جوده وكرمه
من الصفات التي اتصف بها الشيخ - رحمه الله - واشتهرت عنه: الكرم، حتى لقَّبه بعض محبيه بـ (حاتم الطائي)، فلم تخل مائدته في يوم من الأيام من ضيوف من مختلف فئات المجتمع؛ فتجد على مائدته: الفقير والمسكين وابن السبيل، والغني وذا المكانة الرفيعة، والعالم والعامي، والكبير والصغير، والقريب والغريب، دون تفريقٍ بينهم في الجلوس أو الطعام. [1]
ولم يكن كرمه شيئًا عابرًا يفعله أحيانًا ويتركه أخرى، بل قد نشأ معه منذ نعومة أظفاره، فكان يحرص منذ أن كان طالبًا في حلقات العلم على دعوة مَن يلقاه من طلبة العلم والغرباء والجيران إلى مشاركته طعامه وإن كان قليلًا - كما أخبر بذلك الشيخ عبدالمحسن بن سعد الباز أحد أقارب الشيخ الأكبر سنًّا منه - ولا يحتقر ما يُقدِّمه لضيوفه، ويجعل الله فيه بركةً وخيرًا. [2]
وكان يعطي المحتاجين، ويقضي الدَّين عن المدينين، ويسامح مَن عجز منهم عن السَّداد.
ولم يقف جوده وكرمه على ماله فحسب، بل امتد أيضًا للجود بالوقت والجهد لقضاء مصالح المسلمين، حتى لكأن القائل عناه بقوله:
وفي الأسطر القادمة نستعرض بعض مظاهر هذا الكرم:
إكرامه لأهله وأقاربه:
أصاب أهل شيخنا - رحمه الله - من كرمه، ولِمَ لا وهم أقرب الناس إليه؟ فكان سماحته في عيد الفطر يُوزِّع ما يزيد عن مئة وستين ألف ريـال من ماله الخاص على زوجتيه، وأولاده، وأولاد أولاده، وأزواج بناته، وأخيه، وأولاد أخيه، وبعض أقاربه. هذا فضلًا عن النفقات الشَّهرية التي يُوفِّرها لهم.
كما كان سماحته يساعد المحتاجين منهم، ويكفيهم مؤنة السؤال، فاشترى لأخيه محمد بيتًا، ورتَّب له راتبًا شهريًّا، واشترى بيوتًا لبعض أقاربه. [3]
إكرامه للدعاة وطلبة العلم:
للدعاة وطلبة العلم منزلة خاصة عند الشيخ - رحمه الله - لقيامهم بأداء مهمة الأنبياء في الدعوة للإسلام وتعليم الناس؛ لذلك حرص على إكرامهم، وبذل الوسع في قضاء مصالحهم، حتى إنه كان يستدين من أجل صرف رواتبهم الشهرية، فقد كان الشيخ يُرسل الدعاة وطلبة العلم إلى البلاد المختلفة، ويجعل لهم رواتب شهرية.
أمَّا مَن قدم من طلبة العلم إلى المملكة للدراسة فكان يستضيفهم في بيته إلى أن يجدوا سكنًا ملائِمًا، حتى إن راتبه ينفد قبل أن ينتصف الشهر؛ فيستدين من أجل الإنفاق عليهم.
وكان - رحمه الله - يعرف حال طلابه من نبرات أصواتهم وطريقة سلامهم عليه، فإن شعر أن أحدهم يحتاج إلى مالٍ أقرضه من ماله الخاص، ويعفو عمَّن تعسَّر عن السَّداد منهم، فقد أقرض أحدَ طلابه سبعمئة ألف ريـال، ثم أرسل إليه يُعلمه بإسقاط الدَّيْن عنه ومسامحته له. [4]
وبلغ إكرام الشيخ لطلبة العلم أن باع سيارته لينفق ثمنها على إطعام طلبة معهد شرعي أُخْبِر أنهم لا يجدون نفقة طعامهم. [5]
لا يرد سائلًا:
اقتدى الشيخ - رحمه الله - بنبينا ﷺ فلم يكن يرد سائلًا وإن سأله ما يلبسه أو ما يحتاج إليه، فقد سأله أحد زوَّاره في يومٍ من الأيام عباءته التي يرتديها، فما كان من الشيخ إلا أن خلعها وأعطاها له عن طيب نفس. [6]
وبلغ الأمر بالشيخ إلى حدِّ الاستدانة لإعطاء السائلين، فذات يوم قام سائل في المسجد بعد الصلاة يسأل الناس، ولم يكن مع الشيخ مال، فسأل مرافقه: هل معك شيء؟ قال: نعم. فقال الشيخ: أعطه خمسين ريالًا. وتكرر هذا الموقف مرةً أخرى فاستدان من المؤذن عشرين ريالًا وأعطاها للسائل. [7]
يقول الشيخ عطية سالم - رحمه الله:
"كان يأتيه الفقراء والمساكين لطلب المعونة، فلا يتردد أن يُعطيهم، وكثيرًا ما طلب من صندوق الجامعة [الجامعة الإسلامية بالمدينة] سلفة تُخصم من راتبه ليُعطيها هؤلاء الفقراء الذين قصدوه، ومرة جاءني وقال لي: أريدك أن تُعطيني سلفة قدرها مئتي ريـال، فضحكتُ وقلتُ له: الشيخ ابن باز يأخذ سلفةً من عطية سالم! ثم أردفتُ: لو كان المبلغ لك لأعطيتُك عشرة آلاف ريـال، اذهب وخذ من الصندوق، فقال لي: عندما ذهبت إلى الصندوق أخبرني أمينه أن راتبي منتهٍ، وأني مدينٌ للصندوق للشهر الذي بعده بـ 400 ريـال". [8]
