالة من الارتباك، إلا أنني تمالكت نفسي، فأمليتها، غير أنني لما رأيتها منشورة استغربت فيها بعض التعبيرات التي لا أتصور صدورها مني، ولقد كنت أملي الكلمة ـ لأنني ضعيف السمع ـ بمسمع من أهلي، فبعد انتهائي لم يلاحظ أحد منهم حدوث ارتباك أو خلل في كلامي هذا شيء فات، والفائت لا يمكن رده.
والشيخ عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ أجل ـ وأوسع علما، وأرفع مقاما من أن توفيه المقالات مهما طالت وكثرت جانبا من حقه.
ولاشك أن تلاميذه ومحبيه سيتناولون سيرته ومجريات حياته بالدراسة والبحث والتأليف، وأنهم سيمدون القراء بما هو مفيد لهم من علوم الشيخ وآثاره وفتاواه.
وانما أردت مشاركتي بهذه الكلمة معبرا بها عن تأثري بفقد هذا العالم الجليل. مبتهلا إلى المولى جل وعلا أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلحقه بالرفيق الأعلى من صالح عباده إنه على كل شيء قدير.
كانت معرفتي بالشيخ عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ سنة 1346هـ حين قدمت الرياض، والتحقت بطلبة العلم فكنت أراه ـ رحمه الله ـ وهو يتمتع ببصيص من النور، من طلاب الحلقة الأولى لدى الشيخ محمد بعد صلاة الفجر، إذ كنت من طلاب الحلقة الثانية.
ثم بعد ذلك، مازلت أسمع من أخباره، ومن تقدمه في العلم ما ينطبق عليه قول الشاعر:
كانت محادثة الركبان تخبرني
عن جعفر بن فلاح طيب الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأصدق مما قد رأى بصري
عن جعفر بن فلاح طيب الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأصدق مما قد رأى بصري
كان ذلك عندما قال لي: مطوع مسجد الخرج (السيح) ابن شبرين: الشيخ ابن باز حضر، أتود أن تذهب للسلام عليه، فسررت فاجتمعت به، وقد أنزله ابن سليمان في ضيافته، وشاهدت من طلابه إذ ذاك الأستاذ الشيخ راشد بن خنين، وعبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ، الذي أصبح فيما بعد ملحقا ثقافيا في مصر وغيرها.
سررت حقا من لطف الشيخ، ودقة مساءلته فيما يتعلق بالتعليم في المدرسة من العلوم، وتوصيته لي بأن أعنى بالدروس الدينية، وخاصة التوحيد.
وتدور الأيام وأتولى الإشراف على التعليم في نجد، وأفكر في فتح معاهد منظمة للدراسة في بعض أمهات المدن، ومنها مدينة (الدلم) فكتبت إليه كتابا أوضح الغاية من هذا المعهد، وما سيدرس فيه من العلوم، ومن سيتولى في ذلك ممن يوثق بعقيدته وعلمه، فيسارع ـ رحمه الله ـ بالكتابة إلي مـحبذا الأمر، ومتمنيا أن يكون وسيلة من وسائل نشر العلم النافع.
وبعد فترة أنقل للعمل في (المعهد) الذي أنشأه الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ ووكل إدارته لأخيه الشيخ عبداللطيف عينت مساعدا له، وينضم الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ إلى مدرسيه، حتى تخرج منهم عدد من الطلاب، مما استلزم إنشاء (كلية للعلوم الشرعية) وأخرى (للغة العربية) فتسند إدارة المعهد إلى الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ محمد بن إبراهيم ليتفرغ عمه لمعاونة والده الرئيس العام للمعاهد والكليات، وتسند إلي إدارة الكليتين المذكورتين، ومن مدرسي الأولى الشيخ عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وعدد من العلماء الآخرين كالشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم ـ تغمد الله الجميع بواسع رحمته ـ.
