حلمه وعفوه
(الحلم سيد الأخلاق) هكذا عبَّر العربُ قديمًا عن منزلة الحلم بين الأخلاق عامَّةً، فجعلوه سيدًا لها، وما ذلك إلا لعظم منزلته، وكبير أثره، مع صعوبة تحصيله.
وقال النبي ﷺ لأشج عبدالقيس : إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة.
ونحسب أن الشيخ ابن باز - رحمه الله - قد توفرت فيه هاتان الخصلتان وزاد عليهما صفة العفو، تاركًا الانتقام لنفسه، راغبًا فيما عند الله من ثوابٍ.
وفيما يلي استعراض مظاهر ذلك:
لا يزيده جهل الجاهلين إلا حلمًا:
لم يتخلَّ الشيخُ - رحمه الله - عن حلمه وأناته طيلة حياته، حتى في أشد الأزمات، وأصعب المواقف، من ذلك ما وقع له في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 1412هـ، فقد صلَّى سماحته صلاة التراويح في المسجد الحرام، وبعد انتهاء الصلاة علم الناسُ بوجوده؛ فسارعوا إليه لرؤيته والسلام عليه، وتزاحموا عليه حتى ضاق نَفَسُه، وجعل يتصَبَّب عَرَقًا؛ فرُفِعَ على كُرسيٍّ ليشم الهواء، وبصعوبةٍ استطاع المرافقون لسماحته أن يُفسحوا له الطريق كي ينصرف، فما وصل إلى سيارته إلا وقد اسودَّ ثوبُه الأبيض من شدة عرقه وتزاحم الناس عليه، وبلغ به الجَهْدُ مبلغه، ومع كل هذا لم تُفارقه سكينته وهدوءه، وكان يبتسم ويقول: "هداهم الله". [1]
وقبل وفاته بعامين جاءه رجل وهو في مجلس بيته بالطائف بين ضيوفه وزواره طالبًا شفاعته للحصول على مالٍ ليتزوج، فجعل يحتدّ على الشيخ ويرفع صوته، فقال له الشيخ: "اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية ويقوم باللازم، ثم يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك"، فقال الرجل: يا شيخ، ارفعها إلى المسؤول الفلاني - يعني أحد المسؤولين الكبار. فقال سماحة الشيخ: "ما يكون إلا خير"، فرفع الرجل صوته وأخذ يكرر: لا بد أن ترفعها إلى فلان. والشيخ يلاطفه ويرفق به ويعده بالخير، حتى تضايق الحاضرون، وبدا الغضب على وجوههم، وهمَّ بعضُهم بإخراج الرجل، لكنَّهم تأدَّبوا بحضرة الشيخ، فلم يُقْدِموا على عملٍ بين يديه دون إذنه، فقال الرجل: يا شيخ، عمري يزيد على الخمسين، وما عندي زوجة، وما بقي من عمري إلا القليل! فتبسم سماحةُ الشيخ وقال: "يا ولدي، إن شاء الله ستتزوج، ويزيد عمرك - إن شاء الله - على التسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك"، فهدأ الرجل، وقَبَّل رأس سماحة الشيخ، وجعل يدعو له، فلما أراد الانصراف ألحَّ عليه الشيخُ كثيرًا في تناول الغداء معه، لكنه اعتذر لارتباطه بموعدٍ.
وقد تعجَّب الحاضرون من حِلْم الشيخ وصبره على الأذى، وتعلَّموا من سماحته درسًا عمليًّا في فضل الحلم، وحميد عاقبته. [2]
وحين كان الشيخ قاضيًا للدلم دخل عليه رجلٌ وهو يُدَرِّس لطلابه في الجامع، وجعل الرجلُ يُخاطب الشيخَ بصوتٍ مرتفعٍ قائلًا: قم افصل بين الناس، قم واترك القراءة. فلم يزد الشيخُ على أن قال لأحد طلابه: "قم يا عبدالله بن رشيد وأخبره أن يأتينا عندما نجلس للقضاء بعد الدرس". [3]
وبينما الشيخ في مجلس بيته في أحد الأعياد إذ دخل عليه أحدُ المقيمين عنده من الذين يتولى الشيخ الإنفاق عليهم، وجعل يرفع صوته قائلًا: لماذا ما أنهيتم إجراءات إقامتي؟! فقال أحدُ كُتَّاب الشيخ: يا شيخ، هذا طبعه دائمًا، صدره ضيق، ومماحكاته كثيرة! فقال له الشيخ: "هؤلاء مساكين وأغراب، ولا يعرفون مصطلحاتكم، فارحموهم، وارفقوا بهم، وتحمَّلوهم، ألم تسمعوا قول النبي ﷺ: اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومَن ولي من أمرهم شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه؟!". [4]
هكذا كان سماحة الشيخ - رحمه الله - فكثيرًا ما يُسيء إليه أحدُ الناس ويُغلظ له القول، وهو لا يُغيِّر من حلمه وصبره على الأذى، وغاية ما يُقابل به المسيئين إليه هو الدعاء لهم بالهداية، وإرشادهم إلى ذكر الله تعالى، وحُسن عرض مشكلاتهم.
