وكنت أبًا للمكرمات
سهم بن ضاوي الدعجاني
الرياض
الرياض
بداية استأذن الدكتور أحمد بن عثمان التويجري عضو مجلس الشورى والشاعر المعروف في عنواني هذا الذي اقتبسته من رسالة شوق بعثها إلى سماحة والدنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الذي وافاه الأجل صباح يوم الخميس الماضي.
عندما ودعه قائلًا:
وكنت أبًا للمكرمات فمن لها | وقد بت عنا اليوم يحجبك الستر |
أيها القارئ الكريم، إليك بعضًا من تلك المكرمات:
- المكرمة الأولى: ان الله سبحانه وتعالى هيأ له طريقًا إلى طلب العلم وحلق الذكر منذ صغره ونعومة أظفاره، ورزقه الحرص والتفاني في طلب العلم، حتى بز أقرانه أيام الطلب، ثم فاق أنداده وتجاوزهم عندما اكتمل نضجه العلمي حتى تسنم قمة الفتيا الشرعية في بلاد الحرمين، حيث نال ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رعاه الله - عندما أسند إليه منصب مفتي عام المملكة العربية السعودية.
- الثانية: حرصه على اتباع الحق، حتى عرف بين الناس أن شيخه الدليل من القرآن والسنة، لذلك نجد أن فتاواه اتسمت بروح الاجتهاد والبعد عن التمذهب والتقليد، مما يسر له القبول لدى كثير من البلدان الإسلامية، والأقليات في البلدان الأجنبية، وأعظم دليل على ذلك مشهد التفاعل مع نبأ وفاته من مختلف بقاع الأرض.
- الثالثة: تفاعله مع قضايا أمته العربية والإسلامية فما تحل بنا نكبة أو تقع أزمة إلا ويصدر عنه رسالة تحمل عزاء أو دعوة للتبرع أو نداء للعون، حتى ارتبط اسمه - رحمه الله - بنكبات أمتنا الإسلامية مواساة ودعوة لنصرة الحق وأهله مهما بعدوا ونأت بهم الديار.
- الرابعة: كرمه الذي فاق الوصف، ولا أدل على ذلك من الجموع التي يغص بها منزله في الرياض أو الطائف من مختلف الجنسيات الإسلامية، حيث يجدون كرم الضيافة، وحسن الإقامة في كنفه - رحمه الله، ومن صور كرمه التي ما زال الناس يذكرونها ويجلونها، عندما فاز بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام، فقد تبرع بها ووزعها على الجهات المستحقة أثناء إلقائه لكلمته في حفل الجائزة بحضور خادم الحرمين الشريفين - رعاه الله.
- الخامسة: حبه لشفاعة الخير لأي مخلوق كان، فقد ارتبط اسمه - رحمه الله - بالشفاعة الحسنة، فقد قيل عنه: أنك إذا وصلت إليه فستفوز بشفاعته أيًا كان موضوعك، فطلبك مجاب بخطاب ممهور بختمه - رحمه الله، وقل لي - بالله عليك - من يرد شفاعة الشيخ!! والقصص في هذا كثيرة لا تحصى كعدد محبيه - رحمه الله.
- السادسة: قلة مؤلفاته، نعم قلة مؤلفاته مكرمة أخرى في حياته، فهو - رحمه الله - لم يؤلف إلا النزر اليسير من الكتب العلمية المتعلقة بضروريات الأمة؛ لكنه صرف وقته وجهده في تدريس طلبة العلم وتعهدهم بالتربية والتقويم؛ حتى تخرج من تحت يديه مئات من طلبة العلم الجادين الذين هم بمثابة المراجع العلمية المتخصصة التي يتصفحها الناس صباح مساء، ومن أبرزهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، الذي قرأ على سماحته - رحمه الله - الفرائض في عام 1377هـ وعام 1380هـ والذي ألبسه خادم الحرمين الشريفين ثقته الغالية عندما عينه مؤخرًا مفتيًا عاما للمملكة العربية السعودية خلفًا للشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله.
- السابعة: تفرده بأسلوب مميز في تقديم النصيحة للآخر، يجمع بين الصراحة واللين، حيث عرف عنه هدوء النبرة أثناء النصح والإرشاد للغير، مما أكسبه حب الناس جميعًا على مختلف أمزجتهم وأهوائهم ورغباتهم.
- الثامنة: نصرته لسنة الرسول ﷺ وتتبعه للهدي النبوي لباسًا وحديثًا ومعاملة مع الناس، فقد عرف عنه شدة الاتباع والاقتداء بالنبي ﷺ حتى وصفه البعض بأنه جبل السنة.
- التاسعة: نبذه للخلاف والفرقة بين عامة المسلمين وخاصتهم وتركيزه الدائم في أحاديثه ورسائله الإعلامية على وحدة الصف بين المسلمين على مختلف مشاربهم وأوطانهم؛ للارتقاء بهم إلى مفهوم الأمة والجماعة، ويشهد له بذلك رسائله العلمية الرصينة التي شاعت بين المسلمين، فهو - بحق - رجل الجماعة.
- العاشرة: لقد شغل وقته بالخير والطاعة والدعوة إلى الله والإحسان إلى خلقه؛ بل وخدمتهم بقضاء حاجاتهم المختلفة، حتى أنه في سيارته تقرأ عليه بعض المعاملات، وقد أكد الكثيرون بأنه لم يأخذ في حياته أجازة قط، بل ذكر عنه - رحمه الله - أنه إذا خرج أثناء الدوام لعمل ما فإنه يحرص على العودة إلى مكتبه في رئاسة الإفتاء وإن لم يبق على نهاية الدوام إلا دقائق معدودة، حرصًا منه - رحمه الله - على بذل وقته في خدمة الإسلام والمسلمين وحفظًا للأمانة الملقاة على عاتقه؛ وهذا دليل همة عالية لو قسمت على الأمة الإسلامية لكفتها، أخيرًا وليس آخرًا.
رحلت وفي أعماقنا ألف لوعة | وألف حنين لا يكفكفه صبر |
رحلت وفي ساحتنا ألف نكبة | وألف مصاب إذ مصائبنا كثر |
- جريدة الجزيرة، الجمعة 6 صفر 1420هـ.