تبرعاته الكثيرة:
من صور الكرم التي عُرفت عن ابن باز - رحمه الله - كثرة تبرعاته وإنفاقه في وجوه الخير ونفع المسلمين، من ذلك تبرعه بقيمة جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام - والتي فاز بها سنة 1402هـ - لدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة. [9]
وفي عام 1406هـ حضر سماحته حفل الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم المقام في جامع الفريان بالرياض، وعلم من رئيس الجمعية حاجتهم إلى التعاقد مع سبعين مدرسًا للقرآن الكريم وعدم وجود موارد مالية لذلك، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن قال: اتفقوا معهم على حسابي. [10]
إكرامه لضيوفه وزوَّاره:
حاز ضيوف سماحة الشيخ وزواره على الجزء الأكبر من كرم الشيخ، فلم يخلو بيت سماحته يومًا من ضيوف وزوَّار من مختلف طبقات المجتمع، ومن داخل المملكة وخارجها، خاصةً بعد توليه الإفتاء، حتى إن نفقات بيته اليومية كانت تتجاوز الألفي ريـال. [11]
ونعرض في الأسطر الآتية أبرز مظاهر إكرامه لضيوفه:
مشاركتهم وعدم التميز عنهم:
كان من عادة شيخنا - رحمه الله - عدم تناول الطعام وحده، فكان حريصًا على أن يشاركه ضيوفُه الطعام، ولا يجد لذَّةً للطعام إلا معهم، حتى إنه في عام 1417هـ سافر إلى الطائف، وفتح بيته للضيوف والفقراء والمساكين، فلم يأتِه أحدٌ في اليوم الأول لوصوله، فتألم لذلك وقال للعاملين معه: ما بال الناس لا يأتون؟! هل تعتذرون لأحدٍ أو تغلقون الأبواب في وجوه الناس؟! فقيل له: كثير منهم لم يعلم بوصولك، وبعضهم يُحب أن ترتاح في الأيام الأولى، فقال: اذهبوا وأخبروا الناس، وأخبروا الجيران، وقولوا لهم: الشيخ يدعوكم، وبيته مفتوح لكم. [12]
ولم يكن - رحمه الله - يتميز عن ضيوفه بطعامٍ أو شرابٍ، بل ما يُوضَع أمامه يُوضَع أمام الجميع، حتى إنه لما أُصيب بمرضٍ في الكبد قبل وفاته بـ15عامًا كان من وصايا الأطباء تخصيص طعام خاصٍّ له يتلاءم مع حالته الصحية، وأول يوم وُضع له تضايق وأمر برفعه، وقال: آكل مما يأكل منه ضيوفنا، ولا نتميز عنهم؛ لأنَّ بعضهم قد يفهم الأمرَ على غير حالته التي نصح بها الأطباء، ولكن نتوكَّل على الله، ونُشاطرهم الطعام. [13]
بابه مفتوح دائمًا في الليل والنهار:
اعتاد سماحته - رحمه الله - أن يظل باب بيته مفتوحًا في وجه القادمين إليه، ليلًا ونهارًا، حتى وإن جاء الضيفُ في جنح الظلام بعدما ينام العاملون في البيت، فإنه يجد سماحته بنفسه في استقباله، والقصص في ذلك كثيرة، منها: ما حكاه الشيخ محمد حامد - رئيس أصحاب اليمين بأريتريا - حيث قال: أتيت إلى الرياض في ليلة شاتية، وليس عندي ما أستطيع دفعه للفندق، ففكرتُ أن أذهب لبيت الشيخ عبدالعزيز بن باز، وكانت الساعة الثالثة ليلًا، فترددتُ، ثم أقدمتُ فوقفت عند باب بيته الطيني القديم ولمسته، فإذا أحد النائمين عنده يسمعني ويفتح لي الباب، فسلَّمتُ عليه بهمسٍ حتى لا يسمعني أحد؛ لأن الوقت في آخر الليل، فما هي إلا لحظة حتى أقبل الشيخُ بنفسه نازلًا من الدرج ومعه إناء فيه طعام، تقوده امرأتُه من الخلف، فسلَّم عليَّ، وأعطاني الطعام، وقال: سمعتُ صوتك وأحضرت لك الطعام؛ لأني أظنك لم تأكل شيئًا هذه الليلة، فوالله ما طرق النومُ عيني من البكاء على هذا الموقف النبيل من سماحته. [14]
الحرص على شراء أجود الطعام:
من مظاهر كرم سماحة شيخنا - رحمه الله - أنه لم يكن يرضى لضيوفه أن يأكلوا طعامًا رديئًا أو متوسطًا، بل كان حريصًا على اختيار أجود الطعام وأحسنه في غير إسرافٍ ولا تبذيرٍ، فكان يوصي العاملين في منزله بشراء أحسن ما في السوق من الفاكهة والخضروات وسائر الأطعمة المُقدَّمة للضيوف، ويعتب عليهم إذا اشتروا شيئًا متوسطًا مراعاةً منهم لأحوال سماحته المادية، ويقول لهم: إياكم أن تَدْنو نفوسُكم. [15]