لا ينتقم لنفسه ولا يحمل ضغينةً لأحدٍ:
امتاز الشيخ - رحمه الله - بصفاء قلبه، ونقاء سريرته، فما انتقم لنفسه ولا حمل في صدره ضغينةً لأحدٍ، ولا سعى في الإضرار بأحدٍ لأنَّه أساء إليه، بل كان يعفو ويصفح، ويدعو الله لمن أساء إليه بالمغفرة والهداية.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف: "أخبرته برجلٍ اغتابه سنين عديدة، مُتَّهمًا إياه بصفات بذيئة، ونعوت مرذُولة، وأنه يطلب منه السماح والعفو، فقال: "أما حقِّي فقد تنازلتُ عنه، وأرجو الله أن يهديه ويُثبته على الحق". [5]
وجاءه رجل ذات يوم وقال له: يا شيخ لقد اغتبتُك فحللني! فقال الشيخ: "ظهري حلالٌ لكل مسلمٍ".
يا الله! إنه العفو في أعلى صوره، وقليل مَن يستطيعه.
وقيل له في إحدى المحاضرات: إن الشيخ (فلان) يقول: إنك مبتدع! فما رأيك؟ فقال - رحمه الله: "هو عالم مجتهد". [6]
بل وصل الأمر بأحد الناس إلى تكفير الشيخ ولعنه، ومع ذلك دعا له الشيخ بالهداية، ولم يُسئ إليه أو يذكره بسوءٍ.
يقول الأستاذ سعد آل تميم الدوسري: شهدت الشيخ ابن باز ورجلٌ يقول له: إن فلانًا يُكفرك! فيُجيبُه: "الله يهديه، الله يهديه". فيقول الرجل: هو يلعنك لعنًا! فما زاد على قول: "الله يهديه، الله يهديه". [7]
وذات يومٍ شرع الشيخُ في إملاء كتابٍ في نصح أحد الناس وتوجيهه، بعدما بيَّن له بعضُ طلبة العلم أخطاء ذلك الشخص وبعض المخالفات التي عنده، وفي أثناء الإملاء قال أحدُ الطلبة: وإنه يا شيخ يتكلم فيك، وينال منك! فقال الشيخ للكاتب: "قف". ومزَّق الكتاب؛ خشية أن يُقال: إن الشيخ ينتقم لنفسه. [8]
وأخذ جيرانه جزءًا من أرضه الزراعية، فلما أخبره وكيلُه على الأرض بذلك قال: "عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء"، فقال الوكيل: يا شيخ، إنهم دخلوا على أرضك وأخذوا منها! فقال الشيخ: "الباقي منها فيه بركة، المهم أن الجيران راضون". [9]
وكثيرًا ما كانت تأتيه رسائل من أشخاص اغتابوه أو كذبوا عليه أو طعنوا في دينه أو منهجه، ويطلبون منه العفو والمسامحة، فيُجيبهم إلى ما طلبوا، ويزيدهم الدعاء لهم بالهداية والمغفرة.
قال الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "مع ما جبلت نفس الشيخ عليه من برٍّ ووفاء، فإن قلبه لا يحمل غلًّا على أحدٍ، بل يتسامح وينسى الإساءات التي تُوجه إليه، ويُجازي بالإحسان، وما أكثر ما نقرأ عليه رسائل أو تأتيه مكالمات من أناسٍ يعتذرون إليه مما بدر منهم نحوه، ويرجون صَفْحَه عنهم، فيُجيبهم بما يريح قلوبهم، ويُزيل ما في النفس من ندمٍ، ويطلب لهم وله العفو من الله والمغفرة، وأن يعامل سبحانه الجميع بعفوه وإحسانه، وكلنا مقصرون". [10]
وصلته ذات يوم رسالة من المدينة المنورة، يقول صاحبُها: إنني كنتُ من المبغضين لسماحتكم بغضًا شديدًا، وكنتُ أغتابكم، وأزيد مع ذلك النميمة والكذب على سماحتكم؛ حتى يزداد عدد مَن يُشاطرني هذا الشعور مدةً طويلةً، ولكنني الآن أدركتُ خطئي، وتبتُ مما كنتُ عليه نحوكم، فأرجو مسامحتكم والدعوة لي، وإن أردتم أن تقتصُّوا مني جئتُ إليكم في الرياض.
فأمر الشيخ بأن يُكتب له الرد الآتي: "سامحك الله، وغفر لنا ولك، وكلنا مُقصِّرون، ونستغفر الله، وأنا مسامح"، ثم دعا له. [11]
وفي حج عام 1412هـ جاء أحدُ الحجاج برسالةٍ من شخصٍ يذكر فيها أنه أخطأ في حقِّ الشيخ وأساء إليه، ويطلب منه العفو والصفح، فأملى الشيخُ على كاتبه ردًّا أضافه أسفل الرسالة، جاء فيه: "إذا كان ما أشرتم إليه يتعلَّق بي فأنتم مسامحون، وعفا الله عنكم، وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين، والاستقامة عليه، والعافية من شرور الفتن، وسيئات العمل".
