لكل أجل كتاب 1330 - 1420هـ
د. محمد بن سعد الشويعر
الموت حق، لأن حكمة الله جلت قدرته، اقتضت أن الحياة الدنيا، دار فناء، وأن كل من عليها هالك، ولا بقاء إلا لله سبحانه كما قال سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وإنما الحياة الأبدية في دار الخلود بعد البعث والنشور: إما شقاوة أبدية لأهل الكفر بالله ومعاندة شرعه، الذي شرع لعباده، وإما سعادة سرمدية لأحباب الله، المؤتمرين بأمره، والمستجيبين لشرعه المنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام.
ولو كان لأحد خلود لبقي رسول الله ﷺ أفضل الخلق، وأكرم الأنبياء والمرسلين على الله، ولما مات قبله الأنبياء والمرسلون، ولكنها سنة الله في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والموت طريق كل سالكه، مهما طال بالإنسان العمر، لكن وقعه أليم عندما يكون المتوفى ذا مكانة اجتماعية يسعد بوجوده خلق من البشر، أو عالمًا طبقت شهرته الآفاق، أو محسنًا يرق قلبه للضعفاء وأصحاب الحاجات: يواسى فقيرهم ويسعى في مصالح ضعفائهم، ويبذل من جاهه وجهده وماله ما يدخل البسمة على شفاه أضناها الحزن، ويفرح قلوبًا عصرها الألم، وفقيدنا اليوم جمع تلك السجايا.
لقد فقدت المملكة علمًا من أعلامها، يعتبر من بقية السلف الصالح بعلمه وورعه، وبذل نفسه لصالح دين الله: دعوة ومساعدة، وتفاعلًا مع قضايا المسلمين في كل مكان، واهتمامًا بشؤونهم؛ لأن الدعوة إلى دين الله هي جل هاجسه، وتصحيح العقيدة من البدع والشوائب التي لم يأذن بها الله وتتصادم مع الصحيح من سنة رسول الله ﷺ هي شغله الشاغل.
إنه العالم الجليل، المحبوب في مشارق الأرض ومغاربها، من جعل الله له القبول في قلوب أهل الإيمان، سماحة الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء بالمملكة وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الخميس 27 محرم 1420هـ الموافق 13 مايو عام 1999م.
ولا يسع كل مسلم إلا الرضا والاستسلام لأمر الله، والقول كما جاء في كتاب الله الكريم: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، والحمد لله على ما قضى ودبر، والمصائب عندما تحل بالناس فإنما هي ابتلاء واختبار.
ولا شك أن وفاته - رحمه الله - جعلت في الحناجر غصة، وفي القلوب ألمًا، لكن تحمل ذلك بالصبر الذي أمر الله به، والدعاء له بجنة الفردوس الأعلى، وقد بشر الله الصابرين بالخير العميم فقال سبحانه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157]، نسأل الله أن يجعلنا جميعًا منهم.
فهو - تغمده الله بواسع رحمته - لم يكن من ذوي العلم الذين يباهون بعلمهم، ولم يكن صاحب منصب يستأثر بمنصبه، لكن العلم يزهو بمثله، والمنصب يسعد بأمثاله، حيث كان في جميع أعماله ينظر ببصيرة العالم الورع، فيراعي مصلحة الدين وتعاليمه قبل كل شيء، ويهتم بالضعيف حيث يوصي من حوله دائمًا، بقوله: ارفقوا بالناس وساعدوهم في قضاء حوائجهم، الله يرحم ضعفنا وضعفهم، إنما تنصرون بضعفائكم، ويأمر بالسعي في مصالحهم وتتبع حوائجهم حتى تنتهي بتأكيد ويقول: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ذلك أن فقدان الشيخ فقدان لأمور كثيرة: تعلمناها منه، وآداب رفيعة أخذناها عنه تطبعًا وحسن توجيه، فهو مع علمه الجم، مدرسة بأخلاقه، ومدرسة بحماسته للدعوة إلى دين الله، ومدرسة بحب الخير والمساعدة للقاصي والداني في كل شؤونهم بدون تمييز، ومدرسة بالتواضع النادر مثله في هذا الزمان، يبين هذا عندما تأتي وفود من الخارج يريدون السلام عليه، وبعد السلام والجلوس يسألني بعضهم: أين الشيخ؟ ومتى يأتي حتى نسلم عليه ونشرح له قضايانا؟ ولما أجيبهم: بأنه هذا الجالس الذي سلمتم عليه وبمجلسه المليء فئات من البشر من آفاق الدنيا بدون تفريق - هذا الشيخ الذي وهبه الله خصالًا هي سمو الإسلام ومثالياته.