الإلحاح في الدعوة إلى الطعام والمبيت:
كان الشيخ - رحمه الله - حريصًا على دفع الحياء عن زواره فيما يتعلَّق بالطعام والمبيت، فكثير ما يأتيه زائرٌ من سفرٍ ويحتاج إلى مكان يبيت فيه وطعام يأكله، لكنه يستحي من الشيخ، ويخشى أن يُثقل عليه، فما أن يعلم الشيخ أن زائره من خارج المدينة التي يُقيم فيها إلا ويُبادر إلى دعوته إلى الطعام والمبيت، ويُلح عليه في ذلك، مستخدمًا أسلوب الأب الحاني الشفيق بأبنائه، دون أن يُلجئ الزائر إلى طلب ذلك والشعور بالحرج. [16]
الحرص على آداب الضيافة:
من أقوى مظاهر كرم الشيخ - رحمه الله - حرصه على مراعاة آداب الضيافة؛ من حسن استقبال، وملاطفة، وعدم استعجال في الطعام والمبيت، وغيرها مما نعرضه في الأسطر القادمة:
1- مراعاة مواعيد وصولهم واستقبالهم:
حرص الشيخ على حسن استقبال ضيوفه جميعًا، وبالأخص العلماء وطلبة العلم الكبار والمسؤولين، فكان يترقَّب موعد وصولهم - وذلك لمن أخبره بمجيئه في موعد محدد - ويُخبر العاملين معه بذلك؛ ليتهيؤوا لمساعدته في استقبالهم وحسن ضيافتهم. [17]
2- بشاشة الوجه وحسن الكلام:
من آداب الضيافة: مقابلة الضيوف بوجه بشوش، وكلام طيب، وهذا لم يَغِبْ عن شيخنا - رحمه الله - فكان طيب المحَيَّا، يبتسم في وجوه جلسائه، ويُلاطفهم بكلام يُشعرهم بقربهم منه، ومحبته لهم، مثل: "حياكم الله"، "حيَّا الله الجميع"، "من الألفة ترك الكُلْفَة"...
ويرفع من شأن ضيوفه، ويُعلي منزلتهم، ولو لم يكونوا كبارًا، أو لم تكن لهم مكانة اجتماعية، وبعضهم لم يَرَ الشيخ قبل ذلك، وكان غاية ما يتمنوه رؤية سماحته والاستئناس بحديثه، فلما دخلوا مجلسه حيَّاهم، وأدناهم منه، وألح عليهم بتناول طعام العشاء، فوافقوا.
وحرص في مجلسه معهم على ملاطفتهم، وسؤالهم عن أحوالهم ومشايخهم، والإجابة عن أسئلتهم، حتى إنه أبى أن يتركهم أو ينشغل عنهم بالمعاملات والأوراق، وظل معهم حتى تناولوا العشاء، فلما استأذنوه للانصراف ألح عليهم في المبيت، فأبوا وأخبروا سماحته أن لديهم مكانًا سيبيتون فيه، وكان آخر ما قالوه لسماحته قبل انصرافهم: جزاك الله خير الجزاء، وغفر لك، وجعلك ذخرًا للإسلام والمسلمين، لقد أعطيتنا من وقتك ومجلسك فوق ما نستحق، وفوق ما تصورنا. [18]
3- عدم استعجالهم في الطعام والمبيت:
لم يكن سماحة الشيخ - رحمه الله - يتعجَّل القيام من مائدة الطعام حتى يُنهي ضيوفُه طعامَهم؛ حتى لا يكون في قيامه استعجالٌ لهم، وإذا قام قبل أن ينتهوا قال: كلٌّ براحته، لا تستعجلوا.
أما المبيت: فكان في منزله بالرياض مكان مهيَّأ لاستقبال الضيوف، يسع قرابة خمسة عشر شخصًا، يُقيمون فيه أيامًا، وأحيانًا شهورًا، فلا يضيق الشيخ بإقامتهم، أو يتعجَّل انصرافهم، بل يتركهم حتى ينصرفوا بإرادتهم، حتى إن أحد العاملين مع سماحته قال له ذات يومٍ: إنَّ فلانًا ساكن عندنا منذ وقتٍ طويلٍ! فقال له سماحة الشيخ: لو استغنى عنكم ما جلس عندكم!.[19]
4- الفرح بهم وعدم التَّبرُّم من كثرتهم:
بعض الكرماء قد يضجر من كثرة الزائرين، وتتابع الوافدين، ويشعر بالسعادة عند انصرافهم، إلا أن شيخنا - رحمه الله - لم يكن كذلك، فكان فرحه وسعادته تكمن في حضورهم وتوافدهم عليه، بل ويدعوهم إلى الإكثار من زيارته.
ولم يكن يشعر بالضيق والحرج من مفاجأة الزائرين له بالزيارة، عملًا بقول النبي ﷺ: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية[20]، فمن ذلك: أنه في يوم 28 رمضان عام 1406هـ قبيل الإفطار جاءت حافلة كبيرة تحمل خمسين شخصًا قدموا للسلام على سماحته، وكان مجلس الشيخ قبل قدومهم ممتلئًا بنحو مئتي شخصٍ من جنسيات مختلفة، فما كان من الشيخ إلا أن رحَّب بالقادمين قائلًا: تفضلوا، حيَّاكم الله.
وكان الطعام المُعدّ في ذلك اليوم يكفي نحو ثمانين شخصًا، إلا أن البركة حلَّت في الطعام، فأكل الجميع وبقي من الطعام بقية.
