إنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون

عبدالرحمن بن محمد الفراج
بريدة

حينما كنا صغاراً لا ندرك جميع مناحي الحياة كان سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - يزورنا بين الفينة والأخرى في مدينتنا بريدة ليعطي هذه المدينة الحالمة وأهلها مما أفاء الله به عليه من علم ونور، وكان ذلك قبل سنوات خلت، ورغبة منه - رحمه الله - في توطيد الصلة مع هذه المدينة وأهلها ولما يلقاه كالعادة في كل موقع يحل فيه من رعاية وتقدير واهتمام فقد اختار زواجه الأخير من أسرة عريقة في تلك المدينة؛ هي أسرة آل خضير وكان ذلك عام 1386هـ، وكانت أم نجليه أحمد ووليد، وشقيقاتهما، ثم كانت بعد ذلك زياراته إلى بريدة تجمع بين إلقاء المحاضرات والزيارات الأسرية، فكان الجميع يسأل عنه أينما حل وارتحل.
ويحضرني بهذه المناسبة ذكرى لي مع سماحته - رحمه الله - بالرغم من صغر سني التي لا تتجاوز الثانية عشرة من العمر إلا أنها تكتب بمداد من ذهب لما كسبته من سماحته من التواضع والخلق والأدب الجم وبشاشة الوجه ولين الجانب حتى صار - رحمه الله - محبوباً من الجميع على اختلاف مشاربهم، وكانت تلك الذكرى صيف عام 1393هـ أي قبل سبعة وعشرين عاماً حينما دخل علينا مراقب الصف في المعهد العلمي بمدينة بريدة وكنت حينها في السنة الأولى المتوسطة وقال: إنكم ستحضرون الليلة محاضرة علمية لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، ففرحنا فرحاً شديداً؛ لأن مثل تلك المناسبة فرصة لنا لإثبات الذات ولمعرفة ابن باز عن قرب بالرغم من أننا لا ندرك حينها كل شيء حولنا، وفعلاً أخذنا رائد الفصل بعد صلاة العشاء مباشرة وكان موقع المحاضرة فوق السطوح في ثانوية بريدة العامة حينما كان لا يوجد في المدينة سواها؛ ولأن الوقت صيف والحرارة شديدة ولا يوجد مكان يتسع لمثل هذا العدد الذي يحتفل بلقيا الشيخ عبدالعزيز بن باز مباشرة دون واسطة فقد تم اختيار سطح المدرسة لهذا الغرض، وللإحاطة فإن المدرسة فيما بعد نقلت إليها مدرسة تحفيظ القرآن الكريم الأولى، وهي الآن مركز للوسائل التعليمية في المنطقة.
كان الجمع غفيراً والمكان واسعا، وليس فيه مكان لمن حضر متأخراً، وفجأة ساد المكان هدوء عام لم نلتزم به لصغر السن فقد كنا وعددنا حوالي الثلاثين في هرج ومرج فأقبل الشيخ بقامته وطلعته وأثناء مروره بجوارنا إلى منصة المحاضرة سمع اللغط قريبا منا فألقى السلام علينا خاصة، وفجأة ساد المكان المخصص لنا هدوء وإنصات وخجل وانبهار لأسلوبه في التربية والذي يعجز عنه فطاحل التربويين والأكاديميين، وأنصتنا حتى انتهت المحاضرة فكان الشيخ ابن باز - رحمه الله - في ذهني حاضراً منذ ذلك التاريخ لم يغب عن مخيلتي فكنت أتذكر ذلك كلما رأيته في الصحف أو وسائل الإعلام المرئية.
حقا إنه من جيل نادر إنه آخر العمالقة في العلم والأدب والخلق، فلم ينهر سائلاً، ولم يرد طلباً، وكان لا يأكل على مائدته سوى الفقراء والمساكين وضيوف المملكة من الدول الإسلامية، فكم من شخص دخل الإسلام من مجلسه ومن حديثة، ونقل ذلك لمن خلفه، فكان نعم القدوة الذي لم يسمع منه كلمة نابية حتى لمن يناصبه العداء ولم ينتصر لنفسه يوماً من الأيام وكان ينكر ذاته، لا ينام من الليل إلا قليلاً، لا يهدأ هاتفه ولا يعتذر لأحد، ولا يسمح لأحد أن يغادر مكانه حتى تنتهي مسألته، رحمك الله يا أبا عبدالله رحمة الأبرار وأسكنك وأنزلك منازل الشهداء والصالحين، هنيئاً لثرى مكة المكرمة بك، وإننا نعزي أنفسنا بك قبل أن نعزي أهلك بك.. والموت حق لا مفر منه، وإنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون؛ ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا.
حقا إن من شاهد جموع المسلمين في رحاب الكعبة المشرفة يوم الجمعة الماضي حين الصلاة عليه من جموع المسلمين وفي مقدمتهم مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني حفظهم الله وضيوف المملكة، ومن ثم جموع المودعين له حتى مقابر العدل لتدمع عينه حزناً وفرحاً، أما الحزن فهو لفراق هذا الجبل الشاهق من العلم والنور وخسارة المسلمين بموته، وأما الفرح فهو لعظم مكانته ومحبته - رحمه الله - في قلوب الجميع بدون استثناء، فهنيئاً لأبي عبدالله في قبره لحب المسلمين له، وفعلاً موعدكم يوم الجنائز، وأن حب الناس لك عامة في الأرض لهو دليل خير لحب الله عز وجل لك إن شاء الله.
ندعو لك في ظهر الغيب وهو أقل ما يمكن أن نقدمه لمثلك، ولكنها خلجات في الصدر أبت نفسي إلا المشاركة فيها مع جموع محبيك على صدر الجزيرة الغراء ولن توفيك حقك.
وفي الختام خالص العزاء والمواساة إلى أبنائه: عبدالله وعبدالرحمن وأحمد ووليد، وشقيقاتهم، وأهل بيته، وأقربائه، والمسلمين عامة؛ فأحسن الله عزاءكم، وجبر مصيبتكم، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وأوسع له في قبره، إنه سميع مجيب. [1]
  1. جريدة الجزيرة، الجمعة 6 صفر 1420هـ .