وكان أكثر أساتذة الكليتين من إخواننا من المصريين المتخصصين في اللغة والأدب وغيرها من العلوم، فكان الشيخ محمد بن إبراهيم عندما يقع خلاف في توزيع الدروس على الأساتذة، يكل إلي وإلى الشيخين عبدالعزيز وعبدالرزاق توزيعها، وقد يحدث من بعضهم ما لا يرتضى ما أسند إليه، إلا أن الشيخ ـ رحمه الله ـ يقنعه وتسير الأمور على ما يرام، وحين فكرت بإصدار صحيفة "اليمامة" واستشرته ـ رحمه الله ـ حبذ الفكرة وحثني على المسارعة بتحقيقها، ولما هيأت مواد العدد الأول لشهر ذي الحجة 1372هـ افتتحه بمقال بعنوان (سبيل الدعوة إلى الحق) وكان إذ ذاك مدرسا في (معهد الرياض العلمي) وافتتح العدد الثالث الصادر في شهر صفر سنة 1373هـ بمقال عنوانه (خلاصة الدعوة النبوية) واستمر ـ رحمه الله ـ يوالي إرشاداته ونصائحه وتوجيهاته لي، وقد كنت أبعث المجلة إليه، وحين أصبحت "اليمامة" جريدة كان فيها زاوية نسائية تتولى الإشراف عليها السيدة حصة الفضل زوجة الأستاذ محمد سعيد باغفار ـ رحمه الله ـ فينشر في العدد الصادر من "اليمامة" بتاريخ 11/3/1385هـ كلمة حول (تعدد الزواج) من كاتب مجهول وقع كلمته بـ (ابن السراة) رأى الاقتصار في الزواج على واحدة، دفعا لما يحدث من مشكلات وتمزيق في شمل الأسرة، إلا أن الشيخ عبدالعزيز لم يرتض هذا، فعلمت بتأثره حين بعث إلى الصحيفة مقالا بتاريخ 6/4/1385هـ فكتبت له معتذرا عن نشر مقال (ابن السراة) مستوضحا إذا كان يرى إغلاق هذه الزاوية، فكتب إلي بتاريخ 21/4/1385هـ بما نصه أثبته كاملا : (من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الأستاذ الشيخ حمد الجاسر سلمه الله، وتولاه، آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 12/4/1385هـ وصلكم الله بهداه وجميع ما شرحه فضيلتكم حول مقال (ابن السراة) كان معلوما، والحمد لله لم يصدر هذا المقال عن رضاكم ولا بحضرتكم، ولاشك أن ذلك أقل تبعة وأسلم من الإثم، وإن كان الواجب عليكم العناية بالصحيفة، وتولية الثقاة عليها شهدتم أو غبتم، لأن ذلك هو طريق النصح للأمة، والسلامة من التبعة، والحيطة للدين والعرض، وقد أحسنتم في قفل الزاوية، ونشر المقال حتى يطلع عليه من كان اطلع على مقال (ابن السراة) ونسأل الله لنا ولكم ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والعافية من مضلات الفتن إنه على كل شيء قدير. أما الزاوية النسائية فلا بأس ببقائها إذا تولاها ثقة بصير بالدين، لأن قد ينشر فيها ما ينفع الرجال والنساء في الوقت الذي قل فيه التفات الناس إلى التناصح، ومطالعة الكتب المفيدة، واسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا مفاتيح خير، ومغاليق شر، وأن ينصر دينه وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وأعيش فترة من الزمن مضطرا خارج البلاد في (لبنان) وأثناء حوادثه عدت مستمرا بإصدار مجلة "العرب" وصلتي بالشيخ ـ رحمه الله ـ على خير ما يرام.
والشيخ ابن باز ـ قدس الله روحه ـ من أبرز صفاته طيب القلب وحسن الظن، وهما من صفات المؤمن، ولكن بعض الناس قد يتخذون منها وسيلة من وسائل المكر والخديعة (والمؤمن غير غافل) ولهذا فكثيرا ما يحدث للشيخ من هذا، وخاصة ممن يظن بهم الخير وما أكثر ما يظن الخير بأناس يخدعون بمظاهرهم، والله سبحانه وتعالى العالم بالخفيات.
