وداعًا أيها الإمام

د. عبدالعزيز بن عبدالمحسن التركي
المشرف العام على مدارس المجد الأهلية بالرياض

لقد فجع العالم الإسلامي في يوم الخميس 1420/1/27هـ بنبأ وفاة الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز، علامة زمانه الذي عرفه الصغار والكبار والرجال والنساء؛ بل عرفه الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، وأحبه وأجله كل من لقيه أو سمع عنه، إنه الرجل العالمي في عصر الأقاليم والحدود والدول المتفرقة المختلفة، فهو رجل العقيدة والتفسير والحديث والفقه والأصول واللغة، رجل العلم الذي نذر نفسه ووقته وجهده وماله لدينه، فهو رجل علم وصلاح، وفقه ودعوة، وجهاد ومجاهدة، وصبر وحلم، وكرم وسماحة، وشجاعة ومروءة، ولا نزكي على الله أحدا، فهو إمام أهل السنة والجماعة في عصره.
وإن العلم والحلم والدعوة والصبر والبذل والسخاء وحب الإحسان إلى الناس ومراعاة مشاعرهم قلّ أن توجد في هذا الزمان إلا في القلائل من أهل العلم؛ وشيخنا ممن جمعوا بين هذه الفضائل وغيرها كثير.
إن سماحة الشيخ صاحب هم؛ بل هموم عظيمة يخدم فيها دينه وأمته، وصاحب الهموم يشغل وقته وجهده ولسانه وقلمه وجاهه لتحقيق همه والوصول إليه وهو: نصرة الدين، وإنكار المنكرات، ونشر العقيدة السلفية التي جاء بها المصطفى ﷺ وعليها سلف أمتنا الأتقياء الأبرار.
فسماحة الشيخ - رحمة الله عليه - يحمل هموم الأمة، ويحمل هم هذا الدين.
  • فهو يسعى إلى إبلاغه، ودعوة الناس إليه، لذلك فقد رصد وقته كله للعلم والدعوة إلى الله والعمل في سبيله، والشيخ يعتبر نموذجا في زمانه في حفظه للوقت وحرصه على العلم، وصبره على الدعوة، فجميع مجالسه ذكر وتعليم ودعوة وحديث في أحوال المسلمين ومشاركتهم في السراء والضراء.
  • وهو يحمل هم الدعوة إلى الله وإبراز أهميتها وفضلها وأثرها على الناس جميعا، وإنها سبب لصلاح العباد وأمن البلاد وانتصار المسلمين، والقضاء على أهل البدع والمشركين، لذلك جند نفسه لهذا العمل وأرسل الدعاة على نفقته الخاصة إلى دول كثيرة من العالم، يدعو الناس للقيام بهذه الدعوة ولدعمها بالمال والكتب كل على حسب ما تيسر له.
  • ويحمل هم العلم وتبليغه للناس وتعليمه لهم، ولذلك نذر نفسه بل جعل مجلسه العام والخاص مجلس علم ودعوة، ودروسه اليومية والأسبوعية مستمرة في حله وسفره، فكلما جاء إلى بلد لم يشغله السفر ومتاعبه عن الجلوس إلى طلاب العلم ولعامة الناس، يُقرأ عليه في المجلس الواحد والدرس الواحد العديد من الكتب فنجد عنده عظيم الفهم وقوة التعليق وثاقب الحفظ، وامتاز الشيخ - رحمه الله - بذكاء حاد وحافظة قوية، حفظ كتب السنة كلها أو جلها وكذلك المسانيد، وغيرها من كتب السنة يأخذ بالدليل ولا يحيد عنه.
  • يحمل هم الفتوى، فهو يعلم أنه مسؤول عما يقول في هذا العلم وما يبلغه للناس، فهو يستقبل الفتوى ليلا ونهارا، سرا وجهارا، في مجلسه ومصلاه، في سيره وركوبه، يتزاحم الناس عليه لأخذ الفتوى ولم يسمع عنه أبدا تضجر ولا قلق ولا تذمر واعتذار، بل يقف أحيانا في الشمس حتى ينهي السائل سؤاله ويقضي حاجته، تأتيه الفتاوى من جميع أقطار المعمورة مهاتفة أو مكاتبة أو مشافهة، فيسعى للإجابة عليها مستدلا في ذلك بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة.