ولقد بكى أمامي أكثر من شخصية إسلامية كبيرة بعد أخبارهم ليقولوا: تعودنا حتى من علماء بلادنا التعاظم والمواعيد المسبقة، إن هذا لا نظير له إلا فيما نقرأ من الكتب عن علماء السلف الصالح.
أما الكرم فناهيك بهذه الخصلة التي تتمثل فيه أكثر مما سمعنا عن كرماء العرب بالسخاء والبذل والوجه البشوش، وهو خلق لم يكن تكلفًا فيه، بل سجية تطبع بها، منذ حداثته وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، فلما قدر سخره للضعفاء، ولذوي الحاجات، إذ راحته في كثرة الضيوف، وتوافر أصحاب الحاجات وإدخال السرور عليهم.
ولئن كان الشاعر قد قال:
لعمرك ما الرزية فقد مال | ولا فرس يموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقد شخص | يموت بموته خلق كثير |
قد عرف - رحمه الله - بذلك الخلق لم يتزحزح عنه ولم يتبدل ساعة من نهار: مواعيد جلوسه ثابتة ومجلسه مفتوح في المكتب والبيت، ومائدته ممدودة وهواتفه لا تسكت ليلًا ولا نهارًا بالإجابات والتفاعل مع الناس في قضاياهم، وتبسيط الأمور أمامهم، لأنه يطبق حديث رسول الله ﷺ: يسروا ولا تعسروا وسجاياه الحميدة العديدة مستمرة ودائمة.
فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عندما يختلفون في أمر وتكثر أمامهم الآراء يلجؤون بالهاتف من أي أرض لسماحة الشيخ عبدالعزيز فيصدرون عن رأيه ويرضون بما يوجههم إليه.
والجاليات الإسلامية في أنحاء المعمورة - رغم أنه لم يغادر المملكة طول عمره - لا يحل قضاياهم ولا يريح قلوبهم في أي أمر يريدون ولا يبذل الجاه لبناء مساجدهم ومراكزهم أو يمدهم بالكتب إلا الشيخ عبدالعزيز بن باز.
ومع هذا فمن واقع معايشتي معه: فهو لا يصدر في أموره عن رأي شخصي ولا من عاطفة ذاتية، ولكنها حمية الإسلام والتوثق من الدليل الشرعي: آية او حديثًا، ثم استخارة الله سبحانه بعد ركعتين يدعو الله فيهما، فإن ارتاح قلبه اطمأن وعمل بعد التوكل على الله.
ولذا فإن الشيخ عبدالعزيز أب رحيم وعطوف: على اليتامى والمساكين وعلى الأرامل والفقراء وعلى المحتاجين، ومن لا تصل كلمتهم إلى المسؤولين فيوصلها بشفاعة ودعوات للمشفوع تجعل قلبه يرق، ويده تسخو ولعل الله سبحانه قد حقق له حديث رسول الله ﷺ، الذي جاء فيه: إن الله إذا أحب عبدًا جعل حبه في قلوب الناس.
وما أحصي كثرة الخصوم الذين يعتذرون إليه كتابيًا وهاتفيًا ومشافهة عن النيل منه سابقًا والتحدث فيه، فيدعو لهم ويسامحهم ويعفو عنهم وعمن لم يعتذر.
وهذا من سماحة نفسه وطهارة قلبه الذي لا يعرف الغل، ولا يريد إلا الخير، وناهيك بالحديث في أمور الدنيا، تلك الخصلة التي لا تجدها في أي مجلس يجلس فيه: فإما سؤال عن أحوال المسلمين عليه إن كانوا من الداخل وعن أولادهم وأسرهم، أو استيضاح عن الدعوة إلى دين الله وطلاب العلم الشرعي، ونشاط العمل في هذا السبيل إن كانوا من الخارج أو من ذوي العلاقة بالدعوة والعلم في الداخل، وبعد ذلك يأمر أحد القراء بتلاوة ما تيسر من كتاب الله ليشرع في تفسير تلك الآيات واستظهار معانيها، وهكذا في المناسبات وفي حفلات الأعراس.
بعد ذلك يجيب على أسئلة الحاضرين، وإن بقي متسع في الوقت قبل انفضاض المجلس سأل عن الأخبار وأخبار المسلمين في كل مكان.
ولئن كانت المنابر تبكي البلغاء والخطباء - كما يقولون - فإن الأقلام تعجز عن إيفاء الشيخ حقه أو التحدث بمآثره، ولكن حقه علينا الدعاء، ولا نقول في هذا المصاب الجلل إلا ما قال رسول الله ﷺ لما مات ابنه ابراهيم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون وكل مسلم عرف الشيخ يقول: وإنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون، أحسن الله عزاء ذريته وأهله، وعوض الله المسلمين من يخلفه ويترسم خطاه. [1]
- جريدة الجزيرة، الجمعة 28 محرم 1420هـ.