ويحدث أثر من ذلك بالنسبة لما بيني وبين الشيخ، إلا أنه سرعان مازال، إذ زرته فأبدى لي تأثره مما حدث من ذلك، وبأنه يحمل لي من الود والتقدير ما كان يدفعه إلى أن يدعو لي بالتوفيق في غيابي، وأنه سـر حين قابلته، وأبديت له حقيقة الأمر.
ولعل من أبرز صفاتي أنني شديد الانقباض عن الناس، وما هذا إلا طبيعة في نفسي، وإلا فأنا أدرك أن هناك من ذوي الحقوق ممن تجب زيارتهم، ولكنني قد أتضايق من مقابلة آخرين يبدون لي شيئا من الجفوة.
من هنا فكنت قليل الزيارة للشيخ ابن باز ولغيره من مشائخي، واكتفي بمقابلتهم لماما، وأثق ثقة تامة أنه ـ رحمه الله ـ وغيره ممن يدركون طبيعتي فيعذرونني.
وإنني لا أنسى له ما حييت ما شملني من عطفه وحنوه ورعايته، حين زارني وأنا مريض في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) في شهر رمضان سنة 1416هـ، فأجلست على كرسي بجواره، فصار يتحسس يدي ووجهي بيمناه الكريمة، ويسارع بأن ينفث علي بريقه، ويرقيني بآية الكرسي، وبالمعوذتين وبسورة الإخلاص، ويدعو لي بأن يجمع الله لي بين الأجر الجزيل والشفاء العاجل، وقد أحسست من أثر ذلك كثيرا من الراحة والاطمئنان، ولعل منشأه الثقة بأن هذا العالم الجليل ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ لي في قلبه هذه المنزلة الكريمة ولم يبق أي أثر لما حدث في الماضي، مما كان لذوي الظنون السيئة اليد فيه.
ثم بعد ذلك كان ـ قدس الله روحه ـ يواصلني بإمدادي بما قد أحتاجه من مطبوعات ويبعث إلي فتاواه ورسائله، منذ أن صدر الجزء الأول منها، حتى بلغت اثني عشر مجلدا، ومع كل مجلد كتاب منه، يدعو لي بالخير والتوفيق كما يبعث إلي بمجلة "البحوث الإسلامية" بصفة مستمرة، مما كان له في نفسي أعمق الأثر وأطيبه، فضلا عما أكن له من الحب والإجلال والاعتراف بالفضل، بما يتلاءم مع مكانته العلمية، وقيامه بواجبه بجد واجتهاد، ومقامه في خدمة الإسلام والمسلمين بعلمه ونصحه وجهاده، وما استطاع من عمل بحيث أبقى الله له في ذلك في جميع الأقطار الإسلامية من خالد الذكرى، مع ما يرجى له من ثواب الله، وجزيل مغفرته على هذه الأعمال النافعة التي أراد بها وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة.
أبتهل إلى المولى أن يتغمده بواسع مغفرته، ويسكنه فسيح جنته، ويجمعنا به في دار كرامته، إنه على كل شيء قدير[1].
سررت حقا من لطف الشيخ، ودقة مساءلته فيما يتعلق بالتعليم في المدرسة من العلوم، وتوصيته لي بأن أعنى بالدروس الدينية، وخاصة التوحيد.
وتدور الأيام وأتولى الإشراف على التعليم في نجد، وأفكر في فتح معاهد منظمة للدراسة في بعض أمهات المدن، ومنها مدينة (الدلم) فكتبت إليه كتابا أوضح الغاية من هذا المعهد، وما سيدرس فيه من العلوم، ومن سيتولى في ذلك ممن يوثق بعقيدته وعلمه، فيسارع ـ رحمه الله ـ بالكتابة إلي مـحبذا الأمر، ومتمنيا أن يكون وسيلة من وسائل نشر العلم النافع.