وفي عام 1417هـ جاءته رسالة من رجلٍ اغتابه وأساء ذكره، ويطلب منه أن يلتمس له العذر، ويغفر له تطاوله على سماحته، ويدعو الله له بالمغفرة، فرد عليه الشيخ: "سامحكم الله، وعفا عنا وعنكم". [12]
ومن أقوى المواقف دلالةً على حِلم الشيخ وأنه لا يحمل في قلبه ضغينةً لأحدٍ: ما ذكره الشيخ عبدالعزيز بن ناصر البراك، حيث قال: "دخل عليه في مجلس القضاء في الدلم رجلٌ كثير السّباب، فسَبَّ الشيخ وشتمه، والشيخ لا يرد عليه، وعندما سافر الشيخ عبدالعزيز إلى الحج توفي هذا الرجل، فجُهّز للصلاة عليه في جامع العذار، وكان إمامُه آنذاك الشيخ عبدالعزيز بن عثمان بن هليل، فلما علم أنه ذلك الرجل تنحَّى وامتنع عن الصلاة عليه، وقال: لا أُصلي على شخصٍ يشتم الشيخ ابن باز، بل صلُّوا عليه أنتم، فلما عاد الشيخ عبدالعزيز بن باز من الحج وأُخبر بموت ذلك الرجل ترحَّم عليه، وعندما علم برفض الشيخ ابن هليل الصلاة عليه قال: "إنه مخطئ في ذلك"، ثم قال: "دلُّوني على قبره"، فصلَّى عليه، وترحَّم عليه، ودعا له". [13]
يغفر ولا يعتب:
يتَّضح من خلال ما ذُكِرَ أن الشيخ يعفو ويسامح دون أن يُوجِّه لمن أساء إليه اللوم والعتاب، أو يُؤَنِّبه على ما اقترف في حقِّه، فهو يترك كل ذلك وراء ظهره، ويقبل الاعتذار دون أن يعرف تفاصيل الخطأ، مكتفيًا باعتراف المخطئ بخطئه وإحساسه بالذنب.
من ذلك أن رجلًا شتم الشيخ، ثم ندم وأرسل إليه رسالةً يعتذر فيها عمَّا بدر منه، ويلتمس من سماحته العفو، فما وبَّخه الشيخ، ولا عنَّفه، بل أجابه بالآتي: "أما الكلمة التي صدرت منكم بحقي وندمتم عليها فأقول: سامحكم الله، وعفا عنكم، وليس في نفسي حرجٌ من ذلك، ونسأل الله أن يعفو عنا جميعًا، وأن يُعيذنا وجميع المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمنحنا الفقه في الدين، إنه خير مسؤول.
وأوصيكم بتقوى الله أينما كنتم، والحرص على حفظ اللسان والجوارح من كلِّ ما يُغضب الله، وبذل الوسع في استعمالها في طاعة الله، وفقكم الله، وأصلح لنا ولكم القول والعمل". [14]
وقبل وفاته - رحمه الله - بأيام قال له الشيخ محمد صالح المنجد: أريدك يا شيخ أن تُسامحني وتحللني؛ فلا يخلو الأمر من خطأ في حقِّك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك. فقال: "مسامح، مسامح، سامحك الله". [15]
يقابل الإساءة بالإحسان:
لم يكن سماحة شيخنا - رحمه الله - يحلم ويعفو فقط، بل زاد على ذلك مقابلة الإساءة بالإحسان، ومما يروى في ذلك: أنه اختلف مع أحد العلماء من خارج المملكة حول بعض المسائل، ثم جاء هذا العالم إلى المملكة زائرًا، فدعاه شيخنا للغداء في منزله ولاطفه وأكرمه، وحضر هذا الغداء بعضُ طلبة العلم، فقال أحدُهم لسماحته: هذا فلان الذي قال فيك كذا! فأسكته شيخنا، وأبى أن يُثار هذا الأمر، وفي نهاية الجلسة قام شيخنا مع الضيف إلى الباب وودَّعه، فقال هذا العالم بعد ذلك لبعض رفاقه: "لو قيل لي أن على وجه الدنيا أحد من السلف الصالح لقلت أنه هذا الرجل". [16]
وهذا أحد العاملين مع سماحته يُرسل إليه خطابًا قاسيًا يتهم فيه الشيخ بظلمه والتقصير في حقِّه، فكان مما جاء فيه: أنت لم تعد تهتم بي، وأنت تُقدم غيري عليَّ، وأنا ظُلمتُ معك، والناس ينتظرون فيك العدالة، وسأقف أنا وأنت بين يدي الله، لقد عملتُ معك مدةً طويلةً فلم أحصل على ترقية وتحسين لمستواي الوظيفي!
فلما قُرئت الرسالة على الشيخ تبسَّم وقال: "الله يُسامحه، لقد أحسستُ بهذه الجفوة فيه، وشعرتُ أن في نفسه شيئًا عليَّ"، ثم قال لكاتبه: "اكتب: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الابن فلان بن فلان - حفظه الله وبارك فيه - أمَّا بعد، فوالله إنَّك من أحبِّ الناس إلى قلبي، وأنا ليس في نفسي عليك شيء، أما بالنسبة لموضوعك فأنت لم تُكلمني فيه أبدًا، ولكن أرجو منك أن تُغير خطابَك هذا بخطاب آخر تشرح فيه موضوعك، وننظر في الأمر - إن شاء الله - ونجتهد فيه"، ودعا له بالتوفيق والفلاح.