ولم يكن منزل سماحته في الرياض المُعدّ لاستقبال الضيوف يتسع لكثرة الضيوف القادمين إليه، خاصةً أن بعض الزوار يأتون بأسرهم، طلبًا لشفاعةٍ، أو مساعدة، أو غير ذلك، فكان الشيخ يُنزلهم في منزله الخاص، ويصبر على مشاركتهم له في المبيت، ويقول لمن قال له: ألا ترون أن يُقال لهؤلاء: اذهبوا إلى بلدكم، ونحن ننظر في الأوراق في الوقت المناسب، ثم نخبركم؟ فيقول: ما نرى ذلك، نصبر ونتحمَّل إقامتهم عندنا حتى ينتهي موضوعهم. [21]
5- الجلوس معهم وإن لم يأكل:
في بعض الأحيان يكون سماحة الشيخ - رحمه الله - مُجهدًا ومتعبًا وليس له رغبة في الطعام - خاصةً في أيام مرضه - ومع ذلك يجلس على المائدة مع ضيوفه، خاصةً إذا طلبوا منه ذلك، إيناسًا لهم، وتطييبًا لنفوسهم، ولكي لا يتوهموا أن سماحته لا يرغب في وجودهم.
من ذلك: أنه قبل وفاته بعامين أُصيب بالإجهاد في يومٍ من الأيام نتيجة كثرة الأعمال التي قام بها في ذلك اليوم؛ من دروس، واستقبال للضيوف، وإنهاء للمعاملات، وغير ذلك، فلما وُضِعَ طعام الغداء قال لضيوفه: تفضَّلوا للغداء، حيَّاكم الله، فلما جلسوا قال: أما أنا فسامحوني؛ لأنني لا رغبةَ لي في الطعام، فقال أحدهم: يا شيخ، نحن لم نأتِ للأكل، وإنما أتينا من أجل الجلوس معكم والتحدث إليكم، فإما أن تجلس وإلا فلن نأكل! فلما سمع - رحمه الله - ذلك تحامل على نفسه وجلس مع الناس يُحدثهم ويُجيب عن أسئلتهم، ولم يأكل شيئًا من الطعام. [22]
6- إذا كان مشغولًا أناب مَن يُكرم ضيوفه:
حرص سماحة الشيخ - رحمه الله - على الالتزام بمواعيد دروسه ومحاضراته ولقاءاته، ولم يكن يسمح بأن يطغى أمرٌ على آخر، ويُعطي كلَّ شيءٍ حقه، فإذا فاجأه ضيوف رحَّب بهم، وأحسن استقبالهم، غير أنه يُكمل مهام يومه وفق جدول عمله، ويوُكل شخصًا بهم، فيقوم نيابةً عنه بإكرامهم والإحسان إليهم، فإذا أنهى الشيخ مهامه وعاد إلى البيت سأل عن ضيوفه، واطمأنَّ على ما قُدِّم لهم من ضيافة، فإن وجد تقصيرًا من الوكيل عنفه وربما اعتذر له عن استمرار العمل معه.
من ذلك ما ذكره وكان دائمًا يسأل: عسى ما نقص عليهم شيء؟ فإن قيل: لا، فرح وتهلل، وحمد الله. [23]
7- مراعاة مشاعرهم وحفظ كرامتهم:
يقول الشيخ محمد الموسى - أحد مرافقي شيخنا ابن باز: "كان سماحته يحرص كل الحرص على مراعاة مشاعر ضيوفه، وكان كثير السؤال عنهم، كثير التوصية بهم، وكثيرًا ما يقول للموظفين معه: ارحموهم، لو وجدوا غيركم ما أتوا إليكم".[24]
فلم يكن - رحمه الله - يسمح بإهانة أحدٍ من ضيوفه كائنًا من كان، حتى إنه ذات يوم سمع أحد العاملين معه يُوبِّخ أحدَ ضيوفه لإغفاله آداب الطعام، فما كان من الشيخ إلا أن قال: أنا لا أرضى لأحدٍ أن يتنقص أحدًا من ضيوفي، أو ينال منهم، فالذي يرضى أن يجلس معنا على هذا الوضع، وإلا فنحن نسمح له بأن يذهب إلى مَن يريد، وهذا بيتي، وهؤلاء أتوا إليَّ.[25]
وقيل لسماحته ذات يومٍ من أحد معارفه: يا شيخ، بعض هؤلاء لا يعرفون أدب الأكل، ولا يَحسُن الجلوس معهم، فلو انفردت عنهم وأرحت نفسك من هؤلاء! فرد عليه الشيخ قائلًا: أنا الذي وضعتُ الطعام لهم، وهم جاؤوا إليَّ، وراحتي بالأكل معهم، والرسول ﷺ كان يأكل مع أصحابه ومع الفقراء حتى مات، ولي فيه أسوة، وسوف أستمر على هذا إلى أن أموت، والذي لا يتحمَّل ولا يرغب الجلوس معهم نسامحه، ويذهب إلى غيرنا. [26]
هكذا كان كرم سماحته - رحمه الله - الذي وُصِفَ بأنه فاق كرمَ حاتم الطائي، فلم يبخل يومًا بما في يديه، ولم يدَّخر مالًا خشية الفاقة، فالكرم صاحبه طيلة حياته حتى ترك له الذكر الحسن والثناء الجميل بعد وفاته.
نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، ويجود عليه بمرافقة نبيه محمد ﷺ في عِلّيين.