  • يحمل هم الإحسان إلى الناس، ويسعى لقضاء حوائجهم المالية والاجتماعية، وتفريج كربهم، مهتديا بقول النبي ﷺ: من فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة يأتيه الفقير يشتكي فيساعده، ويأتيه المظلوم يشتكي فيناصره، ويأتيه الجاهل فيعلمه، جمع الله به شتات أُسر كانت متفرقة وأبناء مشردين، فكان سببا في لم شملهم.
  • يحمل هم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسعى إلى ذلك بكل ما أوتي، يتصل بصاحب المنكر أو يكاتبه ويدعوه لترك المنكر، ويخوفه بالله، ويحذره من غضب الله وانتقامه، لا يستهين بصغيرة ولا يغض الطرف عن كبيرة، وهو يعلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، يكاتب المسؤولين ويهاتفهم ويشافههم في أمر المنكرات الخاصة والعامة، ويحث الناس على إنكار المنكرات والكتابة عنها وعدم التساهل فيها، ويحثهم على الاهتداء بهدي الرسول ﷺ في ذلك وتوجيه القرآن في الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، والشيخ - رحمة الله عليه - يهتم بذلك وبالجهة المسؤولة لأنه يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان للمجتمع، وسبب لحفظ كيانه، وسبب لمنع العقوبة عن المجتمع، وسبب لقبول الدعاء ورفع البلاء وغيره.
    والشيخ وسيرته وعلمه وحلمه وكرمه يذكِّر بسير السلف الصالح من أمثال أحمد بن حنبل والشافعي والبخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبدالوهاب الذين صاروا أعلاما في العلم والدعوة إلى الله وإنكار المنكرات وإجلاء الحق للناس.
    والشيخ - رحمه الله رحمة واسعة - تعرفه الآيات والسور، وهو يرددها في جنح الليل خاشعا لله باكيا، وكأني بالشاعر إذ يقول:
لو كان يبكي كتاب الله من أحدٍ لطول إلفٍ بكتك الآيُ والسور
وتعرفه الأسحار، وتعرفه المساجد في سيره إليها في جنح الليل وفي وسط النهار، فهو إمام المصلين أو خلف الإمام تماما.
وتعرفه السنة بصحاحها ومسانيدها؛ حيث سجلت في صدره حفظا وفهما وتطبيقا ودعوة إلى الله بها.
وعرفه الذكر وهو يردده صباحا ومساء تعظيما لله وتوبة واستغفارا.
وعرفه المال وهو ينفق منه ويبذل منه بسخاء في مجالات الخير كلها.
وعرفه الفقراء والمساكين حيث يتوجهون إليه لقضاء حوائجم ومساعدتهم في أمورهم.
وعرفه العلم والعلماء، وعرفه الملوك والرؤساء، وعرفه الأمراء والوزراء، رفعوه وقدروه وأجلّوه لعلمه وصدقه واحتسابه.
جعل الله له القبول عند الناس برهم وفاجرهم، من حضر مجلسه لا يرفع صوته احتراما وتقديرا، لا يأكل وحيدا بل مع الفقراء والضيفان الذين لا يخلو منهم منزله.
إن عزاءنا في الشيخ أن هذه الدنيا ليست دار بقاء ولا خلود، ولقد مضى قبله إمام المتقين وسيد المرسلين محمد بن عبدالله ﷺ.
ولقد قال أنس بن النضر يوم قيل عن رسول الله ﷺ أنه قتل يوم أحد: "قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه".
وعزاؤنا أنه قادم على رب كريم يعطي الجزيل على العمل القليل.
وختاما ..
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ووالديَّ وجميع المسلمين.
إني أعزيك لا أني على ثقة من الحياة ولكن سنة الدين
ليس المعزى بباقٍ بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين [1]
  1. جريدة الجزيرة، الجمعة 6 صفر 1420هـ.