فلما وصل الرد إلى الرجل احمرَّ وجهه من الخجل، وشعر بحرجٍ كبيرٍ، وتأثَّر بموقف الشيخ، فجاء إلى الشيخ معتذرًا ونادمًا، فرحَّب به الشيخ، وأجلسه بجواره، وسمع ما عنده، ودعا له ووعده بالخير". [17]
التماس الأعذار:
مما ميَّز الشيخ - رحمه الله - أيضًا أنه كان حسن الظن بالناس، دائم التماس الأعذار لهم، فإن أخطأ في حقِّه إنسانٌ أو قصَّر التمس له العذر؛ فصبر عليه وعفا عنه، فضرب للناس المثلَ وأعطاهم القدوة في ذلك، ومن أقواله حول ذلك: "المشروع للمؤمن أن يحترم أخاه إذا اعتذر إليه، ويقبل عذره إذا أمكن ذلك، ويُحسن به الظن حيث أمكن ذلك؛ حرصًا على سلامة القلوب من البغضاء، ورغبةً في جمع الكلمة والتعاون على الخير، وقد رُوي عن عمر أنه قال: "لا تظن بكلمةٍ صدرت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا". [18]
وإن مما يُدلل على هذا: أنه أمر ذات يومٍ بإعطاء رجلٍ محتاج مبلغ ألف وخمسمئة ريـال، فأخذ الرجل إيصالَ الصرف وزاد فيه صفرًا، فصار المبلغ خمسة عشر ألف ريـال، وذهب ليصرفه، فوجد مسؤول الصرف خللًا في الإيصال، تمثَّل في اختلاف الأرقام عن الحروف، فالرقم 15000 ألفًا، بينما الحروف تقول: ألف وخمسمئة ريـال، فذهب مسؤول الصرف إلى الشيخ وأخبره، فما كان من الشيخ - رحمه الله - إلا أن أخذ يُسبِّح ويستغفر ويستخير الله في أمره، ثم أمر بإعطائه كامل المبلغ خمسة عشر ألف ريـال، وقال: "لعل الذي حمله على التزوير الحاجة، ولا أظنه إلا محتاجًا". [19]
متى يغضب الشيخ؟
بعد كلِّ هذا الذي تقدَّم يتبادر إلى الذهن سؤالٌ لا بد له من جوابٍ، وهو: متى يغضب الشيخ؟
يُجيب عن هذا السؤال عبدالله بن باز -أكبر أبناء الشيخ- حيث يقول: "عُرف الوالدُ بين الناس وبيننا بالحلم والخصال الطيبة: العلم والصبر والتواضع في معادلةٍ جعلت الناسَ تُحبه، لكنه كبشرٍ وإنسانٍ يغضب، وكان ذلك عندما تُنتهك الحرمات، يغضب غضبًا شديدًا، وعندما يسمع أن هناك ظلمًا وقع على شخصٍ، أو عندما يجد مشكلةً كبيرةً تمس أحد الناس ولا تُتَّخذ فيها خطوة للحل.
وأحيانًا كانت تمر السنة أو السنتان ولا نجده يغضب، لم أره يغضب على العاملين معه، ولم أره يغضب على أبنائه أو أحدٍ في العائلة". [20]
ومن دلائل ذلك: ما أخبر به فضيلة الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، حيث قال: "ومن صراحته في ذات الله أن أحد العوام الجهلة ذبح الذبائح عند عجلات سيارة الملك سعود - رحمه الله - بالصفا ابتهاجًا بقدومه، فقام الشيخ ابن باز يدور والدمع يخنقه، ويصيح بأعلى صوته: إنها حرام حرام، لا يجوز أكلها .. ولما علم الملك سعود - رحمه الله - بفعل الجاهل غضب، وأظنها نُقلت لحديقة الحيوانات، وشكر للشيخ موقفه". [21]
وتحدَّث الشيخ في درسٍ من دروسه عن جواز نكاح الكتابيات بشرطه، وأيَّد ذلك بالأدلة، فقال أحدُ الطلاب: يا شيخ، بعض الصحابة كان ينهى عن ذلك! فالتفت إليه الشيخ وقد احمَرَّ وجهُه وقال: "هل قول الصحابي يُضاد به الكتاب والسنة؟!". [22]
وفي درسٍ آخر قال أحدُ الطلبة للشيخ في حديث: إن أبي وأباك في النار: إن الرسول ﷺ إنما قال ذلك للرجل لتطييب نفسه لا غير! فالتفت الشيخ مُغضبًا وقال: "يُطَيِّب نفسَه بعذاب أبيه؟!". [23]
وفي درسٍ ثالث قرر - رحمه الله - حرمة التصوير، وساق الأدلة على هذا، واستفاض في بيان ذلك الحكم مُفَنِّدًا كل شبهةٍ تُعارض الأدلة، فلما انتهى من تقرير ذلك قال أحد الطلبة: هذه صورك تخرج في التلفاز والجرائد، نراها كل يوم! فرد عليه الشيخ قائلًا: "اتبع الأدلة واترك فعل ابن باز، هل أنا معصوم؟! عليك بالأدلة، خذها واعمل بها، ولا تنظر إلى أفعالي وأفعال الرجال، وأنا لستُ راضيًا عنها [يعني صوره]". [24]
هكذا كان الشيخ - رحمه الله - حليم يعفو في غير معصية الله، فما انتقم لنفسه، ولا أساء لأحدٍ في يومٍ من الأيام، يزينه الحلم، ويُجَمّله الصفح والعفو، فرحمه الله رحمةً واسعةً، وألحقنا به على خيرٍ.
وقال النبي ﷺ لأشج عبدالقيس : إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة.
ونحسب أن الشيخ ابن باز - رحمه الله - قد توفرت فيه هاتان الخصلتان وزاد عليهما صفة العفو، تاركًا الانتقام لنفسه، راغبًا فيما عند الله من ثوابٍ.