ولم يكن كرمه شيئًا عابرًا يفعله أحيانًا ويتركه أخرى، بل قد نشأ معه منذ نعومة أظفاره، فكان يحرص منذ أن كان طالبًا في حلقات العلم على دعوة مَن يلقاه من طلبة العلم والغرباء والجيران إلى مشاركته طعامه وإن كان قليلًا - كما أخبر بذلك الشيخ عبدالمحسن بن سعد الباز أحد أقارب الشيخ الأكبر سنًّا منه - ولا يحتقر ما يُقدِّمه لضيوفه، ويجعل الله فيه بركةً وخيرًا. [2]
وكان يعطي المحتاجين، ويقضي الدَّين عن المدينين، ويسامح مَن عجز منهم عن السَّداد.
ولم يقف جوده وكرمه على ماله فحسب، بل امتد أيضًا للجود بالوقت والجهد لقضاء مصالح المسلمين، حتى لكأن القائل عناه بقوله:
هو البحر من أي النواحي أتيتَه | فلُجَّتُه المعروف والجودُ ساحله |
تعوَّد بسطَ الكفِّ حتى لو انَّه | ثناها لقبضٍ لم تُجبه أنامله |
إكرامه لأهله وأقاربه:
أصاب أهل شيخنا - رحمه الله - من كرمه، ولِمَ لا وهم أقرب الناس إليه؟ فكان سماحته في عيد الفطر يُوزِّع ما يزيد عن مئة وستين ألف ريـال من ماله الخاص على زوجتيه، وأولاده، وأولاد أولاده، وأزواج بناته، وأخيه، وأولاد أخيه، وبعض أقاربه. هذا فضلًا عن النفقات الشَّهرية التي يُوفِّرها لهم.
كما كان سماحته يساعد المحتاجين منهم، ويكفيهم مؤنة السؤال، فاشترى لأخيه محمد بيتًا، ورتَّب له راتبًا شهريًّا، واشترى بيوتًا لبعض أقاربه. [3]
إكرامه للدعاة وطلبة العلم:
للدعاة وطلبة العلم منزلة خاصة عند الشيخ - رحمه الله - لقيامهم بأداء مهمة الأنبياء في الدعوة للإسلام وتعليم الناس؛ لذلك حرص على إكرامهم، وبذل الوسع في قضاء مصالحهم، حتى إنه كان يستدين من أجل صرف رواتبهم الشهرية، فقد كان الشيخ يُرسل الدعاة وطلبة العلم إلى البلاد المختلفة، ويجعل لهم رواتب شهرية.
أمَّا مَن قدم من طلبة العلم إلى المملكة للدراسة فكان يستضيفهم في بيته إلى أن يجدوا سكنًا ملائِمًا، حتى إن راتبه ينفد قبل أن ينتصف الشهر؛ فيستدين من أجل الإنفاق عليهم.
وكان - رحمه الله - يعرف حال طلابه من نبرات أصواتهم وطريقة سلامهم عليه، فإن شعر أن أحدهم يحتاج إلى مالٍ أقرضه من ماله الخاص، ويعفو عمَّن تعسَّر عن السَّداد منهم، فقد أقرض أحدَ طلابه سبعمئة ألف ريـال، ثم أرسل إليه يُعلمه بإسقاط الدَّيْن عنه ومسامحته له. [4]
وبلغ إكرام الشيخ لطلبة العلم أن باع سيارته لينفق ثمنها على إطعام طلبة معهد شرعي أُخْبِر أنهم لا يجدون نفقة طعامهم. [5]
لا يرد سائلًا:
اقتدى الشيخ - رحمه الله - بنبينا ﷺ فلم يكن يرد سائلًا وإن سأله ما يلبسه أو ما يحتاج إليه، فقد سأله أحد زوَّاره في يومٍ من الأيام عباءته التي يرتديها، فما كان من الشيخ إلا أن خلعها وأعطاها له عن طيب نفس. [6]
وبلغ الأمر بالشيخ إلى حدِّ الاستدانة لإعطاء السائلين، فذات يوم قام سائل في المسجد بعد الصلاة يسأل الناس، ولم يكن مع الشيخ مال، فسأل مرافقه: هل معك شيء؟ قال: نعم. فقال الشيخ: أعطه خمسين ريالًا. وتكرر هذا الموقف مرةً أخرى فاستدان من المؤذن عشرين ريالًا وأعطاها للسائل. [7]
يقول الشيخ عطية سالم - رحمه الله:
"كان يأتيه الفقراء والمساكين لطلب المعونة، فلا يتردد أن يُعطيهم، وكثيرًا ما طلب من صندوق الجامعة [الجامعة الإسلامية بالمدينة] سلفة تُخصم من راتبه ليُعطيها هؤلاء الفقراء الذين قصدوه، ومرة جاءني وقال لي: أريدك أن تُعطيني سلفة قدرها مئتي ريـال، فضحكتُ وقلتُ له: الشيخ ابن باز يأخذ سلفةً من عطية سالم! ثم أردفتُ: لو كان المبلغ لك لأعطيتُك عشرة آلاف ريـال، اذهب وخذ من الصندوق، فقال لي: عندما ذهبت إلى الصندوق أخبرني أمينه أن راتبي منتهٍ، وأني مدينٌ للصندوق للشهر الذي بعده بـ 400 ريـال". [8]
تبرعاته الكثيرة:
من صور الكرم التي عُرفت عن ابن باز - رحمه الله - كثرة تبرعاته وإنفاقه في وجوه الخير ونفع المسلمين، من ذلك تبرعه بقيمة جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام - والتي فاز بها سنة 1402هـ - لدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة. [9]
وفي عام 1406هـ حضر سماحته حفل الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم المقام في جامع الفريان بالرياض، وعلم من رئيس الجمعية حاجتهم إلى التعاقد مع سبعين مدرسًا للقرآن الكريم وعدم وجود موارد مالية لذلك، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن قال: اتفقوا معهم على حسابي. [10]
إكرامه لضيوفه وزوَّاره:
حاز ضيوف سماحة الشيخ وزواره على الجزء الأكبر من كرم الشيخ، فلم يخلو بيت سماحته يومًا من ضيوف وزوَّار من مختلف طبقات المجتمع، ومن داخل المملكة وخارجها، خاصةً بعد توليه الإفتاء، حتى إن نفقات بيته اليومية كانت تتجاوز الألفي ريـال. [11]
ونعرض في الأسطر الآتية أبرز مظاهر إكرامه لضيوفه:
مشاركتهم وعدم التميز عنهم:
كان من عادة شيخنا - رحمه الله - عدم تناول الطعام وحده، فكان حريصًا على أن يشاركه ضيوفُه الطعام، ولا يجد لذَّةً للطعام إلا معهم، حتى إنه في عام 1417هـ سافر إلى الطائف، وفتح بيته للضيوف والفقراء والمساكين، فلم يأتِه أحدٌ في اليوم الأول لوصوله، فتألم لذلك وقال للعاملين معه: ما بال الناس لا يأتون؟! هل تعتذرون لأحدٍ أو تغلقون الأبواب في وجوه الناس؟! فقيل له: كثير منهم لم يعلم بوصولك، وبعضهم يُحب أن ترتاح في الأيام الأولى، فقال: اذهبوا وأخبروا الناس، وأخبروا الجيران، وقولوا لهم: الشيخ يدعوكم، وبيته مفتوح لكم. [12]
ولم يكن - رحمه الله - يتميز عن ضيوفه بطعامٍ أو شرابٍ، بل ما يُوضَع أمامه يُوضَع أمام الجميع، حتى إنه لما أُصيب بمرضٍ في الكبد قبل وفاته بـ15عامًا كان من وصايا الأطباء تخصيص طعام خاصٍّ له يتلاءم مع حالته الصحية، وأول يوم وُضع له تضايق وأمر برفعه، وقال: آكل مما يأكل منه ضيوفنا، ولا نتميز عنهم؛ لأنَّ بعضهم قد يفهم الأمرَ على غير حالته التي نصح بها الأطباء، ولكن نتوكَّل على الله، ونُشاطرهم الطعام. [13]
بابه مفتوح دائمًا في الليل والنهار:
اعتاد سماحته - رحمه الله - أن يظل باب بيته مفتوحًا في وجه القادمين إليه، ليلًا ونهارًا، حتى وإن جاء الضيفُ في جنح الظلام بعدما ينام العاملون في البيت، فإنه يجد سماحته بنفسه في استقباله، والقصص في ذلك كثيرة، منها: ما حكاه الشيخ محمد حامد - رئيس أصحاب اليمين بأريتريا - حيث قال: أتيت إلى الرياض في ليلة شاتية، وليس عندي ما أستطيع دفعه للفندق، ففكرتُ أن أذهب لبيت الشيخ عبدالعزيز بن باز، وكانت الساعة الثالثة ليلًا، فترددتُ، ثم أقدمتُ فوقفت عند باب بيته الطيني القديم ولمسته، فإذا أحد النائمين عنده يسمعني ويفتح لي الباب، فسلَّمتُ عليه بهمسٍ حتى لا يسمعني أحد؛ لأن الوقت في آخر الليل، فما هي إلا لحظة حتى أقبل الشيخُ بنفسه نازلًا من الدرج ومعه إناء فيه طعام، تقوده امرأتُه من الخلف، فسلَّم عليَّ، وأعطاني الطعام، وقال: سمعتُ صوتك وأحضرت لك الطعام؛ لأني أظنك لم تأكل شيئًا هذه الليلة، فوالله ما طرق النومُ عيني من البكاء على هذا الموقف النبيل من سماحته. [14]
الحرص على شراء أجود الطعام:
من مظاهر كرم سماحة شيخنا - رحمه الله - أنه لم يكن يرضى لضيوفه أن يأكلوا طعامًا رديئًا أو متوسطًا، بل كان حريصًا على اختيار أجود الطعام وأحسنه في غير إسرافٍ ولا تبذيرٍ، فكان يوصي العاملين في منزله بشراء أحسن ما في السوق من الفاكهة والخضروات وسائر الأطعمة المُقدَّمة للضيوف، ويعتب عليهم إذا اشتروا شيئًا متوسطًا مراعاةً منهم لأحوال سماحته المادية، ويقول لهم: إياكم أن تَدْنو نفوسُكم. [15]
الإلحاح في الدعوة إلى الطعام والمبيت:
كان الشيخ - رحمه الله - حريصًا على دفع الحياء عن زواره فيما يتعلَّق بالطعام والمبيت، فكثير ما يأتيه زائرٌ من سفرٍ ويحتاج إلى مكان يبيت فيه وطعام يأكله، لكنه يستحي من الشيخ، ويخشى أن يُثقل عليه، فما أن يعلم الشيخ أن زائره من خارج المدينة التي يُقيم فيها إلا ويُبادر إلى دعوته إلى الطعام والمبيت، ويُلح عليه في ذلك، مستخدمًا أسلوب الأب الحاني الشفيق بأبنائه، دون أن يُلجئ الزائر إلى طلب ذلك والشعور بالحرج. [16]
الحرص على آداب الضيافة:
من أقوى مظاهر كرم الشيخ - رحمه الله - حرصه على مراعاة آداب الضيافة؛ من حسن استقبال، وملاطفة، وعدم استعجال في الطعام والمبيت، وغيرها مما نعرضه في الأسطر القادمة:
1- مراعاة مواعيد وصولهم واستقبالهم:
حرص الشيخ على حسن استقبال ضيوفه جميعًا، وبالأخص العلماء وطلبة العلم الكبار والمسؤولين، فكان يترقَّب موعد وصولهم - وذلك لمن أخبره بمجيئه في موعد محدد - ويُخبر العاملين معه بذلك؛ ليتهيؤوا لمساعدته في استقبالهم وحسن ضيافتهم. [17]
2- بشاشة الوجه وحسن الكلام:
من آداب الضيافة: مقابلة الضيوف بوجه بشوش، وكلام طيب، وهذا لم يَغِبْ عن شيخنا - رحمه الله - فكان طيب المحَيَّا، يبتسم في وجوه جلسائه، ويُلاطفهم بكلام يُشعرهم بقربهم منه، ومحبته لهم، مثل: "حياكم الله"، "حيَّا الله الجميع"، "من الألفة ترك الكُلْفَة"...