وبعد فترة أنقل للعمل في (المعهد) الذي أنشأه الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ ووكل إدارته لأخيه الشيخ عبداللطيف عينت مساعدا له، وينضم الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ إلى مدرسيه، حتى تخرج منهم عدد من الطلاب، مما استلزم إنشاء (كلية للعلوم الشرعية) وأخرى (للغة العربية) فتسند إدارة المعهد إلى الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ محمد بن إبراهيم ليتفرغ عمه لمعاونة والده الرئيس العام للمعاهد والكليات، وتسند إلي إدارة الكليتين المذكورتين، ومن مدرسي الأولى الشيخ عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وعدد من العلماء الآخرين كالشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم ـ تغمد الله الجميع بواسع رحمته ـ.
وكان أكثر أساتذة الكليتين من إخواننا من المصريين المتخصصين في اللغة والأدب وغيرها من العلوم، فكان الشيخ محمد بن إبراهيم عندما يقع خلاف في توزيع الدروس على الأساتذة، يكل إلي وإلى الشيخين عبدالعزيز وعبدالرزاق توزيعها، وقد يحدث من بعضهم ما لا يرتضى ما أسند إليه، إلا أن الشيخ ـ رحمه الله ـ يقنعه وتسير الأمور على ما يرام، وحين فكرت بإصدار صحيفة "اليمامة" واستشرته ـ رحمه الله ـ حبذ الفكرة وحثني على المسارعة بتحقيقها، ولما هيأت مواد العدد الأول لشهر ذي الحجة 1372هـ افتتحه بمقال بعنوان (سبيل الدعوة إلى الحق) وكان إذ ذاك مدرسا في (معهد الرياض العلمي) وافتتح العدد الثالث الصادر في شهر صفر سنة 1373هـ بمقال عنوانه (خلاصة الدعوة النبوية) واستمر ـ رحمه الله ـ يوالي إرشاداته ونصائحه وتوجيهاته لي، وقد كنت أبعث المجلة إليه، وحين أصبحت "اليمامة" جريدة كان فيها زاوية نسائية تتولى الإشراف عليها السيدة حصة الفضل زوجة الأستاذ محمد سعيد باغفار ـ رحمه الله ـ فينشر في العدد الصادر من "اليمامة" بتاريخ 11/3/1385هـ كلمة حول (تعدد الزواج) من كاتب مجهول وقع كلمته بـ (ابن السراة) رأى الاقتصار في الزواج على واحدة، دفعا لما يحدث من مشكلات وتمزيق في شمل الأسرة، إلا أن الشيخ عبدالعزيز لم يرتض هذا، فعلمت بتأثره حين بعث إلى الصحيفة مقالا بتاريخ 6/4/1385هـ فكتبت له معتذرا عن نشر مقال (ابن السراة) مستوضحا إذا كان يرى إغلاق هذه الزاوية، فكتب إلي بتاريخ 21/4/1385هـ بما نصه أثبته كاملا : (من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الأستاذ الشيخ حمد الجاسر سلمه الله، وتولاه، آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 12/4/1385هـ وصلكم الله بهداه وجميع ما شرحه فضيلتكم حول مقال (ابن السراة) كان معلوما، والحمد لله لم يصدر هذا المقال عن رضاكم ولا بحضرتكم، ولاشك أن ذلك أقل تبعة وأسلم من الإثم، وإن كان الواجب عليكم العناية بالصحيفة، وتولية الثقاة عليها شهدتم أو غبتم، لأن ذلك هو طريق النصح للأمة، والسلامة من التبعة، والحيطة للدين والعرض، وقد أحسنتم في قفل الزاوية، ونشر المقال حتى يطلع عليه من كان اطلع على مقال (ابن السراة) ونسأل الله لنا ولكم ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والعافية من مضلات الفتن إنه على كل شيء قدير. أما الزاوية النسائية فلا بأس ببقائها إذا تولاها ثقة بصير بالدين، لأن قد ينشر فيها ما ينفع الرجال والنساء في الوقت الذي قل فيه التفات الناس إلى التناصح، ومطالعة الكتب المفيدة، واسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا مفاتيح خير، ومغاليق شر، وأن ينصر دينه وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وأعيش فترة من الزمن مضطرا خارج البلاد في (لبنان) وأثناء حوادثه عدت مستمرا بإصدار مجلة "العرب" وصلتي بالشيخ ـ رحمه الله ـ على خير ما يرام.