وفيما يلي استعراض مظاهر ذلك:
لا يزيده جهل الجاهلين إلا حلمًا:
لم يتخلَّ الشيخُ - رحمه الله - عن حلمه وأناته طيلة حياته، حتى في أشد الأزمات، وأصعب المواقف، من ذلك ما وقع له في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 1412هـ، فقد صلَّى سماحته صلاة التراويح في المسجد الحرام، وبعد انتهاء الصلاة علم الناسُ بوجوده؛ فسارعوا إليه لرؤيته والسلام عليه، وتزاحموا عليه حتى ضاق نَفَسُه، وجعل يتصَبَّب عَرَقًا؛ فرُفِعَ على كُرسيٍّ ليشم الهواء، وبصعوبةٍ استطاع المرافقون لسماحته أن يُفسحوا له الطريق كي ينصرف، فما وصل إلى سيارته إلا وقد اسودَّ ثوبُه الأبيض من شدة عرقه وتزاحم الناس عليه، وبلغ به الجَهْدُ مبلغه، ومع كل هذا لم تُفارقه سكينته وهدوءه، وكان يبتسم ويقول: "هداهم الله". [1]
وقبل وفاته بعامين جاءه رجل وهو في مجلس بيته بالطائف بين ضيوفه وزواره طالبًا شفاعته للحصول على مالٍ ليتزوج، فجعل يحتدّ على الشيخ ويرفع صوته، فقال له الشيخ: "اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية ويقوم باللازم، ثم يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك"، فقال الرجل: يا شيخ، ارفعها إلى المسؤول الفلاني - يعني أحد المسؤولين الكبار. فقال سماحة الشيخ: "ما يكون إلا خير"، فرفع الرجل صوته وأخذ يكرر: لا بد أن ترفعها إلى فلان. والشيخ يلاطفه ويرفق به ويعده بالخير، حتى تضايق الحاضرون، وبدا الغضب على وجوههم، وهمَّ بعضُهم بإخراج الرجل، لكنَّهم تأدَّبوا بحضرة الشيخ، فلم يُقْدِموا على عملٍ بين يديه دون إذنه، فقال الرجل: يا شيخ، عمري يزيد على الخمسين، وما عندي زوجة، وما بقي من عمري إلا القليل! فتبسم سماحةُ الشيخ وقال: "يا ولدي، إن شاء الله ستتزوج، ويزيد عمرك - إن شاء الله - على التسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك"، فهدأ الرجل، وقَبَّل رأس سماحة الشيخ، وجعل يدعو له، فلما أراد الانصراف ألحَّ عليه الشيخُ كثيرًا في تناول الغداء معه، لكنه اعتذر لارتباطه بموعدٍ.
وقد تعجَّب الحاضرون من حِلْم الشيخ وصبره على الأذى، وتعلَّموا من سماحته درسًا عمليًّا في فضل الحلم، وحميد عاقبته. [2]
وحين كان الشيخ قاضيًا للدلم دخل عليه رجلٌ وهو يُدَرِّس لطلابه في الجامع، وجعل الرجلُ يُخاطب الشيخَ بصوتٍ مرتفعٍ قائلًا: قم افصل بين الناس، قم واترك القراءة. فلم يزد الشيخُ على أن قال لأحد طلابه: "قم يا عبدالله بن رشيد وأخبره أن يأتينا عندما نجلس للقضاء بعد الدرس". [3]
وبينما الشيخ في مجلس بيته في أحد الأعياد إذ دخل عليه أحدُ المقيمين عنده من الذين يتولى الشيخ الإنفاق عليهم، وجعل يرفع صوته قائلًا: لماذا ما أنهيتم إجراءات إقامتي؟! فقال أحدُ كُتَّاب الشيخ: يا شيخ، هذا طبعه دائمًا، صدره ضيق، ومماحكاته كثيرة! فقال له الشيخ: "هؤلاء مساكين وأغراب، ولا يعرفون مصطلحاتكم، فارحموهم، وارفقوا بهم، وتحمَّلوهم، ألم تسمعوا قول النبي ﷺ: اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومَن ولي من أمرهم شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه؟!". [4]
هكذا كان سماحة الشيخ - رحمه الله - فكثيرًا ما يُسيء إليه أحدُ الناس ويُغلظ له القول، وهو لا يُغيِّر من حلمه وصبره على الأذى، وغاية ما يُقابل به المسيئين إليه هو الدعاء لهم بالهداية، وإرشادهم إلى ذكر الله تعالى، وحُسن عرض مشكلاتهم.
لا ينتقم لنفسه ولا يحمل ضغينةً لأحدٍ:
امتاز الشيخ - رحمه الله - بصفاء قلبه، ونقاء سريرته، فما انتقم لنفسه ولا حمل في صدره ضغينةً لأحدٍ، ولا سعى في الإضرار بأحدٍ لأنَّه أساء إليه، بل كان يعفو ويصفح، ويدعو الله لمن أساء إليه بالمغفرة والهداية.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف: "أخبرته برجلٍ اغتابه سنين عديدة، مُتَّهمًا إياه بصفات بذيئة، ونعوت مرذُولة، وأنه يطلب منه السماح والعفو، فقال: "أما حقِّي فقد تنازلتُ عنه، وأرجو الله أن يهديه ويُثبته على الحق". [5]
وجاءه رجل ذات يوم وقال له: يا شيخ لقد اغتبتُك فحللني! فقال الشيخ: "ظهري حلالٌ لكل مسلمٍ".