ويرفع من شأن ضيوفه، ويُعلي منزلتهم، ولو لم يكونوا كبارًا، أو لم تكن لهم مكانة اجتماعية، وبعضهم لم يَرَ الشيخ قبل ذلك، وكان غاية ما يتمنوه رؤية سماحته والاستئناس بحديثه، فلما دخلوا مجلسه حيَّاهم، وأدناهم منه، وألح عليهم بتناول طعام العشاء، فوافقوا.
وحرص في مجلسه معهم على ملاطفتهم، وسؤالهم عن أحوالهم ومشايخهم، والإجابة عن أسئلتهم، حتى إنه أبى أن يتركهم أو ينشغل عنهم بالمعاملات والأوراق، وظل معهم حتى تناولوا العشاء، فلما استأذنوه للانصراف ألح عليهم في المبيت، فأبوا وأخبروا سماحته أن لديهم مكانًا سيبيتون فيه، وكان آخر ما قالوه لسماحته قبل انصرافهم: جزاك الله خير الجزاء، وغفر لك، وجعلك ذخرًا للإسلام والمسلمين، لقد أعطيتنا من وقتك ومجلسك فوق ما نستحق، وفوق ما تصورنا. [18]
3- عدم استعجالهم في الطعام والمبيت:
لم يكن سماحة الشيخ - رحمه الله - يتعجَّل القيام من مائدة الطعام حتى يُنهي ضيوفُه طعامَهم؛ حتى لا يكون في قيامه استعجالٌ لهم، وإذا قام قبل أن ينتهوا قال: كلٌّ براحته، لا تستعجلوا.
أما المبيت: فكان في منزله بالرياض مكان مهيَّأ لاستقبال الضيوف، يسع قرابة خمسة عشر شخصًا، يُقيمون فيه أيامًا، وأحيانًا شهورًا، فلا يضيق الشيخ بإقامتهم، أو يتعجَّل انصرافهم، بل يتركهم حتى ينصرفوا بإرادتهم، حتى إن أحد العاملين مع سماحته قال له ذات يومٍ: إنَّ فلانًا ساكن عندنا منذ وقتٍ طويلٍ! فقال له سماحة الشيخ: لو استغنى عنكم ما جلس عندكم!.[19]
4- الفرح بهم وعدم التَّبرُّم من كثرتهم:
بعض الكرماء قد يضجر من كثرة الزائرين، وتتابع الوافدين، ويشعر بالسعادة عند انصرافهم، إلا أن شيخنا - رحمه الله - لم يكن كذلك، فكان فرحه وسعادته تكمن في حضورهم وتوافدهم عليه، بل ويدعوهم إلى الإكثار من زيارته.
ولم يكن يشعر بالضيق والحرج من مفاجأة الزائرين له بالزيارة، عملًا بقول النبي ﷺ: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية[20]، فمن ذلك: أنه في يوم 28 رمضان عام 1406هـ قبيل الإفطار جاءت حافلة كبيرة تحمل خمسين شخصًا قدموا للسلام على سماحته، وكان مجلس الشيخ قبل قدومهم ممتلئًا بنحو مئتي شخصٍ من جنسيات مختلفة، فما كان من الشيخ إلا أن رحَّب بالقادمين قائلًا: تفضلوا، حيَّاكم الله.
وكان الطعام المُعدّ في ذلك اليوم يكفي نحو ثمانين شخصًا، إلا أن البركة حلَّت في الطعام، فأكل الجميع وبقي من الطعام بقية.
ولم يكن منزل سماحته في الرياض المُعدّ لاستقبال الضيوف يتسع لكثرة الضيوف القادمين إليه، خاصةً أن بعض الزوار يأتون بأسرهم، طلبًا لشفاعةٍ، أو مساعدة، أو غير ذلك، فكان الشيخ يُنزلهم في منزله الخاص، ويصبر على مشاركتهم له في المبيت، ويقول لمن قال له: ألا ترون أن يُقال لهؤلاء: اذهبوا إلى بلدكم، ونحن ننظر في الأوراق في الوقت المناسب، ثم نخبركم؟ فيقول: ما نرى ذلك، نصبر ونتحمَّل إقامتهم عندنا حتى ينتهي موضوعهم. [21]
5- الجلوس معهم وإن لم يأكل:
في بعض الأحيان يكون سماحة الشيخ - رحمه الله - مُجهدًا ومتعبًا وليس له رغبة في الطعام - خاصةً في أيام مرضه - ومع ذلك يجلس على المائدة مع ضيوفه، خاصةً إذا طلبوا منه ذلك، إيناسًا لهم، وتطييبًا لنفوسهم، ولكي لا يتوهموا أن سماحته لا يرغب في وجودهم.