والشيخ ابن باز ـ قدس الله روحه ـ من أبرز صفاته طيب القلب وحسن الظن، وهما من صفات المؤمن، ولكن بعض الناس قد يتخذون منها وسيلة من وسائل المكر والخديعة (والمؤمن غير غافل) ولهذا فكثيرا ما يحدث للشيخ من هذا، وخاصة ممن يظن بهم الخير وما أكثر ما يظن الخير بأناس يخدعون بمظاهرهم، والله سبحانه وتعالى العالم بالخفيات.
ويحدث أثر من ذلك بالنسبة لما بيني وبين الشيخ، إلا أنه سرعان مازال، إذ زرته فأبدى لي تأثره مما حدث من ذلك، وبأنه يحمل لي من الود والتقدير ما كان يدفعه إلى أن يدعو لي بالتوفيق في غيابي، وأنه سـر حين قابلته، وأبديت له حقيقة الأمر.
ولعل من أبرز صفاتي أنني شديد الانقباض عن الناس، وما هذا إلا طبيعة في نفسي، وإلا فأنا أدرك أن هناك من ذوي الحقوق ممن تجب زيارتهم، ولكنني قد أتضايق من مقابلة آخرين يبدون لي شيئا من الجفوة.
من هنا فكنت قليل الزيارة للشيخ ابن باز ولغيره من مشائخي، واكتفي بمقابلتهم لماما، وأثق ثقة تامة أنه ـ رحمه الله ـ وغيره ممن يدركون طبيعتي فيعذرونني.
وإنني لا أنسى له ما حييت ما شملني من عطفه وحنوه ورعايته، حين زارني وأنا مريض في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) في شهر رمضان سنة 1416هـ، فأجلست على كرسي بجواره، فصار يتحسس يدي ووجهي بيمناه الكريمة، ويسارع بأن ينفث علي بريقه، ويرقيني بآية الكرسي، وبالمعوذتين وبسورة الإخلاص، ويدعو لي بأن يجمع الله لي بين الأجر الجزيل والشفاء العاجل، وقد أحسست من أثر ذلك كثيرا من الراحة والاطمئنان، ولعل منشأه الثقة بأن هذا العالم الجليل ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ لي في قلبه هذه المنزلة الكريمة ولم يبق أي أثر لما حدث في الماضي، مما كان لذوي الظنون السيئة اليد فيه.
ثم بعد ذلك كان ـ قدس الله روحه ـ يواصلني بإمدادي بما قد أحتاجه من مطبوعات ويبعث إلي فتاواه ورسائله، منذ أن صدر الجزء الأول منها، حتى بلغت اثني عشر مجلدا، ومع كل مجلد كتاب منه، يدعو لي بالخير والتوفيق كما يبعث إلي بمجلة "البحوث الإسلامية" بصفة مستمرة، مما كان له في نفسي أعمق الأثر وأطيبه، فضلا عما أكن له من الحب والإجلال والاعتراف بالفضل، بما يتلاءم مع مكانته العلمية، وقيامه بواجبه بجد واجتهاد، ومقامه في خدمة الإسلام والمسلمين بعلمه ونصحه وجهاده، وما استطاع من عمل بحيث أبقى الله له في ذلك في جميع الأقطار الإسلامية من خالد الذكرى، مع ما يرجى له من ثواب الله، وجزيل مغفرته على هذه الأعمال النافعة التي أراد بها وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة.
أبتهل إلى المولى أن يتغمده بواسع مغفرته، ويسكنه فسيح جنته، ويجمعنا به في دار كرامته، إنه على كل شيء قدير[1].
- جريدة الرياض، الاثنين 9 صفر 1420هـ