يا الله! إنه العفو في أعلى صوره، وقليل مَن يستطيعه.
وقيل له في إحدى المحاضرات: إن الشيخ (فلان) يقول: إنك مبتدع! فما رأيك؟ فقال - رحمه الله: "هو عالم مجتهد". [6]
بل وصل الأمر بأحد الناس إلى تكفير الشيخ ولعنه، ومع ذلك دعا له الشيخ بالهداية، ولم يُسئ إليه أو يذكره بسوءٍ.
يقول الأستاذ سعد آل تميم الدوسري: شهدت الشيخ ابن باز ورجلٌ يقول له: إن فلانًا يُكفرك! فيُجيبُه: "الله يهديه، الله يهديه". فيقول الرجل: هو يلعنك لعنًا! فما زاد على قول: "الله يهديه، الله يهديه". [7]
وذات يومٍ شرع الشيخُ في إملاء كتابٍ في نصح أحد الناس وتوجيهه، بعدما بيَّن له بعضُ طلبة العلم أخطاء ذلك الشخص وبعض المخالفات التي عنده، وفي أثناء الإملاء قال أحدُ الطلبة: وإنه يا شيخ يتكلم فيك، وينال منك! فقال الشيخ للكاتب: "قف". ومزَّق الكتاب؛ خشية أن يُقال: إن الشيخ ينتقم لنفسه. [8]
وأخذ جيرانه جزءًا من أرضه الزراعية، فلما أخبره وكيلُه على الأرض بذلك قال: "عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء"، فقال الوكيل: يا شيخ، إنهم دخلوا على أرضك وأخذوا منها! فقال الشيخ: "الباقي منها فيه بركة، المهم أن الجيران راضون". [9]
وكثيرًا ما كانت تأتيه رسائل من أشخاص اغتابوه أو كذبوا عليه أو طعنوا في دينه أو منهجه، ويطلبون منه العفو والمسامحة، فيُجيبهم إلى ما طلبوا، ويزيدهم الدعاء لهم بالهداية والمغفرة.
قال الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "مع ما جبلت نفس الشيخ عليه من برٍّ ووفاء، فإن قلبه لا يحمل غلًّا على أحدٍ، بل يتسامح وينسى الإساءات التي تُوجه إليه، ويُجازي بالإحسان، وما أكثر ما نقرأ عليه رسائل أو تأتيه مكالمات من أناسٍ يعتذرون إليه مما بدر منهم نحوه، ويرجون صَفْحَه عنهم، فيُجيبهم بما يريح قلوبهم، ويُزيل ما في النفس من ندمٍ، ويطلب لهم وله العفو من الله والمغفرة، وأن يعامل سبحانه الجميع بعفوه وإحسانه، وكلنا مقصرون". [10]
وصلته ذات يوم رسالة من المدينة المنورة، يقول صاحبُها: إنني كنتُ من المبغضين لسماحتكم بغضًا شديدًا، وكنتُ أغتابكم، وأزيد مع ذلك النميمة والكذب على سماحتكم؛ حتى يزداد عدد مَن يُشاطرني هذا الشعور مدةً طويلةً، ولكنني الآن أدركتُ خطئي، وتبتُ مما كنتُ عليه نحوكم، فأرجو مسامحتكم والدعوة لي، وإن أردتم أن تقتصُّوا مني جئتُ إليكم في الرياض.
فأمر الشيخ بأن يُكتب له الرد الآتي: "سامحك الله، وغفر لنا ولك، وكلنا مُقصِّرون، ونستغفر الله، وأنا مسامح"، ثم دعا له. [11]
وفي حج عام 1412هـ جاء أحدُ الحجاج برسالةٍ من شخصٍ يذكر فيها أنه أخطأ في حقِّ الشيخ وأساء إليه، ويطلب منه العفو والصفح، فأملى الشيخُ على كاتبه ردًّا أضافه أسفل الرسالة، جاء فيه: "إذا كان ما أشرتم إليه يتعلَّق بي فأنتم مسامحون، وعفا الله عنكم، وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين، والاستقامة عليه، والعافية من شرور الفتن، وسيئات العمل".
وفي عام 1417هـ جاءته رسالة من رجلٍ اغتابه وأساء ذكره، ويطلب منه أن يلتمس له العذر، ويغفر له تطاوله على سماحته، ويدعو الله له بالمغفرة، فرد عليه الشيخ: "سامحكم الله، وعفا عنا وعنكم". [12]
ومن أقوى المواقف دلالةً على حِلم الشيخ وأنه لا يحمل في قلبه ضغينةً لأحدٍ: ما ذكره الشيخ عبدالعزيز بن ناصر البراك، حيث قال: "دخل عليه في مجلس القضاء في الدلم رجلٌ كثير السّباب، فسَبَّ الشيخ وشتمه، والشيخ لا يرد عليه، وعندما سافر الشيخ عبدالعزيز إلى الحج توفي هذا الرجل، فجُهّز للصلاة عليه في جامع العذار، وكان إمامُه آنذاك الشيخ عبدالعزيز بن عثمان بن هليل، فلما علم أنه ذلك الرجل تنحَّى وامتنع عن الصلاة عليه، وقال: لا أُصلي على شخصٍ يشتم الشيخ ابن باز، بل صلُّوا عليه أنتم، فلما عاد الشيخ عبدالعزيز بن باز من الحج وأُخبر بموت ذلك الرجل ترحَّم عليه، وعندما علم برفض الشيخ ابن هليل الصلاة عليه قال: "إنه مخطئ في ذلك"، ثم قال: "دلُّوني على قبره"، فصلَّى عليه، وترحَّم عليه، ودعا له". [13]
يغفر ولا يعتب:
يتَّضح من خلال ما ذُكِرَ أن الشيخ يعفو ويسامح دون أن يُوجِّه لمن أساء إليه اللوم والعتاب، أو يُؤَنِّبه على ما اقترف في حقِّه، فهو يترك كل ذلك وراء ظهره، ويقبل الاعتذار دون أن يعرف تفاصيل الخطأ، مكتفيًا باعتراف المخطئ بخطئه وإحساسه بالذنب.