من ذلك: أنه قبل وفاته بعامين أُصيب بالإجهاد في يومٍ من الأيام نتيجة كثرة الأعمال التي قام بها في ذلك اليوم؛ من دروس، واستقبال للضيوف، وإنهاء للمعاملات، وغير ذلك، فلما وُضِعَ طعام الغداء قال لضيوفه: تفضَّلوا للغداء، حيَّاكم الله، فلما جلسوا قال: أما أنا فسامحوني؛ لأنني لا رغبةَ لي في الطعام، فقال أحدهم: يا شيخ، نحن لم نأتِ للأكل، وإنما أتينا من أجل الجلوس معكم والتحدث إليكم، فإما أن تجلس وإلا فلن نأكل! فلما سمع - رحمه الله - ذلك تحامل على نفسه وجلس مع الناس يُحدثهم ويُجيب عن أسئلتهم، ولم يأكل شيئًا من الطعام. [22]
6- إذا كان مشغولًا أناب مَن يُكرم ضيوفه:
حرص سماحة الشيخ - رحمه الله - على الالتزام بمواعيد دروسه ومحاضراته ولقاءاته، ولم يكن يسمح بأن يطغى أمرٌ على آخر، ويُعطي كلَّ شيءٍ حقه، فإذا فاجأه ضيوف رحَّب بهم، وأحسن استقبالهم، غير أنه يُكمل مهام يومه وفق جدول عمله، ويوُكل شخصًا بهم، فيقوم نيابةً عنه بإكرامهم والإحسان إليهم، فإذا أنهى الشيخ مهامه وعاد إلى البيت سأل عن ضيوفه، واطمأنَّ على ما قُدِّم لهم من ضيافة، فإن وجد تقصيرًا من الوكيل عنفه وربما اعتذر له عن استمرار العمل معه.
من ذلك ما ذكره وكان دائمًا يسأل: عسى ما نقص عليهم شيء؟ فإن قيل: لا، فرح وتهلل، وحمد الله. [23]
7- مراعاة مشاعرهم وحفظ كرامتهم:
يقول الشيخ محمد الموسى - أحد مرافقي شيخنا ابن باز: "كان سماحته يحرص كل الحرص على مراعاة مشاعر ضيوفه، وكان كثير السؤال عنهم، كثير التوصية بهم، وكثيرًا ما يقول للموظفين معه: ارحموهم، لو وجدوا غيركم ما أتوا إليكم".[24]
فلم يكن - رحمه الله - يسمح بإهانة أحدٍ من ضيوفه كائنًا من كان، حتى إنه ذات يوم سمع أحد العاملين معه يُوبِّخ أحدَ ضيوفه لإغفاله آداب الطعام، فما كان من الشيخ إلا أن قال: أنا لا أرضى لأحدٍ أن يتنقص أحدًا من ضيوفي، أو ينال منهم، فالذي يرضى أن يجلس معنا على هذا الوضع، وإلا فنحن نسمح له بأن يذهب إلى مَن يريد، وهذا بيتي، وهؤلاء أتوا إليَّ.[25]
وقيل لسماحته ذات يومٍ من أحد معارفه: يا شيخ، بعض هؤلاء لا يعرفون أدب الأكل، ولا يَحسُن الجلوس معهم، فلو انفردت عنهم وأرحت نفسك من هؤلاء! فرد عليه الشيخ قائلًا: أنا الذي وضعتُ الطعام لهم، وهم جاؤوا إليَّ، وراحتي بالأكل معهم، والرسول ﷺ كان يأكل مع أصحابه ومع الفقراء حتى مات، ولي فيه أسوة، وسوف أستمر على هذا إلى أن أموت، والذي لا يتحمَّل ولا يرغب الجلوس معهم نسامحه، ويذهب إلى غيرنا. [26]
هكذا كان كرم سماحته - رحمه الله - الذي وُصِفَ بأنه فاق كرمَ حاتم الطائي، فلم يبخل يومًا بما في يديه، ولم يدَّخر مالًا خشية الفاقة، فالكرم صاحبه طيلة حياته حتى ترك له الذكر الحسن والثناء الجميل بعد وفاته.
نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، ويجود عليه بمرافقة نبيه محمد ﷺ في عِلّيين.
- ينظر: اللآلئ السنية، لعبدالكريم المقرن (26).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (182،181)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (31)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (101).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (225،224).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (66،65)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (52،51).
- ينظر: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (265/1).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (101،100).
- ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (134).
- الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (204،203).
- ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (75)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (176).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (127).
- حكى ذلك فضيلة العلامة الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع. ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (297،296)، وابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (79).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (183)، وإمام العصر، لناصر الزهراني (91،90)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (100).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (100).
- ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (204،203).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (182).
- ينظر: المصدر السابق (185،182).
- ينظر: المصدر السابق (183).
- ينظر: المصدر السابق (183-188).
- ينظر: المصدر السابق (183-190)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (52،51)، وإمام العصر، لناصر الزهراني (189).
- أخرجه مسلم (2059).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (183-189).
- ينظر: المصدر السابق (186،185).
- ينظر: المصدر السابق (185،184)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (98).
- جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (104).
- المصدر السابق (189).
- المصدر السابق (106،105).