من ذلك أن رجلًا شتم الشيخ، ثم ندم وأرسل إليه رسالةً يعتذر فيها عمَّا بدر منه، ويلتمس من سماحته العفو، فما وبَّخه الشيخ، ولا عنَّفه، بل أجابه بالآتي: "أما الكلمة التي صدرت منكم بحقي وندمتم عليها فأقول: سامحكم الله، وعفا عنكم، وليس في نفسي حرجٌ من ذلك، ونسأل الله أن يعفو عنا جميعًا، وأن يُعيذنا وجميع المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمنحنا الفقه في الدين، إنه خير مسؤول.
وأوصيكم بتقوى الله أينما كنتم، والحرص على حفظ اللسان والجوارح من كلِّ ما يُغضب الله، وبذل الوسع في استعمالها في طاعة الله، وفقكم الله، وأصلح لنا ولكم القول والعمل". [14]
وقبل وفاته - رحمه الله - بأيام قال له الشيخ محمد صالح المنجد: أريدك يا شيخ أن تُسامحني وتحللني؛ فلا يخلو الأمر من خطأ في حقِّك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك. فقال: "مسامح، مسامح، سامحك الله". [15]
يقابل الإساءة بالإحسان:
لم يكن سماحة شيخنا - رحمه الله - يحلم ويعفو فقط، بل زاد على ذلك مقابلة الإساءة بالإحسان، ومما يروى في ذلك: أنه اختلف مع أحد العلماء من خارج المملكة حول بعض المسائل، ثم جاء هذا العالم إلى المملكة زائرًا، فدعاه شيخنا للغداء في منزله ولاطفه وأكرمه، وحضر هذا الغداء بعضُ طلبة العلم، فقال أحدُهم لسماحته: هذا فلان الذي قال فيك كذا! فأسكته شيخنا، وأبى أن يُثار هذا الأمر، وفي نهاية الجلسة قام شيخنا مع الضيف إلى الباب وودَّعه، فقال هذا العالم بعد ذلك لبعض رفاقه: "لو قيل لي أن على وجه الدنيا أحد من السلف الصالح لقلت أنه هذا الرجل". [16]
وهذا أحد العاملين مع سماحته يُرسل إليه خطابًا قاسيًا يتهم فيه الشيخ بظلمه والتقصير في حقِّه، فكان مما جاء فيه: أنت لم تعد تهتم بي، وأنت تُقدم غيري عليَّ، وأنا ظُلمتُ معك، والناس ينتظرون فيك العدالة، وسأقف أنا وأنت بين يدي الله، لقد عملتُ معك مدةً طويلةً فلم أحصل على ترقية وتحسين لمستواي الوظيفي!
فلما قُرئت الرسالة على الشيخ تبسَّم وقال: "الله يُسامحه، لقد أحسستُ بهذه الجفوة فيه، وشعرتُ أن في نفسه شيئًا عليَّ"، ثم قال لكاتبه: "اكتب: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الابن فلان بن فلان - حفظه الله وبارك فيه - أمَّا بعد، فوالله إنَّك من أحبِّ الناس إلى قلبي، وأنا ليس في نفسي عليك شيء، أما بالنسبة لموضوعك فأنت لم تُكلمني فيه أبدًا، ولكن أرجو منك أن تُغير خطابَك هذا بخطاب آخر تشرح فيه موضوعك، وننظر في الأمر - إن شاء الله - ونجتهد فيه"، ودعا له بالتوفيق والفلاح.
فلما وصل الرد إلى الرجل احمرَّ وجهه من الخجل، وشعر بحرجٍ كبيرٍ، وتأثَّر بموقف الشيخ، فجاء إلى الشيخ معتذرًا ونادمًا، فرحَّب به الشيخ، وأجلسه بجواره، وسمع ما عنده، ودعا له ووعده بالخير". [17]
التماس الأعذار:
مما ميَّز الشيخ - رحمه الله - أيضًا أنه كان حسن الظن بالناس، دائم التماس الأعذار لهم، فإن أخطأ في حقِّه إنسانٌ أو قصَّر التمس له العذر؛ فصبر عليه وعفا عنه، فضرب للناس المثلَ وأعطاهم القدوة في ذلك، ومن أقواله حول ذلك: "المشروع للمؤمن أن يحترم أخاه إذا اعتذر إليه، ويقبل عذره إذا أمكن ذلك، ويُحسن به الظن حيث أمكن ذلك؛ حرصًا على سلامة القلوب من البغضاء، ورغبةً في جمع الكلمة والتعاون على الخير، وقد رُوي عن عمر أنه قال: "لا تظن بكلمةٍ صدرت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا". [18]
وإن مما يُدلل على هذا: أنه أمر ذات يومٍ بإعطاء رجلٍ محتاج مبلغ ألف وخمسمئة ريـال، فأخذ الرجل إيصالَ الصرف وزاد فيه صفرًا، فصار المبلغ خمسة عشر ألف ريـال، وذهب ليصرفه، فوجد مسؤول الصرف خللًا في الإيصال، تمثَّل في اختلاف الأرقام عن الحروف، فالرقم 15000 ألفًا، بينما الحروف تقول: ألف وخمسمئة ريـال، فذهب مسؤول الصرف إلى الشيخ وأخبره، فما كان من الشيخ - رحمه الله - إلا أن أخذ يُسبِّح ويستغفر ويستخير الله في أمره، ثم أمر بإعطائه كامل المبلغ خمسة عشر ألف ريـال، وقال: "لعل الذي حمله على التزوير الحاجة، ولا أظنه إلا محتاجًا". [19]
متى يغضب الشيخ؟
بعد كلِّ هذا الذي تقدَّم يتبادر إلى الذهن سؤالٌ لا بد له من جوابٍ، وهو: متى يغضب الشيخ؟
يُجيب عن هذا السؤال عبدالله بن باز -أكبر أبناء الشيخ- حيث يقول: "عُرف الوالدُ بين الناس وبيننا بالحلم والخصال الطيبة: العلم والصبر والتواضع في معادلةٍ جعلت الناسَ تُحبه، لكنه كبشرٍ وإنسانٍ يغضب، وكان ذلك عندما تُنتهك الحرمات، يغضب غضبًا شديدًا، وعندما يسمع أن هناك ظلمًا وقع على شخصٍ، أو عندما يجد مشكلةً كبيرةً تمس أحد الناس ولا تُتَّخذ فيها خطوة للحل.
وأحيانًا كانت تمر السنة أو السنتان ولا نجده يغضب، لم أره يغضب على العاملين معه، ولم أره يغضب على أبنائه أو أحدٍ في العائلة". [20]
ومن دلائل ذلك: ما أخبر به فضيلة الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، حيث قال: "ومن صراحته في ذات الله أن أحد العوام الجهلة ذبح الذبائح عند عجلات سيارة الملك سعود - رحمه الله - بالصفا ابتهاجًا بقدومه، فقام الشيخ ابن باز يدور والدمع يخنقه، ويصيح بأعلى صوته: إنها حرام حرام، لا يجوز أكلها .. ولما علم الملك سعود - رحمه الله - بفعل الجاهل غضب، وأظنها نُقلت لحديقة الحيوانات، وشكر للشيخ موقفه". [21]
وتحدَّث الشيخ في درسٍ من دروسه عن جواز نكاح الكتابيات بشرطه، وأيَّد ذلك بالأدلة، فقال أحدُ الطلاب: يا شيخ، بعض الصحابة كان ينهى عن ذلك! فالتفت إليه الشيخ وقد احمَرَّ وجهُه وقال: "هل قول الصحابي يُضاد به الكتاب والسنة؟!". [22]
وفي درسٍ آخر قال أحدُ الطلبة للشيخ في حديث: إن أبي وأباك في النار: إن الرسول ﷺ إنما قال ذلك للرجل لتطييب نفسه لا غير! فالتفت الشيخ مُغضبًا وقال: "يُطَيِّب نفسَه بعذاب أبيه؟!". [23]
وفي درسٍ ثالث قرر - رحمه الله - حرمة التصوير، وساق الأدلة على هذا، واستفاض في بيان ذلك الحكم مُفَنِّدًا كل شبهةٍ تُعارض الأدلة، فلما انتهى من تقرير ذلك قال أحد الطلبة: هذه صورك تخرج في التلفاز والجرائد، نراها كل يوم! فرد عليه الشيخ قائلًا: "اتبع الأدلة واترك فعل ابن باز، هل أنا معصوم؟! عليك بالأدلة، خذها واعمل بها، ولا تنظر إلى أفعالي وأفعال الرجال، وأنا لستُ راضيًا عنها [يعني صوره]". [24]
هكذا كان الشيخ - رحمه الله - حليم يعفو في غير معصية الله، فما انتقم لنفسه، ولا أساء لأحدٍ في يومٍ من الأيام، يزينه الحلم، ويُجَمّله الصفح والعفو، فرحمه الله رحمةً واسعةً، وألحقنا به على خيرٍ.
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (87،86).
- ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (220-222).
- ينظر: ابن باز في الدلم قاضيا ومعلما، لعبدالعزيز البراك (33).
- ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (86).
- الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (49-51).
- ينظر: سيرة وحياة ابن باز، لإبراهيم الحازمي (299،298/1).
- ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، لعبدالعزيز القاسم (178،177).
- ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (130،129).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (165)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن بن يوسف الرحمة (177،176).
- عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (107).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (72،71).
- ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (740-742).
- ابن باز في الدلم قاضيا ومعلما، لعبدالعزيز البراك (33)، وعبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (92،91).
- عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (157-165).
- ينظر: سيرة وحياة ابن باز، لإبراهيم الحازمي (296/1).
- ينظر: سيرة وحياة ابن باز، لإبراهيم الحازمي (295/1).
- ينظر: إمام العصر، لناصر الزهراني (104،103).
- مجموع فتاوى ابن باز (365/26).
- ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (207).
- موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (35/1).
- جريدة الجزيرة، عدد (9730).
- ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (219-220).
- ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (320-321).
- ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (220).